هكذا تكلم العبد (4)

هكذا تكلم العبد (4)

لحسن أوزين

     جميع أفرد الأسرة والعائلة والقبيلة، ومن يعرفني من قريب، أو من بعيد، يعرفون انشغالي العميق بالظاهرة التاريخية: العبودية. ويعرفون إصرار العنيد على أن سر هذه الاهتمام والانشغال، مرتبط بشكل خاص بسر استمرارها. لذلك غالبا ما كنت أدقق في المصطلحات، وأبالغ، ربما كما يقولون في حضوري وغيابي، في اعتبار العبودية قضية تاريخية وليست ظاهرة، معللا ذلك على أن موتها ونهايتها وتخلص المجتمعات منها، مرتبط بتغيير المنظومة الاجتماعية الثقافية ككل. لأن من تربة البنيات الاجتماعية والثقافية تستمد حضورها الخافت والصريح. حسب السياقات والظروف التاريخية الاجتماعية.

وكثيرا ما تحزنني نظرتهم الضيقة، التي تنظر الى هذا التحرش العنصري الذي نتعرض، في موقف مختلف مواقف الحياة اليومية، بصورة باردة، أو ساخنة جهنمية، بحقنا الإنساني في المكانة والقيمة الاجتماعية. الرجل الأبيض أم الرجل الأسود، كالرجل الذي لا يقبل أن تكون المرأة أحسن منه مكانة ومنصبا وكفاءة…، يكاد يجن ويفقد حسه الأخلاقي في الحوار الهادئ والتفكير المنطقي والعقلاني. فإذا كانت المرأة في نظرته الثقافية الاجتماعية ذكورية بطريركية، الى حد عدم تقبل تميز وتفوق المرأة. فالشيء نفسه نعانيه من خلال لغة اللسان اللاذع القذر، أو انطلاقا من العيون التي ترسل شواظا من نار قاتلة.

هكذا ترى عزيزي القارئ على أن الظلم منظومة اجتماعية شاملة، وليس حالات فردية، في هذه القرية أو تلك. في هذه المدينة دون غيرها من المدن. الوصم السيء واحد، تنضحه منه العنصرية والاحتقار مهما اختلت المصطلحات العربية والأمازيغية: عزي، لوين، حرطاني…

لهذا أعتقد بعد هذا البحث المضني، والآلام الدفينة، على أن الأمر مرعب ويتجاوز الوصف الفقير القاصر عن رؤية المنظومة الاجتماعية السياسية، والاقتصادية والثقافية كلها. وهذا ما يفسر لماذا اليوم في العالم الرأسمالي النيليبرالي العنصرية/العبودية أخذت أبعادا واضحة وملتبسة. ولم تعد قاصرة على اللون والعرق والدين…

وعندما أضيق ذرعا بهذه الجدالات، أقصد واحة النخيل، بظلالها الممتعة الساحرة، ومنظرها الخلاب. لعلني أسترد ذلك الصحو والصفاء النفسي والذهني. في هذا البحث عن صفاء الوجود وانعتاق النفس، وتحرر العقل، ويقظة الحواس، أعود الى نفسي كائنا غير الذي خرج منها قبل الارتماء في محرقة البحث عن الجذور العطنة للقهر التمييزي العنصري. يفرحني هذا التغير باستمرار، أدع الخريف يسقط بعض القناعات والرؤى، والأفكار النمطية الجاهزة، والانفعالات الهائجة والمجانية. ويصير قلبي نابضا بالفرح للولادة من جديد.

وكان من فضل هذه التجربة أن أدركت سموم التفكير والعقلية الهووية، التي تخنق نفسها في الكهوف المظلمة. عاجزة عن إدراك ومعرفة العمق الحقيقي للهوية الإنسانية، التي لا تورث ولا تعطى، بل تبنى باستمرار مع الآخرين.

غالبا ما يفاجئني جدي في خلوتي وعزلتي بين أشجار النخيل. فهو العاشق الممسوس بسحر وجمال الطبيعة، وروائح الأرض التي يقول عنها : إنها تحس بأهلها.

ها هو قادم إلي، كالعادة لا يمل من مناقشتي. وأنا أيضا أسعد كثيرا بوجوده، و بذاكرته التاريخية المثقلة بمحن الماضي الأليم. بئر حكاياته لا ينضب، كل الوقائع موشومة بالحديد الحارق في الدماغ والذاكرة. وكل الحرائق المرعبة تسكن القلب، لأنهم تعودوا أن يتوارثوا أبا عن جد تاريخهم القهري والمطموس. أن يدونوه بين القلب ونبضه، وداخل الشجيرات العصبية للدماغ.

لم يكن بودي يا حفيدي أن أبدأ معك هذا الحديث، أو الموال المؤلم الملعون، الذي حملنا عبأه الثقيل طيلة قرون في تاريخ قهر الانسان، لولا إلحاحك الذي عكر صفو حياتي العادية في هذه الواحة الهادئة العزلاء. نأكل مما تنبت أرضها وما تثمره أشجارها، ونحن نستعين على غوائل الزمان بما ننتجه من حرفتي الحدادة والخزف التي كتب الله لنا فيها لقمة العيش. لا تشغل بالك أكثر من اللازم ولا تسأل عن أمور قد تفقدك صواب الايمان والعقل، فاحرص على آخرتك أكثر من دنياك وواصل حفظ كتاب الله. ولا تفارق زاوية الحاج عمرو ففيها الخير والبركة. والغني من استغنى عن حب العاجلة، وجعل كتاب الله في جوف قلبه، محجة بيضاء تحميه من ظلمة الجهل والكفر. واذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت وحين، دون كلل ولا ملل. وعبوديتنا أمر قضى بها سبحانه وتعالى ولا مغير لقدر الله (قدر الله وما شاء فعل ) ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).. فلم كل هذا الجحود والعناد والسؤال المحموم وأنت تلقي بنفسك الى التهلكة والى معصية الله؟

ولتعلم أن العبيد مراتب فقد حكى جدي عن جده أنه رآهم في أوضاع متباينة بين الفقر الشديد والرخاء و النعيم، وما بين ذلك كثيرون. فأنا نفسي وجدتهم بالمئات والعشرات لدى السلطة في الجيش جنودا وخدما، وفي بيوتات أعوان السلطة والقواد الكبار، وعند علية القوم من الأغنياء. وجدتهم ضعفاء مضطهدين وغلاظ شداد تحمر عيونهم اليقظة باستمرار، وهي تحمي السيد، الذي يعيش كالأمير، من كل مكروه أو غدر أو خيانة. كل حركة أو سكنة في البيوت يعلمون بها قبل حدوثها فهم لا يكفون عن استراق السمع وراء الأبواب والجدران.

فقد حكى جدي عن جده ذات مساء مرهق قاتل بحرارته الحارقة، بعد يوم عمل شاق في حقول الحصاد.

(في ذلك الزمن البعيد الذي أجهل تاريخه، وجدت نفسي ذات صباح أساق مكرها دون أن أقوى على الكلام، وأنا طفل صغير تجاوزت عقدي الأول بقليل، الى بيت إليغ قرب تيزنيت. حين رفعت رأسي، وأنا على وشك مغادرة دار سيدي، رفقة عبيد آخرين متفاوتي الأعمار، رأيت دموعا غزيرة جارفة كالسيل من عل في عيني أمي، كانت دموعها ترتد بصورة مرعبة نحو الداخل. ما أبشع حياة العبد وهو لا يملك حق البكاء، ناهيك عن الكلام. وبعد رحلة طويلة على الأقدام وصلنا بيت الحسين بن هاشم في اليوم الرابع متعبين يعذبنا ألم الطريق في الأقدام الحافية، يسري في كامل الجسد بشكل مرعب، مع تحالف رهيب بينه وبين البطون الجائعة التي ضاعفت من قوة الألم والعذابات التي تستعصي على التعبير. لكن صدمة فخامة البيت المملوء بالحشم والخدم، وعدد لا يعد ولا يحصى من العبيد، أجلت أوجاع الجسد وآلامه. وفعل فعله منظر الطعام الشهي اللذيذ، الكثير الزائد عن الحاجة، وهو يحمل في الصحون الساحرة لكل ضيف جديد من علية الناس، وما تبقى من فضلات الخير للعبيد، عندها أدركت أن ذلك الصراط من العذاب الأليم الذي عبرناه طوال الطريق، كان ثمنا لدخول الجنة. هناك عرفت العجب العجاب. حياة سيد كالأمير جمع ثروة هائلة فسحت له الطريق نحو القوة والغصب فاستحوذ على الأرض بمن وما فيها بالمال والمكر والإكراه. وحين فكر أن يحيط البيت بالمزيد من العبيد كنت من بين الدفعة الأولى التي وصلت بيت إليغ. ومع الأيام والشهور تحول البيت الى بلاط كبير فيه أنواع كثيرة من العبيد الجنود والخدم والرقباء والمزارعين والجواري…

عدد يعد بالمئات، وتختلف فيه الوظائف والمهمات والأعمال. في هذا البيت المهيب بسطوة سيده ترعرعت كشاب قوي صلب متين، وعملي كان موزعا بين خدم البيوت حينا، وفي الحقول القريبة حينا آخر، حسب مزاج الرقباء وهم بالمناسبة من العبيد. ولما تجاوزت عقدي الثاني بقليل ضمني الرقيب “مبارك” الى الجيش الى أن صرت يوما مع السنوات من بين مثقوفي المشافر. أحمل حلقة من فضة هدية من الشيخ الجليل، تعبيرا عن رضاه علينا حفظه الله من كل مكروه. ولم يكن هناك أي شك أو ريبة في علاقتنا بالسيد. هو سيدنا لا شك في ذلك، ونحن ملك يديه لا نبغي غير رضاه، وندعو له كل يوم، بل كل لحظة بطول العمر والصحة والعافية. على الأقل لم أكن أرى الكثير من الشر في عيونه نحونا، فقد أحسن إلينا وعشنا في كنفه وتحت جناحه آمنين مطمئنين. ليس كتلك السنوات الملعونة عند سيدي السابق وأنا أراه مرارا وتكرار يعبث بأمي ويستبيحها متى وأنى شاء، والغريب في الأمر كان يحافظ على الصلوات في أوقاتها.

بعد كل هذا العمر وسنوات خدمة السادة لا أستطيع نسيان تلك السنوات الرائعة وأنا في بيت الحسين بن هاشم. كان ذلك فوزا عظيما من الله وقدرا لا يرد. لقد عشت عمرا في النعيم، لكن للأسف دوام الحال من المحال، كما قال سيدي محمد بن عبد الوهاب المراكشي العالم الكبير، وهو يتجاذب أطراف الحديث مع أحد فقهاء البلدة سيدي مصطفى بن ميمون الفاسي. وأنا في ركن البيت أخدمهما وأستجيب لطلباتهما بإشارة من سيدي المختار بن نوح.

– قال ابن خلدون في مقدمته الدول وأحوال الأمم أعمار، تولد ثم تكبر وبعد ذلك تشيخ فتسير نحو حتفها المحتوم المعلوم. نحن الآن في نهاية جيل وعلى مقربة من خاتمة القرن التاسع عشر، فالترف والرخاء الذي رأيناه هو أول علامات السقوط والانهيار. اللهم أبعد عنا الشرور والبدع ولا تجعلنا من أهل الأهواء وأحسن خاتمتنا واجعلنا من المؤمنين الصالحين الشاكرين.

– لا أظن صاحبك ابن خلدون سوى رجل مصطنع يسعى نحو الجاه والملك والشرف. ولما تأكد له فشل كل دسائسه اعتكف بقلعة ابن سلامة وشرع يهذي ويخرف، وانتهى به الامر عبدا خادما عند تيمور لنك قبح الله سعيه.

لم يكلف الفقيه سيدي محمد بن عبد الوهاب المراكشي نفسه مشقة الرد عليه، ولا النظر إليه، فاعتذر بأدب طالبا الماء للوضوء. وبسرعة كبيرة قمت بخدمة سيدي العالم الجليل. وفي داخلي فرح كبير وانشراح عظيم في النفس ما عشت مثله منذ ذلك اليوم. وفي الليل كررت عشرات المرات على مسمعي ما سمعته من سيدي محمد بن عبد الوهاب المراكشي، دون أن أفلح في فهم المعنى. فقلت ربما هذه هي عادة الفقهاء كثيرا ما ينشغلون بكلام الألغاز الخفية التي لا يدرك أسرارها سوى المتبحر مثلهم في كلام الله.

فكلما رأيت الشرف العظيم والجاه الرفيع والقوة الرهيبة التي تحيط بسيدي الحسين بن هاشم أينما ذهب وارتحل، رفقة حاشيته من الرقباء العبيد، وحجابه المؤتمنين على سره، وهذا الغنى الى حد الترف الكبير إلا وتذكرت كلام العالم الجليل سيدي محمد بن عبد الوهاب ” الرخاء والترف هو أول علامات السقوط”. وسرعان ما أشرد بعيدا أتأمل في نفسي، وفي الحال الذي أنا فيه في بحبوحة العيش وطمأنينة النفس وراحة البال، ونبع الرزق المتدفق الكثير الذي يملكه الحسين بن هاشم، فأقول في تجاويف القلب: ما الذي جعل عالما كبيرا كسيدي محمد بن عبد الوهاب تنطلي عليه هذيانات هذا الرجل الغريب المسمى بابن خلدون؟

وما كادت سنوات تمضي على كلام الشيخ والعالم الجليل حتى بدأ الوضع يسوء في دار إليغ شيئا فشيئا الى درجة تم الاستغناء عن الكثير من العبيد الذين انتشروا في الأرض، بحثا عن لقمة العيش، عند أسياد آخرين في الزراعة ، أو خداما في بيوتات علية الناس في المدن. والكثير منهم هاجر الى بلاد الكفر والنصارى. وكان هذا المصاب الجلل من تبدل أحوال الناس من الأسباب التي جعلتني أغادر المنطقة صحبة تاجر اشتراني، و وعدني بالعمل عنده في مراكش.

هكذا صار عندي اسم هذا الرجل المعروف بابن خلدون لغزا محيرا وما استطعت إليه سبيلا. قلت في نفسي ربما هو ساحر كبير يستعين بالجن لمعرفة الغيب، وإلا ما الذي هداه لمعرفة وقائع الأمور وتبدلات الحياة والزمان وتغير أحوال الناس قبل حدوثها بقرون؟ ومرات كثيرة حسمت الأمر فقلت ربما هو عراف تخدمه الشياطن والجان، أو يعرف قراءة أسرار النجوم والأفلاك، وما يعتمل من خفايا في السماء.

وأخبرك أيضا بأمر جليل هو أننا نحن العبيد لم نكن عالة على السيد، وكنا يدا قوية في السلم والحرب، وكان لنا شأن محترم عنده، وعينا آمنة نحفظ السر، ونخوض غمار الحرب كالأسود بشراسة في وجه الأعداء، ونقضي على الدسائس، وخراب أهل الأهواء الذين يبغون في الأرض عوجا، فكان لنا فضل في جهاد الكفار بأمر من السلطان الى ساداتنا، فكانت لنا بطولات يحكيها الكبار للصغار عند كل منام.

وبعد كل هذا العمر كلما تذكرت السادة الذين خدمتهم إلا وشعرت بنوع من الحزن الحالك على فقدانهم. كانوا لنا سادة وكنا لهم عبيدا، تلك مشيئة الله في خلقه فقد جعل الناس منازل يولد فيها الانسان ويموت وهكذا هي العاجلة ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).)

كانت تقاسيم وجه جدي، وهو يعيد علي حكاية جده الموغلة في الزمن، في حالة حزن رهيب. لا أعرف لماذا تلبسه هذا الحزن النبيل، حتى صار جدي شفافا، أو شبه لي ذلك. أستطيع أن أؤكد وأنا واثق من قدراتي العقلية أنه شف، حتى رأيت عمقه المؤلم الحزين. تبين لي أنه كان يحمل وجعا وفواجع وفظاعات ثقيلة على القلب والدماغ.

حقيقة في هذه اللحظة من الصفاء والحزن والألم الروحي، والعشرات من الحواس والعواطف، المتشابكة والمتناقضة بشكل مرعب مخيف للعقل، والفهم والتأويل. خفت على صحة جدي، أو أن يناله أي مكروه من خفايا الماضي المندسة بين تضاريس أدغال ذاكرته المفجوعة.

دخلت قبو الصمت تاركا له كل الممرات للانسحاب، أو الاسترخاء. عندما رأيته يتحرك ببطء مكسور، شعرت بنوع من الألم في داخلي، كما لو أن شخصا شرسا متوحشا، ينزل بعنف سادي براميله المتفجرة القاتلة داخل أحشائي، فيمزقني أشلاء بين أشجار النخيل، التي لم يقو جمالها وسحرها الشاهق على رد الأذى والقهر الثاوي في قاع النفس.

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي