رفيقي الذي علمني سحر الكلمات

رفيقي الذي علمني سحر الكلمات

أحمد حبشي  

            في السجن عشت أجمل اللحظات، استعيد بهجتها كلما احتواني دفء الرفقة وصولات الوفاء. حدب رفاق استوت في الذاكرة رحابة ألفتهم وجلال تآزرهم، حيث لا تستقيم الرفقة دون تكثيف الروابط وتدعيم سبل التوافق. رفاقي وما جادت به فورة هبتهم، للحد من صولة الاستعلاء وجور الاستعباد. سمت في المدى ترانيم صرختهم، ما هابوا الردى ولا استسلموا لصولة الجلاد.

  ما أن تجاوزنا رهبة الاعتقال والحد من كل محاولات الإذلال، حتى استوت هبتنا لصد كل التجاوزات الهادفة إلى استصغار دواعي فعلنا، والرفع من إيقاع فورتنا في الدفاع عن اختيارات تقاطعت مشاربها وتآلفت لتحقيق وحدتنا وصلابة ردة فعلنا، فكان أن اهتدينا لسمو وحدة إرادتنا وتآزرنا الباهر. هكذا أصبح لوقع فعلنا الجماعي صدى، واستعدنا قدرة تأثيرنا في تدبير أحوال رفقتنا، نتداول الأيام في تواصل لافت وكبير انسجام. استقام رأينا على أن نواصل الحياة كما لو كأن المكان بكل فظاعته سرابا لا يحد من شساعة الآفاق. كان القرار أن نتدارك بالتآزر كل ما يمكن استعادته أو ضبط مآله. أحطنا بكل ما يتسع المجال لتداركه، فقر عزمنا على أن نتجاوز الاختلافات والتقصير أو ما لم تسعفنا الظروف في استدراكه. تعددت المبادرات وأظهر كل منا ما يمكن أن يكون به مفيدا.

أعلنا الإضراب في بداية شهر أكتوبر 1977، هكذا اكتملت تقديراتنا بأن رفع سقف المواجهة هو الرد المناسب على صفاقة السجان، وإجراءاته الماسة بالكرامة والمبالغة في الإذلال، لم يكتف بحبسنا في زنازن ضيقة على شكل مراحيض، بل قسمنا إلى مجموعات حتى لا نتمكن من التواصل فيما بيننا، ونحن في نفس الحي زنازنا متقابلة لا مسافة بيننا، فضلا عن وجود رفاق آخرين في حي آخر يبعد عن الأول ببعض الأمتار. وضع أصبح يقتضي رفع سقف المواجهة للحد من عنف المعاملة والاذلال. فما أن فتحت الزنازن حتى خرج جميع الرفاق على غير العادة في اتجاه ساحة السجن، حرص الجميع على ارتداء البدلة الخاصة في لونها الموحد، ظل الحارس مشدوها ونحن نتقدم في صمت إلى الخارج، يتقدمنا الرفيق عبد الفتاح الفاكهاني يتحمل مسؤولية الناطق الرسمي باسمنا جميعنا، وقفنا وراءه وهو يقدم الرسالة الموجهة إلى الإدارة تخبرها بانطلاق الإضراب، وتعرض مختلف مطالبنا التي نعتبرها أبسط حقوقنا. تركزت المطالب حول رفع العزلة وفتح الممر الرابط بين الأحياء، وفسح المجال لمن يرغب في مواصلة دراسته أو الالتحاق بإحدى الكليات. قضينا اليوم خارج الزنازن ننتظر رد فعل الإدارة ومستوى تفاعلها مع مطالبنا. فاجأنا صمتها دون أي تدخل عنيف كنا على أتم استعداد لتحمل تبعاته. غير أنها اكتفت بعملية تفتيش الزنازن وتمزيق الأفرشة وبعثرة كل حاجياتنا. بعد أربعة وأربعين يوما من الإضراب نقلنا جميعا إلى المستشفى المحلي بمدينة القنيطرة، حيث تم حل الإضراب بعدما تم الإقرار بحقنا في الاستجابة لمطالبنا. كان الثمن غاليا إذ فقدنا في خضم الإضراب رفيقتنا العزيزة سعيدة المنبهي. بعد قضاء شهر في المستشفى تم توزيعنا على ثلاث مؤسسات سجنية، بكل من القنيطرة وعين علي مومن بناحية سطات، وسجن الشاون بالشمال. واجهنا الإجراء بخوض إضراب لا محدود تحت شعار إعادة المجموعة بكل مكوناتها إلى السجن المركزي بالقنيطرة.

 بعد خمسة عشر يوما من الإضراب فتح باب الحوار من جديد، وتقرر حل الإضراب بعد أن تم التأكيد على جل المطالب وعلى رأسها عودة كل المعتقلين إلى السجن المركزي بالقنيطرة. كانت البداية بتحقيق الحق في مواصلة الدراسة واجتياز الامتحانات في كل مستوياتها. لم يستسغ العديد من الرفاق قرار لجنة الحوار بحل الإضراب دون الرجوع المباشر الفوري لزنازننا بالقنيطرة، إذ امتدت إقامتنا في الشتات لأكثر من سنة. بعد فك العزلة والرجوع إلى السجن المركزي، عشنا عوالم آخري، صارت مجالات اشتغالنا متعددة، بتآزر وسعي مشترك لفتح آفاق تؤكد نبل القيم التي جمعتنا وصلابة علاقاتنا الرفاقية، فكان التآزر وتقوية روابط المودة والتعاون البناء.    

 عبد الفتاح الفكهاني، أحد أبرز الفاعلين في كل محطات تجربتنا، لفه كل من عرفه واستطاب رفقته بتقدير بالغ واحترام كبير، بحكمته البالغة وهدوءه الرصين، ترك بصمته في كل محطات نضالنا كرأي معتدل وصمود مثير، رفيق تعددت خصاله وأجمع الرفاق على رفعة شأنه بيننا، بتواضعه اللافت ورحابة صدره، وسمو استقامته وفعالية مساهماته. كلما جادلته أساخ السمع وقدم البيان لتدليل الفهم وتقريب مسافة التقاطع في الآراء وتدليل سبل التفاهم. لا يستصغر حدود الفهم أو مسافة الاختلاف. “هذا رأيي” عبارة يرددها كلما استوى في جدال أو تباينت الآراء في قضية من القضايا.

 اقترح يوما أن يتم استدراك زمننا الموؤود، دعانا للبوح بما يعتمر بدواخلنا لتحقيق التوازن المرغوب، مواصلة تطوير معارفنا بما يدعم كل من هو في حاجة إلى تقوية إمكانياته اللغوية والرفع من قدرته على استعمالها. التف حوله ثلة من الرفاق ممن يعاني من نقص في استيعاب بعض مقومات اللغة الفرنسية وطرق تداولها، فكانت حصته اليومية مجالا لدعم قدرات بعض الرفاق في استيعاب مداخل التمكين لضبط قواعد اللغة واستعمالاتها على مستوى الكتابة والحديث. وعلى نهجه بادر رفاق أخرون بفسح المجال لتلقين اللغتين الاسبانية بيوسف الركاب ومحمد السريفي، والانجليزية مصطفى كمال، فأصبحت غرف الإقامة أقساما لتعلم اللغات أو العزف على بعض الآلات، إذ كان عبد الفتاح هو أول من بادر بإعداد آلة موسيقية من بعض المتلاشيات. فقد تمكن من صناعة آلة تشبه “القيتارة”، اعتمد في ذلك على علبة حلويات دائرية الشكل بحجم كبير، أعدها بأوثار مشدودة بمسامير، وقد قادته هذه التجربة إلى تشكيل مجموعة غنائية، أطلق عليها “ناس لسوار” (محمد بلوط. فؤاد أصواب. مصطفى مفتاح. عبد الفتاح الفكهاني وأحمد حبشي)، لأن المجموعة اعتمدت استعادة أغاني ومعزوفات الفرقة الغنائية “ناس الغيوان”، التي كانت قد اكتسبت شهرة على المستوى الوطني في بداية السبعينات من القرن الماضي. على كل هذه المستويات كنت حاضرا كتلميذ في حاجة لتقوية قدراته اللغوية في اللغة الفرنسية، ثم مساهما في الأداء الجماعي لأغاني الفرقة الموسيقية، التي كانت تعتمد أواني المطبخ كآلات للعزف وضبط الإيقاع. كل ذلك جعلنا نكون في فترة من فترات عيشنا المشترك، نتفاعل فيما بيننا. نشتغل بإيقاع منتظم ونشرك الرفاق في بعض لحظات الاسترخاء الجماعي، مما كان يجعل الأجواء أكثر مرحا، ولحظات لتكسير جدار الصمت، خصوصا في فترة لم نتمكن بعد من جلب المذياع ووسائل الترفيه الأخرى، ما عدا ممارسة بعض الرياضات، أساسا كرة القدم. 

هكذا استعيد بهاء تلك اللحظات، هي أيام بالتآزر تجاوزنا قسوة وقعها، وفتحنا في الأفق أكثر من نافذة لانسياب الأيام، مزهوة بما أحدثناه فيها من صخب ومجالات لاستعادة بريق الحياة، حيث وضعنا لننسى أننا بشر يستحق الحياة. فسلام لرفاق غادروا عالمنا في غفلة منا، نحملهم في أعماقنا ذكرى عاطرة تجمل وجودنا، وتلهمنا بأن حياة الأخرين وكل من تقاسمنا معهم نسائم عطر أيام العزة، وصلابة والايمان بالقيم النبيلة، النابعة من أعماق دوات صادقة معطاءة، لا تغريها الأهواء ولا تستحضر الذات إلا ما يجعلها في حضن الأخرين، لا تضع مسافة في الخطو دون البحث عن المشترك الذي يقوي الروابط.

فلروح عبد الفتاح الفكهاني، عبد الله زعزاع، محمد مداد، عبد السلام المودن، رشيد النزهاري… وكل الرفاق الذين ودعونا ونحن في أمس الحاجة لرفقتهم، نستعيد ذكراهم بكل حسرة وألم، فلأرواحهم الطاهرة ألف تحية وازكى سلام.  

                                           فبراير 2025

Visited 202 times, 85 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي