60 عاما على “انتفاضة 23 مارس 1965”.. أصداء من ذاكرة طفل بيضاوي

عبد الرحيم التوراني
بحلول نهار اليوم 23 مارس 2025، تكون قد مضت ستون عاما على “انتفاضة 23 مارس 1965”.. أشعر بها الآن وكأنها حصلت ليلة البارحة.. وقد تحول هذا الحدث اليوم إلى ذكرى تاريخية، تنضوي تحت الماضي وأحكامه وتفاعلاته المثيرة للجدل، باعتبار التاريخ مجالا تأويليا أو تفسيريا مفتوحا على أكثر من وجهات نظر وآراء متعددة.
عندما اندلعت تلك الانتفاضة الشعبية الكبرى في مدينة الدار البيضاء، أدت إلى قمع مضاد وحشي ودموي -علاماته لا زالت شاخصة وبارزة إلى اليوم- كنت طفلا لا يتجاوز التاسعة من عمره. هي السنوات ذاتها للبلد المستقل حديثا عن سلطات الحماية الاستعمارية الفرنسية والاسبانية.
لن أستطيع أن أجزم، أو أزعم بتاتا، أنها كانت بداية لاكتسابي لأي وعي اجتماعي ممكن، بَلْهَ الكلام عن إلمام محتمل بما كان محيطا بي من وقائع وأحداث سياسية. بالرغم من كوني كنت أستمع للكبار وهم يتحدثون في مواضيع سياسية لا أستوعب مغزاها ومراميها. والموضوع السياسي كان حاضرا حينذاك بقوة في المجالس الخاصة والمنتديات العامة.
حرص الوالد على أن يصحبني معه إلى بعض التجمعات العامة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وإلى احتفالات عيد العمال، حيث تنظم استعراضات “فاتح ماي”، التي كانت تحتضنها أكبر شوارع العاصمة الاقتصادية، (محج الجيش الملكي)، وهو مسار طويل وممتد، يزدان عادة في تلك المناسبة المبهجة باللافتات المتعددة العريضة التي يحملها العمال، مع رايات وأعلام ترفرف عاليا في السماء بألوانها المختلفة.
زمنها وُجِدَتْ مركزية نقابية موحدة عتيدة، التفت حولها معظم مكونات الطبقة العاملة المغربية، هي نقابة الاتحاد المغربي للشغل. وقد مثَّل مركزية نقابية حقيقة في السنوات الأولى للاستقلال، قوة ضاربة في يد قوى الحركة الوطنية والمعارضة، فالأمين العام للمركزية النقابية كان عضوا بارزا في قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ولم تكن قيادة (ا.م.ش) وقتها تابعة للنظام، أو منخرطة في لعب دور رجعي يتعارض مع مصالح العمال، خاصة بعد إبعاد العمال عن النضالات الديمقراطية، ورفع شعار “سياسة الخبز”، الشعار- العنوان المستعار لنهج اغتنت من ورائه القيادة النقابية، فأصبح العامل البسيط في السكك الحديدية، المحجوب بن الصديق، من أثرى أثرياء البلد، كذلك نائبه محمد عبد الرزاق صار من أصحاب المليارديرات..
يوم لا يشبه باقي الأيام!
صادف تاريخ 23 مارس من عام 1965 يوم ثلاثاء، وكان يوما لا يشبه باقي الأيام، يوم لا يمكن نسيان ما وقع في ساعاته الحرجة والطويلة.. لما بدأت تصل إلى مسامعنا أصوات مدوية مثل الهدير، كلما اقتربت زادت حدة قوتها، مثل العاصفة أو كدوي الرعود. أصوات جموع قادمة من اتجاهات مختلفة، من الملعب الشرفي القريب من حي المعاريف ودرب غلف. ومن الثانويات المحيطة، ليسي عبد الكريم لحلو، وليسي محمد ساينك، وليسي الأزهر، وليسي مولاي عبد الله… شباب من التلاميذ والطلاب المنتمين إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، في عمر الزهور.. في البداية كانت انتفاضتهم تلاميذية، إذ اندلعت الأحداث الأليمة التي رافقتها عقب احتجاج التلاميذ وأهاليهم على إصدار وزير التعليم يوسف بلعباس التعارجي مرسوما وزاريا يقضي بطرد التلاميذ لاعتبارات عمرية.
ثم التحقت بالمتظاهرين أعداد أخرى من العاطلين، الذين خرجوا للاحتجاج ضد الفقر والبطالة والتهميش، وهم من أدنى الفئات الاجتماعية التي سحقها القمع والاستغلال، ولم تستفد شيئا من وعود مغرب الاستقلال… جميعم وصلوا متأججين بنيران الثورة وبشرارات الغضب.. إنه عالم متمرد قد نزل إلى الشوارع.
لا زلت أتذكر كيف هزني الحدث، وكيف أخذني المشهد المريع، وأنا برفقة بعض أصحابي من الأطفال، فجرينا خلف الشباب المتظاهرين، الذين كانوا يهتفون بشعارات لم نفهم وقتها معانيها جيدا، وإن كنا ندرك أنها شعارات رافضة وغاضبة.
أحتفظ في ذاكرة طفولتي بصور وملامح بعض أؤلئك الشباب الغاضبين، وبالأخص منهم شاب كنت أعرفه تمام المعرفة. كانوا يطلقون عليه لقب “أبو الشَّعْر”، إذ كان شعر رأسه طويلا ينسدل فوق جبينه ويغطي كامل رقبته. كنت أعرفه، لأنه كان هو المشرف على محل الألعاب بزنقة ألبير دورير (اسم رسام ألماني من الـقرن 16)، محاذٍ لحمام عمومي، يسمونه “حمام الحَاجَّة”. كنا نلجأ للتسلية بمحل الألعاب كلما توفرت لدينا بضعة ريالات، محل غطيت كامل جدرانه ببوسترات ملونة لأبرز نجوم الكرة الفرنسية والاسبانية في ذلك الزمان، إلا أنه اقتصر فقط على لعبة “كرة قدم الطاولة”، تلك اللعبة التي كنا نطلق عليها اسم “البيَّار”، وهي كلمة محرفة عن تسمية “البيليارد”… واللعبة بريال واحد.
مما ظل عالقا بذاكرتي كذلك أني فوجئت بتحول “أبو الشعر”، وأنا أراه وسط الجموع، من شاب وديع ومسالم هادئ، إلى شخص مختلف بالمرة، شخص مُزنَّر بالغضب وبشراسة بلا ضفاف..
يومها أقدم المتظاهرون على حرق الحافلات داخل المرأب الرئيسي الكبير لـ”الطاك”، شركة النقل العمومي في الدار البيضاء، وكان مقرها محاذيا للدرب. وتم حرق برَّاكة تابعة للمقاطعة، خاصة بأعوان السلطة (المقدمين)، ناهيك عن تخريب عدد من الواجهات والسيارات التي كانت مركونة جنب الطوار في الشوارع.
جلاد مكان المقاوم
سأفهم لاحقا أن “أبو الشعر” كان من أعداد العاطلين المقنعين، لا يحصل على مقابل حقيقي من عمله كحارس لمحل “البيَّار”، الذي كان صاحبه هو الحاج “نْبولَة”، واحد من مشاهير الحي والمدينة في تلك السنوات، إذ كان لاعبا سابقا في صفوف فريق نجم الشباب البيضاوي لكرة القدم، الفريق ذو اللونين الأصفر والأخضر، الذي أسسه أعضاء من رجالات المقاومة عام 1942، وكان يرأسه ويسيره المقاوم محمد بنحمو الفواخري. في تلك السنوات شكل فريق نجم الشباب، مع نادي الوداد ونادي الرجاء، الثلاثي العريق لأندية مدينة الدار البيضاء.
إلا أن نادي نجم الشباب ستلحق به “لعنة كبرى”، من جرائها سيخبو نجمه ليلتصق إلى الأبد بقاع بطولات ما يسمى بـ”الأقسام الشرفية” لكرة القدم في المغرب، بعد أن كان ثالث فريق يفوز ببطولة المغرب لكرة القدم عام 1959، متفوقا على الوداد الذي حل في بطولة ذلك العام ثانيا.
و(اللعنة) التي أصابت نادي المقاومين، هي أن رئيسه بنحمو الفواخري، سيصبح أول مقاوم نفذ فيه حكم الإعدام في عهد الاستقلال رميا بالرصاص عام 1962، بعد أن تمكن مرارا من الإفلات من انتقام وبطش الاستعمار الفرنسي البغيض.
جرى ذلك، كما يتردد، عقب خلاف عابر وتلاسن حاد بين بنحمو الفواخري، بصفته رئيسا لنادي نجم الشباب، وبين رئيس نادي الجيش الملكي.. عندما التقى الفريقان في مباراة (كأس السوبير) الأولى عام 1959، والتي جرت بملعب “سطاد فليب” بالدار البيضاء بين الجيش الملكي بوصفه حامل كأس العرش 1958-1959، ونجم الشباب البيضاوي بطل الدوري لنفس الموسم.
ولم يكن رئيس نادي الجيش أيامها غير ولي العهد الأمير مولاي الحسن، من سيصبح بعد سنة من ذلك التاريخ هو الحسن الثاني ملك للمغرب.
لكن من سيخلفون بنحمو على رأس النادي سيسيرون على النقيض من نهجه وسيرته، وبينهم صاحب محل “البيار” المذكور، الحاج نبولة، الذي كان يستغل الشاب الفقير “أبو الشعر”..
كان الحاج نبولة يسكن بجوار بيتنا في نفس الزقاق الذي كنا نسكنه، حيث كان يقيم مع زوجته ووالدته وأخيه الأصغر (ميلود) الذي عاش حتى اكتهل وهو يعاني من تأخر ذهني.
عندما كان أطفال الحي يشاهدون الحاج نبولة قادما من بعيد، كانوا يهربون ويتنحون حتى يمر، إذ كان لا يتورع في شتم الصغار ونهرهم، وحتى ركلهم، عندما يشاهدهم يتقاذفون الكرة أمام طريقه.
ما أتذكره اليوم عنه هو أنه كان شخصا مربوع القد، ذو بنية بدينة، تتقدمه كرش منتفخة، لا تليق بممارس رياضي سابق، كما أن نظراته كانت مخيفة.
وما سأعرفه عنه بعد سنوات، أن مقهى “البيار” لم يكن عمله الأساسي الذي يتكسب منه، إذ كان عمله الرسمي جلادا في كوميسارية المعاريف. وما من شك أن معتقلي انتفاضة 23 مارس 1965، وغيرهم من المعتقلين السياسيين مروا تحت سادية عنفه وقساوة تعذيبه.
سطوع نجم المتلبس
كان الحاج نبولة يقطن ببناية سكنية مجاورة لبناية في ملكية عبد الله السرحاني، المشهور بـ”السي عبد الله لاسورطي”، لقب اكتسبه بحكم انخراطه زمن الحماية ضمن سلك الشرطة الفرنسية. بنفس البناية كان يسكن محمد نجم الدين مع زوجته السمراء الشابة، واسمها “البيضا”.
نجم الدين هذا، سرعان ما سيسطع نجمه عاليا بعد سنوات قليلة من تلك الفترة، بعدما افتتح مطعما صغيرا متخصصا في تقديم السمك المقلي، سيصبح المحل من أشهر المطاعم الشعبية في مدينة الدار البيضاء، ولا يزال المطعم موجودا حتى اليوم بعد وفاته، حيث يشهد يوميا إقبالا ملحوظا، محافظا على ذكرى مؤسسه المشهور باسم “بْحَيْليسَة”، وكانت صورة له مكبرة بالألوان تتصدر المكان، أما لفظ “بْحَيْليسَة” فهو المقابل في الفصحى لمعنى “المتلبس”.
لكن صورة أخرى بالحجم نفسه، كانت معلقة بجدار مطعم “بْحَيْليسَة”، ستختفي في السنوات الأخيرة، صورة تعود إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، التقطت في الملعب الشرفي بالدار البيضاء، يظهر فيها صديق بحيليسة، الحاج نبولة مبتسما بشارب كث ولحية خفيفة، جالسا بين أرجل الواقفين من أعضاء فريق نجم الشباب، يتوسطهم ولي العهد مولاي الحسن (الحسن الثاني).
الشريرة امرأة صاحب الأسنان الذهبية
وأنا أجري خلف الشباب المتظاهرين في شارع واطو، يوم 23 مارس 1965، ستلتقطني يد أحد الجيران لتعيدني إلى مدخل زقاقنا. لكني لم أدخل فورا إلى منزلنا، بل بقيت أتفرج على المطاردات العنيفة التي كانت تشنها قوات “زايان” المخزنية وعناصر البوليس ضد الشباب.
فجأة دخل شاب هارب إلى الزقاق، ففوجئ به ممرا مغلقا، وعندما أبصر بابا مفتوحا دخله راكضا للاختباء به، لكن من كانت تسكن في الطابق الأرضي طردته وأبعدته وهي تصرخ وتشتم.. ليتم اعتقاله على يد مطارديه من البوليس.
من يومها أصبحت أكره تلك الجارة، واسمها يزَّة، وكان لها ولدان من عمري، ولأنتقم منها، عملت باستمرار على إبعاد ابنيها وعدم إشراكهما في اللعب معنا نحن الأطفال، وبقدر ما كانت يزَّة امرأة سيئة وقبيحة ودائمة الشجار مع جاراتها، كان زوجها السي عبد النبي رجلا مهادنا، مغلوبا على أمره كما يقولون. مما أذكره، أن السي عبد النبي كان دائم الابتسام، خصوصا وأنه أسنانه كلها مشعة تلمع، كانت أول مرة أشاهد فيها فكي أسنان رجل مصنوعة من ذهب.
تدشين سنوات الرصاص
استمر قمع المتظاهرين من قبل عساكر الجيش الملكي، كما تواصلت المظاهرات الحاشدة في الأيام التي تلت يوم 23 مارس. ثم بدأت أسمع أحاديث الكبار عن الاعتقالات، وعن القتلى في الشوارع. كانت صدمة كبيرة غير مسبوقة، إذ تساءل الكثيرون: هل حقا نالت بلادنا الاستقلال؟ وإلا كيف يقتل أبناء الشعب في الشوارع وتسحل وتجرجر جثامينهم فوق الأرض.. مشاهد لم يعاينها المغاربة بهذا الحجم الدموي حتى على يد المستعمر الغاشم.
كان رد النظام عنيفًا بشكل لا يُوصف، ضد شبابٍ قرروا مواجهة سياسة وقهر الدولة بشكل مباشر، وبدت الانتفاضة منطقية تمامًا بالنسبة لأغلبية الشعب. حتى لمن اختاروا أن يلوذوا بـ”مملكة الصمت” خوفا وطلبا للنجاة من القمع.
إنها انتفاضة شبان يطمحون إلى حياةٍ أفضل، ضد الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وضد مخططات الإفقار التي يتعرض لها الشعب، ومن أجل مستقبلٍ أفضل تعمه وتسوده الكرامة والإنسانية والحرية، أليست هذه التوليفة الطبيعية المطلوبة لما يسمى بالديمقراطية؟
لكن النظام أقدم على ارتكاب مجزرة حقيقية، فسقطت أعداد كبيرة من القتلى، وأغلب الضحايا تم رميهم بالرصاص، أو سقطوا بعد تلقيهم ضربات الهروات الضخمة لعناصر “زايان”، الذين كانوا يهوون بها بقوة فوق جماجم الشباب. هذه القوات التي واجهت المتظاهرين قدمت عبر شاحنات عسكرية ملئية برجال “الكوم”، أو “زايان”، نسبة إلى قبائل زايان، وكانوا من القساة الغلاظ، الأميين الجهلة، من الذين لا تأخذهم رأفة أو شفقة حيال ضحاياهم، لهم أنوف موشومة، وعلى رؤوسهم عمامات مميزة، وبأيديهم يحملون هراوات غليضة.
ناهيك عن أعداد المصابين من الجرحى، ممن كان يصعب عليهم التوجه إلى المستشفيات أو المصحات، ومن فعل منهم كان مصيره إلقاء القبض عليه فورا من دون تلقي أي علاج.
كما ستقابل احتجاجات العائلات من الآباء والجيران بعنفٍ مروع، مما حوّل المواجهة السلمية إلى انتفاضة شعبية كبرى. حيث سيعرف لاحقا أن وزير الداخلية الكولونيل أوفقير (لم يرتق بعدها إلى رتبة جنرال) كان يطلق الرصاص من رشاشه على المتظاهرين، وهو يركب طائرة هلكتوبر تحلق على علو منخفض. وبعد تورطه في جريمة اختطاف واغتيال زعيم اليسار المغربي المهدي بنبركة، في العام نفسه في باريس، سيمنح أوفقير لنظام الحسن الثاني وجهه الدموي، ليؤسس للبداية الفعلية لما سيسمى في الأدبيات السياسية والتاريخية في المغرب بـ”سنوات الجمر والرصاص”.
***
بعد بضع سنوات، في مستهل السبعينيات، كنت تلميذا في “ثانوية شارع أنفا”، وعرفت تلك السنة إضرابات عمت الثانويات والجامعة. أذكر أن التلاميذ كانوا يحتلون شارع أنفا حتى يصبح من المتعذر مرور السيارات به، وهم يرفعون الشعارات نفسها التي كان يهتف بها التلاميذ والطلاب في عموم البلاد.
في خضم تلك الأحداث اقترب منا نحن التلاميذ شخص، سيتبين لنا أنه مخبر سري، كان يراقب محيط الثانوية، وقد أشفق قلبه العطوف على صغر سننا، فتوجه إلينا بجملة من النصائح على ألا ننخرط في الإضرابات، وألا نتبع المساخيط الذين يدعون إليها. ومما قاله لنا:
– لتعلموا أن من تم القبض عليهم في مارس 1965 لا يزالون يقبعون في السجون، وأن بعضهم لم يعرف له أثر…
لم تكن تفصلنا عن مارس 65 إلا خمس أو ست سنوات على الأكثر، إلا أني تصورتها سنوات سحيقة وبعيدة بعدد القرون، بخلاف ما يحدث معي اليوم، فستون سنة على ذلك الحدث بدت لي كأنها حدثت بالأمس القريب!
مقبرة سرية في غابة
من ضحايا مارس 65 شباب من الحي من معارفنا، جلهم لم يعودوا أبدا… وفي سنة 2002 سيصدر عميل مخابرات سابق (أحمد البخاري) كتابا أفشى فيه بعض المعلومات عن ضحايا مارس 1965، ومما ذكره أن الضحايا دفنوا في مقبرة جماعية بغابة بوسكورة المحيطة بالدار البيضاء.
ولا ريب أن الشاب الذي كلمتكم عنه في بداية هذه السطور تم ردم جثته تحت تلك الحفرة المغطاة بالجير، إذ اختفى ولم يظهر بعدها مطلقا. إنه الشاب الذي لم أكن أعرف سوى لقبه: “أبو الشعر”.
من المختفين كذلك، شاب من عائلتي، هو ابن خالة والدتي، وكانت من “أخوات الصفا”، أول منظمة نسائية في تاريخ المغرب تأسست قبل الاستقلال على يد محمد بلحسن الوزاني زعيم حزب الشورى والاستقلال. منظمة نسائية رفعت مبكرا مطالب متقدمة، منها إجبارية تعليم الفتيات، ومنع تزويج القاصرات، وإشراك المرأة في العمل السياسي.
لما تعبت خالتنا في الجري بين الكوميساريات والمستشفيات وأبواب مقرات السلطات، أسلمت أمرها إلى الله، خصوصا بعدما تم تهديدها بأن إصرارها على البحث والتفتيش عن مصير فلذة كبدها سيكلفها غاليا. ونصحوها بأن تستسلم إلى أن “يقضي الله أمرا كان مفعولا”. قالوا لها: من يدري؟ سيدق ولدك بابك ذات ليلة ويعود إليك…
أذكر أنها أطلعتني مرة على صورة هوية صغيرة بالأسود والأبيض لولدها المفقود، كانت تحملها معها دائما، كان السي محمد يبدو في الصورة شابا وسيما في مقتبل العمر، يرتدي قميصا أبيض مفتوحا على الصدر ويبتسم نصف ابتسامة. وكان ولدها الوحيد إلى جانب بنتين.
غير أن الأعوام طالت ولم يعد الابن.. ولم يطرق بابها سوى هادم اللذات.. الموت.. رحلت الأم المسكينة وصورة ولدها المفقود على صدرها.
***
يمتلئ التاريخ بأمثلة عديدة للاحتجاجات السلمية التي كان لها تأثير قوي ودائم؛ احتجاجات تطمح في إعادة تشكيل العالم ليصبح مكانًا أكثر عدلاً وحرية وسلامًا. فبعدما يناهز عقدا ونصف على أحداث مارس 1965، ستندلع في الدار البيضاء انتفاضة جديدة، هي انتفاضة 20 جوان 1981، عشت أحداثها الأليمة والمريرة مباشرة عن قرب، وقد أفلت من مصير أسود. وتكرر ما حدث في 1965 في عام 1981، أطلق الجيش الرصاص على المتظاهرين، ودفن القتلى في مقبرة جماعية تم الكشف عن مكانها في السنوات الأخيرة، واعتقل الآلاف من الشباب وحكم عليهم بقرون من السجن. إنه التاريخ عندما يعاد على شكل مهزلة، كما ذكر لنا المفكر الألماني كارل ماركس.
بعد يومين من هدوء الأوضاع في 20 يونيو 81، جاءت قوات الشرطة وجمعت الشباب الجالسين في مقاهي الأحياء الشعبية، وأخذتهم إلى مركز خاص بالدرك الملكي في منطقة عين حرودة، حيث لقوا حتفهم جراء الاختناق، ومن بينهم أعداد من رواد مقهى معروفة باسم “مقهى الشجرة” في زنقة لاكروى بدرب غلف، كان يملكها الحاج بوشعيب، الملقب بـ”الريمي”، وقد توفي هذا العام.
***
شكلت اتنتفاضة 23 مارس 1965 مفصلا أساسيا في التاريخ الحديث للمغرب. وقدمت فصلا جديدا من فصول الصراع السياسي بين الحركة الوطنية والقصر.
لقد كان هناك حراكٌ كبير ذو بُعدٍ اجتماعيٍّ، عجز النظام عن كبحه وتوقيفه إلا بالدم والعنف وضراوة القمع الشديد. ووجدت الأحزاب السياسية، وعلى رأسها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، صعوبةً بالغةً في التحكم في هذا الحراك الجماهيري واحتوائه. مع ذلك سيستدعي الحسن الثاني عبد الرحيم بوعبيد للتفاوض معه، وسيُتهَّم الزعيم المنفي المهدي بنبركة بأنه من وراء إشعال “فتنة 23 مارس”، ليضاف هذا الاتهام إلى لائحة الأسباب التي أدت إلى اختطافه ثم اغتياله بعد سبعة أشهر في العاصمة الفرنسية، كما عثر على ذلك ضمن أوراق أحد العملاء الفرنسيين إثر انتحاره /مقتله، وكان من ضمن المتورطين في جريمة اختطاف بنبركة.
لكن هذه الانتفاضة الشعبية التاريخية أرست الأسس الأولى الممهدة لبروز تيارات اليسار الجديد، وفي مقدمتها “منظمة 23 مارس” الماركسية اللينينية، التي كان من قادتها ومناضليها شباب الانتفاضة، من سيساق جلهم إلى المعتقلات السرية والمحاكم والسجون.
***
قد تنكسر العاصفة، لكنها لن تموت، تظل تحيى بين نسائم الهواء وهبوب الرياح… بل هي كالنهر يظل مخلصا لمجراه، ولما يعانقه من جديد يحدث الفيضان والطوفان وتجري المياه كالأمواج في البحار…
إن روح الحق لا تموت أبدا.