المرأة التي رأت عري الفقيه

المرأة التي رأت عري الفقيه

لحسن أوزين

        ضربت نجوى بكلتا يديها الأرض عشرات المرات، ثم مسحت وجهها بالتراب، كما لو كانت تتطهر تيمما  من دنس ما يعتمل في دواخلها المعروفة والمجهولة، كانت تخرج نفسا عميقا كأسياخ النار الحارقة.  وكانت تردد بألم عميق “الكلب الغدار الفقيه قادم الى القرية، الغراب الأجرب المنحوس عاد لقلب المواجع وتفجير الفواجع لعنة الله عليه” .

 هل كانت تشتعل  من الداخل أم أن ألغاما منسية في هوامش الذاكرة البعيدة كانت تنفجر بعنف كاتم الصوت، فتنتفخ أوداجها بعذاب مروع رهيب لا يحدسه بالحواس السبع إلا المقهور الذي تشرب المهانة والفقر والجوع وهدر الكيان والكينونة مع حليب الطفولة المغتصبة؟ هل كانت أحشاؤها تحترق أم أن بركانا في جوفها على وشك الانفجار؟

تعود الناس أن يروها غاضبة حانقة، تتوعد وتهدد بكل وضوح على أخذ حقها بيدها مهما كلفها الامر ذلك. وقد جرت العادة أيضا أن تمارس الشتم والسباب بكل ما تملك من قوة في الصراخ العنيف الممزوج بالعنف اللفظي البذيء الذي لا يترك كلاما ساخرا جارحا ساقطا ذاعرا إلا واستعملته دون حياء ولا خجل، ودون اعتبارات أخلاقية في عيش النفاق الأخلاقي الاجتماعي. كانت واضحة بما فيه الكفاية، لكنها كانت غامضة في أسباب هذا الوضوح ذي الجذور السرية الزائدة عن اللزوم، كما لو أنها تسابق زمن الاحداث والوقائع وتكشف أو تتعرف المستور في عالم الغيب. لم تكن ساحرة ولا مشعوذة، ولا كانت عرافة أو ولية صالحة تدعي اللطف والبركة.

لكنها كانت (والعهدة على الساردة، وهي تهمس في أذني احفظي يأ أختي نبيلة السر) تضلل الناس لغرض في نفس يعقوب حين كانت تدعي أنها كانت تزور هذه العرافة أو تلك، أو تتعرف ذلك من الزيارات الخاطفة للبومة المشؤومة، أو لهذا الطائر أو لصدفة المرور لحيوان أعضب. تُوهمهم بالمصادر المغلوطة لما تلتقطه من أخبار أو وقائع قادمة مع الأيام لا مفر من قدرها المحتوم.

هذا الجانب المجهول من أسرارها ما كان ليعرف النزر القليل منه لولا ابنتها فردوس التي لم تكن تفارقها كالظل، وكانت أمها تثق فيها كثيرا. ففي إحدى الليالي المرعبة التي عاشتها الساردة بعد مقتل عبد الكريم، كانت فردوس تعتني بالساردة التي ساءت صحتها فجأة الى درجة خافت عليها نساء القرية وبأمر من نجوى التي طلبت من ابنتها ألا تغادر غرفة الساردة حتى وقت الفجر، وأن تتحلى بالصحو وباليقظة الكاملة في الاعتناء بخالتها. في تلك الليلة المفعمة بالأحزان والخوف من المجهول، غرقت الساردة في هذيان محموم ممزوج بالبكاء الصامت الشديد الحشرجة الباعثة على الاختناق. لكن في لحظة فجائية بعد منتصف الليل بوقت غير قصير استعادت الساردة وعيها الكامل، كما لو كانت تعيش لحظة صحو المحتضر، فتوجهت بالسؤال للفتاة عن أمها. لكن فردوس وجدت نفسها محرجة في تقديم الإجابة الصحيحة، فخاضت في الحديث بنوع من اللغو القريب من اللف والدوران، لم تستطع فيه الفتاة إخفاء تعثرها المكشوف أمام امرأة تملك من محن تجارب حياة المزبلة في القرية الذي يتوسطه الشعار الوطني الكبير، الشيء الذي انتبهت له الساردة، لذلك تحايلت على الفتاة بلغة دفء الأمومة، وبفضول نسوي موروث بقهر الذكورة أبا عن جد. عرفت الساردة أن نجوى  تمر في أغلب الليالي بامتحان عسير بين نومها ويقظتها من منتصف الليل إلى أن يحين وقت الفجر، خاصة في الليالي التي يكتمل فيها القمر. كانت تصاب بنوع من الصرع متقلبة من حمى باردة جدا الى درجة يهتز بعنف جسدها، ويتزلزل ثم ترتعش، بصوت منهك يفطر القلب، كالديك المذبوح،  وبسرعة تنتقل الى حالة ساخنة تتعرق فيها الى حد تبلل كل ثيابها الداخلية. ومع أول خيوط الفجر، والهدوء المطلق يغلف القرية، كمنطقة معزولة ومجهولة في العالم، وبالضبط قبل أن يعم الضياء الكون تخبر ابنتها  بكل ما رأت.

علا صراخ نجوى  في وقت الأصيل ، والشمس كانت تسند خدها على الربوة معلنة نهاية يوم من عذابات لعنة القرية المنحوسة. وسرعان ما تحلقت النساء حولها وعيونهن تصرح  بالعشرات من الأسئلة التي جعلت هذه المرأة القوية، التي لم تنحن كما لم تنكسر كأن الزمان واجه مقاومة صلبة دون أن يستطيع التكلم في جسد هذه المرأة التي تجاوزت عقدها الثامن. صحيح أنها فقدت الكثير من وزنها، وصارت خفيفة، لكنها كانت تصرخ بقوة ووجها معفر بالتراب. وتوالت الأسئلة بين النساء بالهمس الملتبس حينا، وبجرأة في الوضوح حينا آخر. لماذا كانت تلعن فقيه القرية بالضبط؟ وما الذي أيقظ في نفسها هذا الوجه الملعون الذي ترك فتاة في مقتبل العمر وبكامل أنوثتها وجمالها الساحر الأخاذ تذبل يوما عن يوما وهي تصدق حكاية مجنون الحب، الثعلب المحتال؟

وإذا كانت هذه الأسئلة وغيرها قد قيلت جهرا من قبل الجميع، فإن الكثير من الأسئلة ظلت مكتومة في أعماق النساء خوفا من عدم قراءة اللحظة الموجعة، وتقدير التصرف المناسب، تحسبا لأية شظايا يمكن أن تصيب من تتهور منهن في الاقتراب من عوالم نجوى، خاصة في هذه اللحظة العنيفة التي لا تبشر بالخير.

لا أعرف خالتي الساردة لماذا سمحت لهذا الغراب المنحوس، الفقيه بالتجرؤ علينا بهذا الشكل الوقح، وقد منحتيه ما يكفي من فسحة الكلام في المتن والمبنى وزدت في تهميشنا تهميشا. وأنت تفسحين له مجالا كبيرا في نبش الذاكرة أو الأصح تزييف الذاكرة ومسح الكثير من العلامات والعلاقات والترابطات العميقة في صون العهد وقول الحق بين أهل القرية؟  ها أنت ترين هذا الفقيه الورع المغرور المعجب بنفسه والمتصنع للاحترام والأخلاق الكاذبة يخدش عرضي أمام الجميع ويجعل من ” شيئي” أمرا مرعبا ملغزا  وهو الذاهب لتقديم درس في العفة والوقار والشرف الرفيع . ألم يكن يعلم أن شيئي مجرد عضو كسائر الأعضاء ، ودون أن يدرك ابن الكلب أن الموقف جد عادي في تقاليدنا وثقافتنا الغارقة في القدم، وهي تعتبر ذلك أقصى درجات الحط من قيمة الخصم وتبخيس وجوده. لم يكن يعرف أن العري الذي نعيش فيه أبشع من موقف امرأة تعري القرية، وتسخر من بشاعة حياة الكهوف الضيقة النتنة، التي جعلت الأطفال يشاهدون قرف الجماع الجنسي المقزز بين الوالدين سواء مباشرة أو من خلال شقوق القصب العازلة للغرف. لماذا تجاهل الفقيه قرين إبليس هذه المناظر المرعبة التي تربى في حضنها قبل أن يخصص له أبوه كهفه الخاص؟ ليس بهدف التفرغ للدراسة وحفظ القرآن، كما ادعى، بل لأن أمه كما صرحت بعظمة لسانها كان قليل التربية والحياء. ولم يكن يجد في ذلك أي حرج، حيث كثيرا ما حذرته من التجسس والتلصص عليهما وهما يسترقان اللذة المحرومة من اشباع المرأة بشكل خاص. وهذا ما كنا نحن نساء الدوار نطيل فيه حديث الممنوع والمحروم من حق الرعشة الجنسية. فقد كانت رغبتنا الجنسية تتآكل مع الشهور والسنوات. لقد مسختنا حياة القرية كما قلت خالتي في سفرك المسطور، ولم تُبق منا غير إنسانيتنا.

ما يؤلمني الآن هو كيف لابن فاطمة أن يتخذ هذا الفقيه الجربوع صديقا له، وهو الشاهد على خيانته العظمى؟ أليس تدمير وجدان امرأة جريمة بشعة كما قالت منال في إحدى اعترافاتها القليلة بالخطأ والذنب على أنها أحبت رجلا لا يشبه قامة الرجال في حفظ العهد وتقدير ملح العيش وحق الطعام؟ وكيف سمح له ضميره الملوث بطيف “شيء” النساء  أن يرتكب هذه الحماقات في التلاعب بالنساء والتباهي بشرب البيرة والناس جوعى يلهثون، وهم يتخاصمون في القرية من أجل حصة ماء لا تكفي لليوم الواحد، كالشاربين شرب الهيم (شْبع الفقيه وانسى أيام الخبز الحافي والبرد في المصارن كيقرقر، الله اخرجنا من دار العيب بلا عيب).

دون حياء ولا خجل سمحت لهذا الجرو بأن يعتلي منبر الكلام وصار ينسج على هواه، وهو يتحسر مفتعلا الخيبة وقدر النحس الذي جعله يسقط في حب لا يرقى الى الأعالي التي تحلق في سماواته السبع ” إلزابيت”. صب جام غضبه وسخطه على القرية الرجس والدنس الملعون الذي لم يقو على إنجاب فتاة في مستوى إلزابيت. مبررا هجومه الوقح على أجمل فتاة حفظت عرضها، وخاضت بصدق ناذر تجربة الحلم والغبار.

 وكانت فرحتي كبيرة وأنا أتحمل كل أعباء الطبخ في أيام عرسها الجميل، رغم سحابة حالكة، لحزن عميق، كانت تمنعها من فرح كبير. ونسي الفقيه، وجه مؤخرة القرد، أن القرية هي التي جعل منه فقيها عالما، وجعلت من صديقه قائدا، أو قوادا، ومن الساردة روائية بلا رواية نسوية.

رواية، سيرة أو شهادة اعتراف وعدالة، طالما انتظرتها نساء القرية، عوض تلك الإشارات اللامعة هنا وهناك إلى عذابات أمهات القرية.

يا خالتي، خيبت ظني، فإذا كان القاضي انتصر لهيبة المحكمة على حساب حقوق الناس، فإنه على الأقل منح الناس حق شكل المحاكمة الصورية، وفرصة القليل من الكلام، في الوقت الذي غيبتنا يا خالتي وأنت تعرفين ما كان يعتمل في أعماق النساء من عذاب أليم، وجعلت الفقيه يشمت فينا مدعيا عدم أصالة  أهل القرية في أن تنجب امرأة في قامة ” إلزابيت” رضي الله عنها. هل من تنكر، بنوع من الاستعلاء المتعجرف، للقرية في طيبوبتها وحرارة دفء أهلها، وفي محنها وآلامها وحالاتها النفسية العميقة قادر حقا على أن يكون عفيفا تقيا…؟ الفقيه الأجرب يا خالتي افترى علينا وجانب الصواب والحقيقة وصح فيه ما قالته نجوى في ذلك المساء الأسود الكئيب (إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَٰالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ).

وللكلام بقايا وشظايا…

Visited 46 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي