هكذا تكلم العبد (5)

هكذا تكلم العبد (5)

لحسن أوزين

     رأسي يكاد ينفجر، أصوات احتجاجات مرعبة، آتية من بعيد. كلما وضعت الكتب جانبا إلا ووجدت نفسي غارقا في سماوات حارقة. هل كنت ضحية تهيؤات مرضية، أو وساوس تكرارية قهرية ولدتها عذابات المحنة التي ورطني فيها قدري المنحوس؟ قد يكون شيء من ذلك صحيح، وربما إصراري على محاولة تمثيل الوقائع المبثوثة في الكتب القديمة، هو الذي جعلني كذلك. لكن ما أستطيع أن أقوله، وأنا واثق من صحة ما أقول: إن الحاضر وآلامه ومعاناته الناتجة عن الوصم السيء الذي رافقني منذ الطفولة البريئة، هو الذي جعلني كذلك. كما أن رعب الخوف من تحريف الحقائق، زاد من قلقي، واضطراباتي النفسية. ربما حدث كل هذا بسبب استعصاء التعبير عن المآسي والآلام الدفينة التي عانى من ويلاتها أجدادي الرجال منهم والإماء أيضا.

   أصوات نسائية تقترب بحدة وعنف، تفرض نفسها على ذاكرتي الذهنية والبصرية. تحاصرني بمودة لا تخلو من نقد عنيف، في وجه كتابة عمياء لم تتمكن من النفاد عميقا في مستنقع العبودية الأبوية، بنزعتها الذكورية. كما تقول إحداهن بشكل صريح ومباشر، دون استعارات ولا ايحاءات. ولا تخفي تلصصها على شكي في القدرة على النزال لكشف المستور، ووضع الجميع أمام الفضيحة التاريخية المدونة في أمهات الكتب والمصادر، وأمام العار والعفن البشري الذي كانوا يستحمون داخله باسم الشوكة والغلبة والجاه.

   ما أجملك أيها العبد اللئيم حين فجرت المكبوت وانتهكت المحظور، وفتحت كوة في صمت الذاكرة الذي تطاول في الزمن على مر القرون حتى اعتقد الكثير من أهل الجهل والجهالة أن الناس سواسية كأسنان المشط، كما روج لذلك البهتان في مخطوطاته أحد فقهاء العبيد الخصيان الذين كان يشرف على تكوينهم وتدريبهم آداب و مهارات خدمة بيوتات علية القوم، بطلب من أحد التجار الذي جعل من ذلك بضاعة نافقة تعود عليه بالمال الوفير، والخير الكثير، والسمعة الطيبة الرائجة لمن يريد التزود من أهل الدولة، أو من خاصة الناس من أهل الثروة والشرف والجاه، بالعبيد من ذوي الخبرة والمهارة والإتقان. لقد تحسبت لأمر هام أيها العبد اللئيم أن تمر مرور الكرام على ما عشناه نحن الإماء، سواء الخليلات اللواتي كن يخضعن لتكوين رفيع في هذا الباب من التسلية والتسرية والغناء والموسيقى، ولذة ما تحت الحزام، أو الطباخات الماهرات في الطهي اللواتي يعسر الحصول عليهن جميعا في الأسواق، إلا بتوصية أهل الاختصاص في تجارة الإماء من هذا النوع النادر الرفيع. لقد كنا نحن الخليلات بضاعة غالية الثمن قل نظيرها في ما يتداوله الناس من تجارة العبيد والإماء. لذلك كنا نعمر بيوت الجاه والبلاط والشرف الرفيع، وقد كانت الطرائف الجميلة منا مطلوبة بإلحاح من لدن رجال السلطة والدولة والتجار الكبار. فلا قيمة لبيت، من أهل الزمان والمال والملك، تخلوه فاتنة حبشية أو من الرقيق الأبيض. ولا أفشي سرا إن قلت لك أيها العبد اللئيم أن الخليلات مثلي كان يضرب لهن ألف حساب وحساب. لم نكن نلج إلا أبواب الترف الفاحش، ونحاط بأسوار من السرية في قمة العيش الرغيد ملبسا ومأكلا ومشربا ومقاما رفيعا. كنا ندرك هذه المكانة ونتحايل على القلوب لنتحكم في العقول. لأننا كنا نعرف بالخبرة و المشاهدة والمعايشة مصير الخليلة التي تتقدم في العمر، أو تخونها صحتها ويذبل صوتها الغنائي الجذاب وجمالها الساحر الأخاذ.

   وكثيرا ما كنا نسمع عن العذابات المؤلمة التي كانت تعيشها ليل نهار الإماء في البيوت المتوسطة الحال، خاصة في القرى والجبال. حيث يستعملن لكل الأعمال في البيت وخارجه، بما في ذلك لاغتصاب المتعة العابرة والإعارة والبيع والشراء. كنا نشفق لحالهن أحيانا ولا نبالي غالبا بما يرزحن تحت وطأته من قهر وأعمال شاقة الى درجة الموت أو الانهيار. وكم تكون الواحدة منهن سعيدة تكاد تطير من الفرح كلما قدمت كهدية للأقوياء تزلفا وتقربا من أهل الشرف والمال والجاه، ونادرا ما يحدث هذا إلا إذا لاحظ سيدها ما تتفرد به من مهارات في الطبخ البارع، أو في صناعة الحلاوي.

   أنت تعرف أيها الملعون أن الواحدة منا من أهل الدربة والمعرفة والتسرية والغناء تباع عشرات المرات الى أن يستقر بها المقام عند أحد القواد الكبار، أو في البلاط. نباع أحيانا في السر كالحلي الثمين، وفي غالب الأحيان يبحث عنا التجار كاللؤلؤ والمرجان الذي لا يكون إلا من نصيب السادة العظماء، الشرفاء من ذوي السلطة والمال.

   لا أخفيك أني رأيت وعشت في هذه البيوتات الغارقة في البذخ والثراء والترف الفاحش، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. من المأكل والمشرب، والغناء والخمر، والفقه والفحش، والصلاة و النساء باسم شرع الحلال في نكاح ما ملكت الأيدي، وتبديد الثروات، ودس السم في العسل، والقتل والغدر في آخر الليل قبيل طلوع الفجر. وتحكم الجواري الحسان بالأمر والنهي على مرأى من سادة السطو والقهر والنهب. وكم من روح أزهقت ظلما وزورا من وراء كؤوس الخمر، وبين الرقص والغناء واللمس تطير الأرواح، وتقرر مصائر العباد. وفي كل مكان من البيت الكبير تجد عبيدا رجالا لكل واحد منهم مهاما محددة لا يزيغه عنها باله وإلا كان من أهل القبور. وفي البساتين المحيطة بالبيوتات الثرية عشرات من العبيد لكل واحد منهم عمل يضنيه، وقهر يدنيه من قبر يأويه. والحق يقال إن بعض العبيد أخذوا نصيبهم من العلم والذكر الحكيم، خاصة من كان صاحب فطنة وعقل ذكي، ومن فتح الله صدره ووسع مداركه، و بذلك نال الحظوة، وتخلص من عبء القهر والعبودية في بشاعتها القصوى.

   إلا أنني شعرت بألم حاد وأنا في قافلة السيد في اتجاه جبل ريحانة هروبا من حر الصيف القاتل. رأيت عددا كبيرا من العبيد في حقول ساكنة البلدة، شبه عراة حفاة والعرق يتصبب من أجسادهم النحيلة، الفاضحة لسوء التغذية. وحمدت الله على وجودي ضمن السراري أتمتع بأشياء كثيرة  في المأكل والملبس والمقام، حتى وإن كان دوام الحال من المحال.

     على أي ليلنا لا يزال طويلا، وأمامي بعض الأعمال التي لا تقبل المزاح والتأجيل. ومادام الفجر بعيدا فلن أسكت من حين لآخر عن الكلام المباح وغير المباح.

   الأمر الغريب أيها العبد اللطيف أننا كنا في نظر أسيادنا بدون شرف، وبالتالي لا قيمة لهذه المكانة  الاعتبارية التي نتمتع فيها بامتيازات كثيرة، بالمقارنة مع باقي الإماء والجواري، الأقل حظا في الجمال والمهارة والعلم. وكثيرا ما كنت أتساءل عما يجعل سيدي في الوقت نفسه تقيا في الصلوات، وراكبا هواه خليعا في التمتع بما ملكت يداه من الإماء والجواري. وفي نظرة الناس أيضا عادي جدا وطبيعي أن نصلح للمتعة والعمل الشقاء، أو ولودا تنجب عبيدا للسوق. ظل السؤال المرعب يؤرقني سنوات طوال، الى أن انضافت الى مجموعتنا جارية ذكية، من أصفهان، حباها الله بعلم غزير. فقد كانت من أسرة ضالعة في العلم، ولها باع طويل في المعرفة. لكن حياة الصراعات و الحروب والاقتتال، حولتها الى مجرد جارية في السوق. كانت لها معرفة جيدة بالفقه وعلوم الدين. فكنت أتعبها بالكثير من الأسئلة التي تشغلني، من بينها على وجه الخصوص، كيف يمكن لفتاة مسلمة مثلك أن تتحول بسبب السبي الى جارية، للمتعة والبيع والشراء؟ ونحن الإماء ألسنا من البشر كباقي الناس؟ وهل المطلوب من السيد أن يغتسل فقط كلما تمتع بما ملكت يداه، ويدخل في الصلاة مباشرة، في علاقة مع ربه؟ ولم الزنا محصور فقط بين رجل حر وامرأة حرة؟ ولماذا حرم الله القمار والخمر والسرقة، وأباح امتلاك العبيد، كالأشياء الرخيصة، ويقدمون أحيانا كهدايا في خدمة السادة، و حرائرهم؟ ولماذا لا نصوم أو نصلي إلا بإذن من السيد؟

   كنت أرهقها بهذه الأسئلة وغيرها، فكانت كلما أتت على جواب، إلا وخرج منه سؤال أكبر من الأول. وهكذا كنا نقضي أغلب أوقاتنا حين تتاح لنا فرص اللقاء. لم تكن تشمئز أو تنفر من أسئلتي، بل كثيرا ما تبتسم. وأحيانا تروقها بعض الأسئلة فكانت تضحك. إلا أنني كنت أستغرب ضحكها وأنا أطرح عليها الآلام التي تعذبني.. آلام لا أفهمها، وعسر عليها منحها معنى يجعلها واضحة ومقبولة ومعقولة. هذا ما كنت أقوله لها عندما تفاجئني بضحكها. والحق يقال لم تكن تغضب مني إطلاقا، فقد كانت تسرف في الحديث بكرم وسخاء كبير، وهي تختم كلامها ” هذا دين نقله الرجال عن الرجال، فأظهروا بعضه وأخفوا بعضه”. كما كانت تردد ” نحن بين يدي السادة كآل ياسر بين أيدي المشركين، فصبرا جميلا.

   فشكرا لك أيها العبد اللطيف، رغم أنك تنفر من هذا الوصم السيء، فأنا فقط أمازحك لأخفف من عبء المعنى القذر الرابض فوق قلبك. شكرا لك على رحابة صدرك، ورجاحة عقلك، وجمال ضيافتك أن منحتني صوتا منعه السوط عني ظلما وقهرا.

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي