محكيات: الاتحاد المغربي للشغل في ذكراه السبعين.. بين الحلم والحقيقة!

عبد الرحيم التوراني
نحن في ربيع 1991.. في إحدى زياراتي لبيت صديقي الشاعر الراحل أحمد الجوماري، في شقته بزنقة “مون بلان” بحي المعاريف (الدار البيضاء)، سأصادف لديه السيد حسن البزوي.
كنت أسمع باسم حسن البزوي، كأحد القياديين البارزين في “نقابة المحجوب”، التسمية المهذبة التي كان يطلقها الخصوم على نقابة الاتحاد المغربي للشغل، في الوقت الذي يصِّرُ فيه آخرون على نعت: “الجهاز البيروقراطي”، و”الجهاز البورصوي”، متهمين قيادة الاتحاد المغربي للشغل بالفساد وبالتجاوزات وخيانة الطبقة العاملة، وبانتهاج ما يسمى بـ”سياسة الخبز”، وبالتالي “الارتماء الصريح في أحضان الباترونا والاحتواء المخزني”.
كان ذلك أول لقاء جمعني بحسن البزوي، بعدها سنصبح صديقين حتى آخر أيام حياته رحمه الله.
أذكر أن القائد النقابي ظل صامتا، يكاد لا يتكلم أغلب الوقت إلا باقتضاب، خصوصا بعد أن قدمني له أحمد الجوماري بكوني صحفيا. وكأن الشاعر أراد تنبيه ضيفه، ووضعه في الصورة كما يقال، عندما ذكر له انتمائي الحزبي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، والحقيقة أني كنت غادرت صفوف هذا الحزب بأعوام قبل ذلك التاريخ.
وقتها فسرت صمت حسن البزوي باحتمال توجسه مني، أولًا من أكون صحفيا استقصائيا، وثانيًا كواحد منتمٍ لتنظيم يعد مبدئيا خصما لنقابته العتيدة. لذلك لم أجرؤ على إخراجه من دائرة هواجسه المحتملة أو توجساته. وإن تساءلت حينها في سري عن الصلة التي تجمع يا ترى صديقي الشاعر بنقابي، وليس أي نقابي، بل هو من زمرة المحجوب بن الصديق.. الزعيم الخالد في الاتحاد المغربي للشغل. أيامها كان بن الصديق أكمل عامه الـ46 من سيطرته التامة والمُحْكَمَة على دواليب أول مركزية عمالية تأسست في المغرب. وسيظل على رأسها حتى وفاته، في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية، سنة 2010.
غير أن أحمد الجوماري، وبعد أن لاحظ طغيان البياض حول جلستنا، بادر بالتوجه إلى حسن البزوي مقترحا عليه أن يفاتحني في ما قد يرغب في أن يعممه على الرأي العام من خلال الصحافة.
قال الجوماري:
– ما رأيك يا السي حسن، في أن تحكي لعبد الرحيم، وسيتكفل بنشر موقفك…
لم أفهم ماذا يمكنه أن يفصح عنه البزوي للرأي العام، لكن الفضول الصحفي دفعني لأتوجه إلى البزوي بأني على استعداد ورهن إشارته…
غير أن البزوي التفت إلى الجوماري قائلا له:
– لا فائدة ترجى من وراء مثل هذه المبادرة…
كان ردا أثار استفزازي كثيرًا، خاصة بعد أن حسبت أنه أظهر تجاهي قلة اهتمام، وكان يركز كلماته ونظراته أكثر على مضيفه الجوماري. قمت برد الاستفزاز بمثله، فاعتذر مني البزوي بالقول إنه لا يقلل بتاتًا من قيمتي كصحفي، ولكنه ليس متأكدًا من قدرتي على نشر ما سيصرح به إلي.
سألته كيف يعرف.. وكيف يقرر بهذا الاحتمال؟ فأجاب إن مدير جريدتكم تربطه علاقة خاصة بالمحجوب بن الصديق.
كنت أيامها، مع عبد الله الستوكي وعبد القادر شبيه وراء تأسيس أسبوعية مستقلة تحت اسم “الكشكول”، وكان الستوكي مديرا للنشر، ومن كتاب “الكشكول” أذكر عمر الأنواري ومحمد علي الهواري والصحفي السوداني عبد الواحد كنبال وأحمد الدغرني.
وبعد أن ألححت، فتح لي حسن البزوي صدره وحدثني بمرارة عن طرده من قبل المحجوب بن الصديق وإبعاده من صفوف وقيادة الاتحاد المغربي للشغل. وسرد أمامي لائحة من الممارسات البغيضة داخل المركزية العتيدة، ممارسات طويلة ومحزنة، تتناقض تمامًا مع الروح النقابية والأخلاق. كاشفًا لي باختصار عن بعض التنازلات التي يبديها من يقود الاتحاد المغربي للشغل في علاقته بالدولة وبالمشغلين من رجال الأعمال.
أخبرني البزوي أيضا أنه سعى للاجتماع بمحمد نوبير الأموي، الأمين العام لما سمي بـ”البديل التاريخي”، المتمثل في المركزية التي أسسها الاتحاديون بعد فشل “الحركة التصحيحية”، وهي “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”. لكن الأموي بعد أن استمع إلى البزوي لم يبد أي استعداد لاستقباله في هياكل “C.D.T” أو التعاون معه.
عدت إلى الرباط ومعي موضوع ساخن، من شأنه إثارة بالغ الاهتمام والنقاش.. ووافقني الزميل عبد القادر شبيه الرأي بأهمية المقال، فاخترنا إبرازه على أعمدة الصفحة الأولى..
لكن عندما سيصدر العدد الموالي من “الكشكول” سأفاجأ بكون المقال الخاص عما يجري ويدور داخل الاتحاد المغربي للشغل تمت إزالته وتعويضه بمقال آخر أقل أهمية.
اتصل بي البزوي في الهاتف وقال:
– ألم أخبرك أن عبد الله الستوكي سيعترض على نشر أي كلمة يراها قد تلحق إساءة وضررا بصديقه الحميم السي المحجوب..!؟
وأنا في حاله قصوى من الغضب، أبديت احتجاجًا قويًا لمدير النشر، أي الصديق عبد الله الستوكي. أذكر أنه ظل ينظر لي متبسمًا، وبعد أن هدأ من غضبي بادر إلى إطفاء ثورتي بالاستجابة لنشر الموضوع في عدد الأسبوع الموالي، وهو ما حصل.. ما سيؤسس لصداقة متينة بيني وحسن البزوي، الذي سأعرف لاحقًا أن العلاقة بينه والجوماري هي علاقة مصاهرة، العلاقة ذاتها التي جمعته أيضا مع صديقي وزميلي الصحفي عبد العزيز لغويبي، الذي عمل بعدة منابر منها: “مغرب أنفورماسيون” التي كان يصدرها الاتحاد المغربي للشغل، و”لافي إيكونوميك”، و”الإيكومينست”.
بعد عامين، في 1993، سينشر حسن البزوي كتابا باللغة الفرنسية، أصدره على نفقته الخاصة بمطبعة النجاح الجديدة في الدار البيضاء، بعنوان:
L’U.M.T: le rêve et la réalité، (الاتحاد المغربي للشغل: الحلم والواقع،/ أو الحقيقة).
غضب قاسٍ بعد تفاؤل
بعد وفاة المحجوب بن الصديق، عن سن يناهز 88 سنة، في باريس، يوم الجمعة 17 سبتمبر 2010، سألتقي بحسن البزوي في حانة “مرس السلطان”، كان برفقته صهره الصحفي عزيز لغويبي. أخبرني حسن أنه فتش عني بين الجموع التي حضرت مراسيم تشييع جنازة المحجوب بن الصديق، في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، بعد صلاة ظهر يوم الأحد 19 سبتمبر 2010. كانت الجنازة حدثا مهما، جمع مسؤولين سياسيين ونقابيين من مختلف التوجهات، ومسؤولين في نقابة الباترونا (الاتحاد العام لمقاولات المغرب)، إلى جانب أعضاء من البرلمان ومن الحكومة يتقدمهم الوزير الأول عباس الفاسي.
قال لي البزوي إنه التقى بعبد الله الستوكي بين المشيعين وسأله عني. كان حسن شديد التأثر من وفاة المحجوب، فتح محفظة جلدية كانت معه وأهداني نسخة من كتاب أصدره سنة (2009) باللغة الفرنسية حول القضية العربية (في 320 صفحة من الحجم الكبير)، بعنوان: Neuf siècles dans la tourmente- “تسعة قرون من الاضطرابات”. وطلب مني مساعدته في تحرير موضوع باللغة العربية حول الاتحاد المغربي للشغل.
في اليوم التالي قضيت بصحبة حسن البزوي ساعات بمقهى “الشانزليزي” في مرس السلطان، وأنهيت معه تحرير مقال طويل حول “مستقبل الحركة النقابية في المغرب بعد رحيل المحجوب بن الصديق”، وكان مقالا تحليليا مركزا يعتمد على تجربة وخبرة ميدانية طويلة، حاول فيه البزوي إعادة ترميم علاقته بالاتحاد المغربي للشغل، وبدا لي منشرحا ومتفائلا.
وقد نشر المقال في موقع “لكم” للصحفي علي أنوزلا، لكن المقال لم يعد اليوم متوفرا على الشبكة العنكبوتية، بعد إغلاق السلطات للموقع واعتقال صاحبه في سبتمبر 2013 وتعرضه للسجن أكثر من شهر في قضية تتعلق بـ”الإرهاب”، وبعد إطلاق سراحه أطلق أنوزلا موقعه الإخباري باسم (لكم 2).
لكن في سنة 2012 سيقوم القيادي السابق في الاتحاد المغربي للشغل، حسن البزوي، بتوجيه رسالة إلى أحمد الميداوي، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، رسالة أكال في سطورها تُهمًا ثقيلة لمسؤولين في الاتحاد المغربي للشغل، متهما إياهم بالتورط في “اختلاس أموال عمومية” وبـ”الارتشاء جهارا نهارا” و”المتاجرة بمصالح العمال” و”الاستحواذ على أموال تعاضدية العلاج وصناديق العمال”..
وقال البزوي إن “من بين الظواهر التي تستعصي على الفهم، ونرى تجلياتها في الميدان النقابي، الثراء الذي وصلت إليه قيادات نقابية معروفة لدى الجماهير والعمال ولدى الشعب بأكمله”، متسائلا: ”من أين يمكن أن يكون لهم هذا وهم في الأصل أجراء؟”.
وطالب البزوي من مفتشي المجلس الأعلى للحسابات تفتيش ومساءلة هؤلاء المسؤولين النقاببين، الذين “منهم من جمع أموالا طائلة من وراء مسؤولياتهم في مجالس منتخبة، ومنهم من هو متابع أمام القضاء بسبب اختلاسات بينة، ورغم ذلك لم يتم الحكم عليهم حتى الآن ” .
التفرغ للكتابة ولتحضير الدكتوراه
عاد حسن البزوي إلى مسقط رأسه، مدينة الجديدة، ليستقر بها. وتواعدنا أكثر من مرة كي أزوره هناك، إلا أن مواعيدنا كانت تتأجل باستمرار، حتى وصلني نعيه وأنا راجع من مراكش على متن القطار، وكان الناعي هو الصديق عزيز لغويبي، الذي أخبرني بأن حسن كان في إيطاليا التي يقيم بها أولاده، وخلال رحلة عودته إلى المغرب توفي إثر سكتة قلبية في فندق باسبانيا.
لو مضت الأقدار بصيغة طبيعية لرأينا حسن البزوي خليفة للمحجوب بن الصديق، أي أمينا عاما للاتحاد المغربي للشغل. كما كان مقدرا للحسن الآخر، النقابي المتمرس وأستاذ الفلسفة، حسن بنعدي، أحد مؤسسي اليسار الجديد في المغرب، وكان عضوا في الأمانة العامة للاتحاد وكاتبا عامة للجامعة الوطنية للتعليم، الإطار الذي اجتمع حوله عدد من اليساريين، منهم رؤوف فلاح وسليم رضوان ومحمد بولعيش وعبد اللطيف منصور، وكان بنعدي صوتهم لدى بن الصديق..
لكن للأقدار حكمتها كما يقولون. بل إنه كما قال البزوي نفسه، وهو يدرك جيدا الفارق الشاسع والواضح ما بين “الحلم والحققية”، وفق العنوان الفرعي لكتابه الأول عن الاتحاد المغربي للشغل.
لقد حطم الإبعاد حسن البزوي، ذلك القرار الذي اتخذه في حقه الزعيم المحجوب بن الصديق، بل إنه سيعانى طويلا من مرارته، ولم يكن – كما كتب صديقنا الكاتب والمؤرخ المصطفى اجماهري- أمام حسن البزوي سوى التفرغ للكتابة، بل إنه “في عام 2001، وهو في سن الخامسة والستين، عزم على مواصلة دراسته في كلية الاقتصاد في غرونوبل، للتحضير للحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد والسياسة الدولية. وقد تم قبول طلبه، لكنه لم يتمكن من الحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا”.
15 من سبعين…
20 مارس 1955- 20 مارس 2025.. تاريخ طويل ممتد استكمل اليوم دورته الـ 70 عاما على تأسيس أول تنظيم نقابي مغربي مستقل عن النقابات الفرنسية.
وقد صادفت الذكرى عقد المؤتمر الوطني الثالث عشر في الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي، بمشاركة أكثر من 1700 مندوب، تحت شعار طويل من 18 كلمة: “سبعون سنة من الوفاء لهوية ومبادئ الاتحاد المغربي للشغل، ويستمر النضال من أجل الحريات النقابية والكرامة والعدالة الاجتماعية”.
وقد انتهت أعمال المؤتمر بإعادة تنصيب الموخاريق من جديد على رأس المركزية بعد 15 عاما من ولايته… وهو ما كان منتظرا… وربما غير منتظر في آن!
هكذا، بعد 70 عاما من عمر الاتحاد المغربي للشغل، تداول على قيادته شخص واحد، هو الميلودي موخاريق، مما قيل عنه “إنه شخص لم يكن مطلقا بالوارد في حسابات المراقبين”.
لينتهي الأمر بالفعل إلى تراكم ممارسات كأنها من صلب تسلط”المافيا”، حيث النقابات نفسها تواجه معارك واقتتالات داخلية، بين أولئك الذين يريدون القيام بعملهم، وأولئك الذين يريدون الاستفادة من النظام.
هل من مقارنة بين ما حدث ويحدث في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد المغربي للشغل؟!
من منّا يحسن الحساب والعد.. خذوا هذه الـ 15 من سبعين، وإلى المؤتمر القادم للاتحاد المغربي للشغل، المؤتمر 14.. وموخاريق عليكم… يا أولي النقابات…