أدب السجون اليساري وذاكرة اليسار (4): زيارة إلى مسلخة “درب مولاي الشريف”

المصطفى مفتاح
تمهيد
قبل العودة إلى الحلقة الرابعة من المقالات حول أدب السجون اليساري وفي انتظار اختيار زوايا أخرى لتناول هذه التجربة المتعددة الأبعاد، ارتأيت أن أفتح قوسا لتناول مختلف، سأسميه “معمار الاعتقال: معلمة مركز الاعتقال والحجز درب مولاي الشريف نموذجاً”، كما عاش فيه لأيام أو شهور أو ربما أكثر عشرات من المغاربة معارضين أو جانحين منذ 1959 حتى 1991.
بعض التاريخ
في نهاية سنة 1952، باشرت الإدارة الاستعمارية تشييد بناية كوميسارية درب مولاي الشريف صممها المهندس المعماري إيكوشار[1] وظلت في أيدي الفرنسيين حتى1959.
المركز -المُرَكَّب عمارة غطت مساحة 1455 متر مربع وضمت ثلاثة أو أربع طوابق تتوزعها 35 شقة لإيواء عائلات مستخدمي الأمن. طابقها السفلي وقبوها كان عبارة عن “كوميسارية” قبل أن يتحول إلى معتقل سري فيما بعد.
“كوميسارية” درب مولاي الشريف كانت في البداية عبارة عن كوميسارية عادية في سنوات الاستقلال الأولى ثم تحولت إلى معتقل، وهذا ما تثبته العديد من الروايات والكتابات.
بعد تحويله إلى مركز للاستنطاق والتعذيب، ارتبط أكثر باحتجاز المعتقلين المحسوبين على الحركة الماركسية-اللينينية المغربية سنوات السبعينيات والثمانينيات وورد ذكره ووصفه في العديد من كتابات أدب السجون اليساري. لهذا خصصت له هذه الحلقة.
المرجو من المشاركين في الزيارة، أن يلتزموا بالهدوء ويقهقهوا أو يبكوا في صمت ولا يزعجوا الأشباح المتمددة في المكان، ولا يلمسوا بأي حال من الأحوال القيد الموضوع على يدي كل متمدد والعصابة التي على عينيه، وعدم التدخين وإطفاء الهاتف المحمول. مع العلم، أن الزيارة ستعتمد على ذاكرة نزيل في المكان لثمانية أشهر في الشروط “المعروفة” عن النزول في هذا المكان.
قبل البدء، لا بد من القول إنَّ المعطيات المتداولة متباينة في بعض التفاصيل، أولها عدد طوابق العمارة، حيث النص المصاحب للصورة يتحدث عن ثلاثة والصورة فيها أربعة طوابق!
ملاحظة أخرى هي أن التصميم المعماري لم يكن متميزا مثل العديد من البنايات الفرنسية في الحي الأوربي بالدار البيضاء، المهم أن المكان وما جرى فيه، كتب عنه الكثير، ولعله الموضوع الأبرز في “أدب السجون اليساري”، ونال نصيبا في الإنتاج السينمائي المغربي. لهذا سأحاول أن أحتفظ للذاكرة بضعفها وإعادتها تشكيل الفضاء والزمان حسب إدراكها، بفراغاته وتمثلاته واختراعاته حتى ويقينيات أصحاب الذاكرة آنئذٍ وعند الحديث أو الكتابة عن مُقامهم وما صاحبه هناك.
شخصيا ما زلت إلى اليوم، حين أتذكر وصولي إلى المركز ولقاءاتي الأولى فيه، أراني كمن وضع مع معتقلين آخرين في بئر أو “مطمورة” يخاطبه الغير حراسا أو معتقلين آخرين من الفتحة الموجودة في الأعلى.
هذا مثال على شكل إدراك الفضاء في “الدرب” الذي كان معوجا وذا شكل غريب، لأن المعتقلين كانوا يبقون متمددين والقيد في أيديهم والعصابة التي تمنع النظر السوي على أعينهم. لهذا فما تحتفظ به الذاكرة عن انتظام المجال غير واقعي.
مثلا، لا أذكر شكل وترتيب البهو وأعرف أن الممر على اليمين كان يضم مكتب “الكوميسير الكبير” وآخر لضابط آخر ثم غرفاً للاستنطاق والتعذيب ومكتبا لكتابة “الاعترافات” وغرفة أو أكثر تضم المعتقلين بزيهم الكاكي وعصابتهم وقيدهم وقملهم ورقمهم. أظن أن “الغرفة السوداء” كانت في هذا الممر على يمين بهو الاستقبال.
في الممر على اليسار، كان هناك مكتب “الشاف الجبلي” و”الذيب” ولعله هو مستودع الملابس الذي كان يرتديها المختطفون قبل إلقاء القبض عليهم، وألبسة كاكي للقادمين أو لاستبدال تلك التي عمرت فوق جلد المحتجزين.
كانت هناك غرفتان أو أكثر في نفس الجانب وغرفة بابها يواجه الممر وعلى جانبها كان المطبخ. وسط هذا الممر كان هناك ممر أصغر، يستعمل لعقاب من يريدون، يجبرونه على الوقوف على رجل واحدة أو كلتيهما واضعا يديه فوق رأسه مبتعدا مسافة ما عن الحائط. بعد هذا الممر، على اليمين زنازين تتسع لأربعة وعلى اليسار “القبو” وهو بطول 10 إلى 12 متر وعرض متر واحد ونصف. والحمام والمراحيض.
هذا الوصف غير دقيق، أوردته قصدا حتى يفهم الزوار أن المكان كان أيضا جزءا من التعذيب والخنق. كانت الممرات تستعمل أيضا من طرف المعتقلين ملقيين على الأرض أو على “نقالات”. كل الذين كانوا هناك أوفي الغرف والزنازين متمددون ممنوعون من الكلام، حسب النظام الصارم الذي يحرسه “الحجاج”[2]. لكنهم شيئا فشيئا تكيفوا مع المكان ومع عادات “الحجاج” وعرفوا كيف يتواصلون مع بعضهم لتبادل الأخبار، والحكايات والغناء حتى، وطرق متعددة للحفاظ على إنسانيتهم والصمود.
هناك روايات متعددة عن طابق تحت أرضي باتساع أساس العمارة أو قبو أو أكثر لكن الروايات متباينة كما ينبغي لذاكرة كانت أجسام أصحابها مكبلة، معصوبة العينين، يراقبها “الحجاج” والضوء موقد طيلة الوقت، يأتيها “الذيب” دون إنذار، ليقودها بعد التأكد من أن القيد والعصابة يلعبان دورهما، إلى حيث حصص الاستنطاق والتعذيب.
وللعودة إلى الغرض من هذه الزيارة ومكانة مركز درب مولاي الشريف في سرديات الاعتقال والتنكيل من جهة، وسرديات المنظمات الماركسية-اللينينية المغربية التي يشكل هذا الفصل جزءا أصيلا من طفولتها الأولى.
تحدثت عن إحساسي بالتواجد في “بئر ” أو “مطمورة” فتحتها في الأعلى يطل عليَّ أو علينا منها “الحجاج” والرفاق وربما آخرون. في هذا الوضع أذكر شخصا قد يكون فعلا واقعيا وقد يكون من تَوهُّماتي واختلاقي، كان لقبه “لْعَسْكْري” ينبري من الفتحة ليخبرني (نا)، أن قادة منظمة “23 مارس انهاروا وانبطح بعضهم أو كلهم وأعطوا جميع المعلومات عن منظمتهم وعن رفاق من المنظمة الأخرى “إلى الأمام” مما ساهم في ضربها.
ليس المهم أن تكون القصة حقيقية أو مفتعلة، لكنها تنسجم مع سردية شاعت لدى جزء مؤثر من المعتقلين من قادة منظمة “إلى الأمام” و”23 مارس الإيجابية الثورية” وحتى الآخرين مفادها أن الخط السديد في الحركة الماركسية-اللينينية المغربية صمد وأثبت بالتالي أنه الاختيار الثوري السديد مقابل هزيمة الخط “اليميني”. هذه السردية سيكون لها ما بعدها من مآسٍ في تجربة السجن والمحاكمة والإضراب الكبير عن الطعام حتى 1980 وربما إلى يومنا هذا.
وحتى نستعيد بعض حِسِّنا النقدي “المادي الجدلي العلمي”، يبدو لي من المهم استحضار العناصر التالية:
كان المركز بكل طقوسه ومعماره وشروط الأكل والنوم والنظافة والعلاج وقضاء الحاجة، آلة متكاملة للتعذيب والممارسات الروتينية المهينة والحاطَّةِ بالكرامة الإنسانية وانتهاكها الجسيم والعنيف، وليس “التعلاق” و”الكهرباء” والخنق و”الفلقة” أو “الميلػ” إلا وجهها الأكثر قبحا وبربرية؛
كل الحديث عن التعذيب والاستنطاق والصمود أو الضعف مصدره المعنيون مباشرة لأن ما جرى لهم، وقع في أمكنة مغلقة، صحيح أننا كنا نسمع الصراخ لكن لم نكن شهودا على كل ما أخبرنا به الرفاق الذين عُذِّبُوا. ولا يعني هذا تكذيب أحدٍ أو ادعاء اصطناعه رواية ليست هي الحقيقة.
قيل كذلك، إنّ اعتقالات 1974 قضت على منظمة “23 مارس” ووجهت ضربات كبرى لمنظمة “إلى الأمام”، والحال أن المنظمتين استمرتا خارج السجن واضطر النظام إلى معاودة محاولة اجتثاثهما مرات ومرات. ثم إن نصف قادة “منظمة 23 مارس” أفلتوا من الاعتقال وتمكنوا عبر ما صمد من ارتباطات تأمين خروجهم إلى المنفى وضمان حد من الأمان لمن بقي في السرية، بل إن ندوة صيفَ 1975 في فرنسا، مكنت من إعادة تشكيل القيادة وإرسال أطر لترميم المنظمة وشبكاتها وإنشاء تنظيمات فرعية في الطلبة مثلا، ثم إصدار جريدة في المغرب أربع سنوات بعد ضربة 1974.
ما أبسِطُهُ لا يعني أكثر من، أن تاريخ الاعتقالات، وتاريخ الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ولو في مكان محدود، مثل “مركز درب مولاي الشريف”، تحتاج لأدوات علمية حتى نعرفها في مختلف جوانبها، في قوتها وصمودها ومقاومتها وفي نقاط ضعفها ونعرف اختيارات أطرافها ونفهمها بما تستحقه من الاحترام والتقدير دون تقديس أو تبجيل ودون تجني وتصفية حسابات.
وكل 23 مارس وأنتم على أحسن حال.
_______________________________________________________________
[1] Ecochard, مهندس معماري وصاحب تصميم حضري للدار البيضاء، “مبدع” المنازل “المغربية”، كما عرفناها في بعض الأحياء، سفلي من غرفتين ومطبخ ومرحاض وفناء للضوء والتهوية، يراه مزيجا من المنزل البدوي والمنزل الحضري.
[2] الحراس.