الشّعر في يومه العالميّ.. ماذا بقي لنا منه..؟

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي
فى اليوم العالمي للشّعر الذي عشناه فى 21 من شهر مارس/ آذار الجاري ..إلى الشّعراء والشّاعرات الأفذاذ، فرسان وفارسات الكلم، وأمراء وأميرات القول، ومُرصّعو ومُرصّعات البيان، وعشّاق وعاشقات الشّعر وحلو الكلام وعذبه، أهدي هذه الباقة حول صناعة الشّعر، ومشاغله،ومضامينه، وأهله، وذويه،ورسالته السامية الرّفيعة فى حياتنا قديماً وحديثاً.
خلال دورته الثلاثين المنعقدة في باريس عام 1999، ولأول مرّة، كان المؤتمر العام لليونسكو قد اعتمد فى يوم 21 مارس يوماً عالمياً للشعر بهدف دعم التنوّع اللغوي، ومنح اللغات المُهدّدة بالاندثار فرصاً أكثر لاستخدامها في التعبير. ويُعتبر اليوم العالمي للشعر مناسبة سانحة لتكريم الشعر والشعراء، ولإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية التي عرفتها البشرية منذ أقدم العصور فى مختلف أنحاء العالم وأرجائه.
الشّاعر مرآة الرّوح في النفس البشرية
الحديث عن الشعر هو الحديث عن الكون الهائل المُحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشعر هو اللغة في أرقى مظاهرها، هو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض، وتساؤل واغتراب. هو ضرب من مناوشة الوجود. هو تعبير أفلاطوني، وهوميري، ولبيدي، وزهيري أزلي عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس. هو مخلوق يدبّ على قدمين دائم البحث عن القيم الجديدة. وهو ليس قصراً على التذوّق الفنّي أوالإحساس المرهف أو التسامر أو الانطواء أو الانتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، واستكناه لخباياه وأسراره، واستجلاء لغوامضه ومفارقاته، ومعانقة للآمال والآلام فى مختلف مراحله .
الشكوى عند الشاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عاتية. الشعر ليس هذراً بل لمح تكفي إشارته، وفكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضرب من المعاناة والنغوص والتوتّر حيناً ، وبالخيال المجنّح والاسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشاعر نغمة حزينة ، تعزفها أوتار القلوب المعذبة المكلومة، والقصيد نبع رقراق يتلألأ مشعّاً في أعماق النفس البشرية المحبّة العاشقة الولهانة.
فى منظور الناقد المكسيكي ”ساندرو كوهين”: فأنّ الشاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية. وهو الذي يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر كان الشعر في القرن الماضي يسمع ويقرأ من طرف العديد من الرجال والنساء، وأعني به الشعر المكتوب، أي الشعر الذي بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أو التقاليد”.
لم يعرف التاريخ من قبل وسائل ذات آثار واسعة مثلما هو عليه الشأن اليوم من مذياع وتلفزيون وسينما ، وأخيراً الإنترنيت، إنه منذ بضع عقود كان كل شخص مهذّب يقدّر مختلف الفنون الإبداعية وفي طليعتها الشعر، ويواظب على حضورها أو قراءتها.
وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقق مبيعاتها ما حققه بعض الكتاب والشعراء اليوم. ذلك أن الذي كان يُشترى منذ مائة سنة كان يُقرأ، سواء تعلق الأمر بديوان أو كتاب مطبوع. وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة؛ بل باقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ.
ويرى بعض ممّن يتعاطفون ويتعاطون الشعر أن الموسيقى والراديو والسينما والتلفزيون – حتى وإن كانت هناك بعض المفعولية والمعقولية في أهمّية هذه الوسائل- إلاّ أنه ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. فلا يمكننا أن ننكر أن هناك موسيقي ممتازة، وهناك أفلام تستحقّ أن تعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. وهناك كذلك إذاعات جيّدة. كما إنّ هناك تلفازاً متقدّماً ومتطوّراً في جميع أنحاء العالم، بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية، ومع ذلك يبقى ويظلّ الشعر الجيّد سيّد الفنون الإبداعية جميعها، بل هو أكثر الفنون قدسيةً ورفعةً وسحراً .
الشعر باقٍ ما بقيت الحياة
نحاول فى هذه العجالة رصد وسبر بعض القضايا التي لها صلة بالشّعر وهمومه، ومعاناته، وهواجسه، وأهله، وذويه، وعن العديد من التساؤلات المتوالية، والمتواترة التي ما فتئت تترى، وتطرح بين العديد من الكتّاب، والشعراء، والنقّاد، والمثقفين، بل والقرّاء أنفسهم حول الشّعر، ودوره، وماهيته، وكنهه، وعن بقائه، أو زواله، وموته وانقراضه، ومدى منفعته وجدواه، وقد سبق أن تساءل مفكّرون ونقّاد،ومثقفون وفلاسفة عن مآل الشعر ومستقبله، وهل هو ما زال صالحا وذا جدوى فى عصرنا الصّناعي الحديث..؟
تجدر الإشارة فى المقام الأوّل أنّ الشّاعر المكسيكي الكبير الرّاحل “أوكتافيو باث” (نوبل فى الآداب عام 1990 الذي تعرّفتُ عليه خلال عملي قائماً بأعمال سفارة المغرب فى مكسيكو سيتي أوائل التسعينيات من القرن الفارط)، أكّد لي من خلال تجربته الكبيرة، ورحلته الطويلة فى عالم الخلق والإبداع أنّ الشّعر باقٍ ما بقي الإنسان على وجه الأرض، وإليه يؤول الفضل فى العنوان الجانبي أعلاه، فى حين فإنّ غير قليل من المفكرين والفلاسفة قبله منذ ما ينيف على نصف قرن منهم على سبيل المثال وليس الحصر الفيلسوف الألماني الشهير “هيغل” كان قد تنبّا بموت الشعر ونهايته فى عصرنا.
والشّعر فى الواقع بعيدا عن هذه الإرهاصات والتكهّنات، هو الحياة بكلّ ما فيها من معان وأسرار وغموض ومفارقات، هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. هو عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة. الشّعر هوس إنساني وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله، والدنيا وأحداثها. الشّعر نقمة الوجود لأنّه كاشفه وهو قيد الحياة، وديمومة متجدّدة وخلق دائم لها. الشّعر أكثر الفنون هموما، وأخطرها بحثا، وأعمقها قضية، وأبعدها مراما، وأعلاها قدسية. إنّه قلب الدراما كما يسمّيه “ريتشاردز”وهو الرّوح الحيويّة الحائرة والهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود.
إذا كان “برجسُون” ينعي على اللّغة قصورَها الشديد فى التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعر قد فتح الباب على مصراعيه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها وإعطائها نفسا إبداعيا جديدا ، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها ، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول وحيرة وغموض . الشّعرالذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته ، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغاف قلوبنا، وقلوب المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء.
والشّعر ليس قصّة تروى، ولا منطقا يُدرّس،ولا فلسفة تُناقش، ولا قولا يجرى على ألسنة قادة كبار العقول، وفرسان الكلم،وهو ليس علما محدّدا، ولا غاية فى ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعا وما وراءها وما فوقها وما تحتها ، إنه علم ما وراء العلم، وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض ، وقلق واغتراب ، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وامتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تسري فى أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تفصح عن شكوى المتيّمين، الشّعر ضرب من مناوشة الكون ومناغصة الوجود ومناغاته، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها.
القصيدة الجيّدة تجسيد لصورة الوجود
والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود، تتعدّد فيها الدّلالات، وتتشعّب الرّموز، وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع ، هي التي تكاد لا تقول أيّ شئ ، وهي فى الوقت ذاته تقول كلّ شئ، والشّعراء أناس سيزيفيّون، دائمو الحيرة والقلق واتطلّع والتّوق نحو المجهول والعذاب والسّؤل عن كنه الحياة وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها.
والقصيدة باقية بقاء الدّهرلأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات، وهي ليست وقفا على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّا، لتضرب فى عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطير الأقدمين إلى علم المحدثين، إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء فى الكلّ والعكس. إنّها مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة لأنها ليست ذاته ولا حياته ولا تجاربه ولا معاناته ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه .وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود.
قال “مالارميه”: “إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهم سوى بضرب باهظ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة”، والقصيدة الجيّدة هي حوار مع الكون ، ومناوشة دائمة له، واستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية احتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشّاعر دائم المقاومة والتحدّي، شديد المراس، لا يؤخذ جانبه بسهولة ويسر. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المرهف، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، واستكناه لخباياه واستجلاء لغوامضه، ومعانقة للآمال والآلام. الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عالية عاتية.
الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته، وهو ليس شعرا إذا لم يهززك عند سماعه، وهو فكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضرب من المعاناة والنغوص والتوتّر حيناً، وبالخيال المجنّح والاسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات مختلفة حزينة مكلومة، والقصيد نبع رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة.
لماذا لم يعد الناس يقرأون الشّعر..؟
يرى بعض النقاد ان هناك العديد من العوامل التي أفضت إلى نقص واضح في قراءة الشعر، والاستماع اليه وجعلت من الصعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلّا أن هناك وجهة نظر بالمقابل لمحايد أو ملاحظ متضرّر وهو الشاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إننا ما زلنا نستمع إلى تعابير من قبيل: «إن العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنه لم يعد هناك مكاناً للشعر» أو: «إنها بكاملها ، فى طريقة مشيتها، وهندامها، وحديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنما هي قصيدة حقيقية». وإن التهديد بالحروب والجوع والأمراض الفتّاكة كلّ أولئك يعملون على بعث الكآبة في أقل الشعراء حساسية وشعور.
ويرى آخرون أن ذلك ليس عذراً مقبولاً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزينة والتنميق. فالشعر ما فتئ يُفهم عموماً في الغرب بأنه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. وترجع هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلا أنه عندما ظهر أمثال والت ويتمان (1819م) وشارل بودلير (1821م) وأستيفان مالارميه (1842م ) و أرثور رامبو (1854م) فإنّ أمثال هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشعر السحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه شيئاً فشيئاً.
إن كلمات أو مصطلحات مثل الأيديولوجية، الالتزام، النقد، التأمل، إعمال النظر، والاستنطاق قد أصبح لها من الانسجام والتوافق والحسن، والجمال الشيء الكثير. كما إن هناك نسبة من الشعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم ودواوينهم، ويتركون آثاراً بالغة في قرّائهم. بل إن بعضهم قد خلّف مدارس واتجاهات شعرية خاصة بهم، وهم بذلك إنما ينثرون بذورا لقلّة وضآلة القرّاء. إن بعض الشعراء الجدد عند هجرهم للاستنطاق بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا يبعدون القرّاء عن ناصية الشعر.
الشّاعر براءٌ من عدم قراءة الشّعر
الأغلبية الساحقة من القرّاء عندما كانوا يذهبون إلى الاستماع إلى الشعر يعتقدون أن الجديد سيدورحول مناظر رائعة، وعن كبار رجال التاريخ العالمي، وعن قصص الحب الحالمة،فى حين أنه قد تدور عن مناظر مؤذية ، أو عن طرق ووسائل الإبداع المبتكرة والمميّزة لشاعر مّا، هذا يحدث عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا القارئ سرعان ما يبدأ في الشعور بالملل فيبحث له عن وسيلة أخرى للتسلية والتسرّى. إلاّ أن هذا الحكم يتضمّن غير قليل من الإجحاف، لأنه يعتبر القارئ غبياً. وبالفعل فإن غير قليل من الشعراء الغربيين يعتبرون القارئ غبياً لا سبيل إلى إصلاحه، إلا أن ملاحظة الشاعرالمحايد هو أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الشعراء يعزون سبب فشلهم – من باب الجور والتجنّي- إلى الآخر. ذلك اللاّ مرئي والأقل اجتهاداً وهو القارئ. ويغيب عنهم أنه إذا كان الشعر لا يقرأ الآن كثيراً، فالسّبب ليس في القرّاء أو في الشعر في حدّ ذاته، بل في نوعية الشعرالذي أصبح يكتب اليوم ومدى جودته.
فماذا حدث بين أستيفان مالارميه، وجون أسبيري، وبين فيسينسيو كارداريلي، وروبين بونيفاس، وبين ت. س إليوت وأوكتافيو باث؟! ماذا حدث بين الكتاب والشعراء المولودين خلال العقدين الأوّلين من القرن الماضي. إنها مسألة ضآلة الشعر الجيّد. الواقع أن هناك تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، إن فنون القرن العشرين قد تميّزت بالتساؤل المستمر حول ماهية الفن ودوره. إنه بحث دائم عن هويّته، يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إننا لا نستطيع أن نستمر في الكتابة طبقاً لاستنطاقات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق والمسؤوليات التي تميّز إنسان العصر.
أغراض الشّعر ومضامينه قديماً وحديثاً
إن المبدع الحقيقي لا يحيد أبداً عن أهدافه وحاجاته ورغباته وهواجسه وهوسه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. ذلك أنه كلما ازداد علماً بعالمه المادي كلما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصغره في الكون. وعظمة وجلال كل ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره.
إنّه لمن الصّعب أن نجد الحلول الجاهزة والسريعة والواضحة للشعر. فقد أصبح الشعر بعيداً عن الدور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاتيني، والعربي بشكل خاص، عندما كانت مواضيع في الطبّ، والتاريخ، والفلسفة، والجغرافيا ، والدّين، والعلوم، والنحو تكتب شعراً. ناهيك عن الوصف والمدح والرثاء والهجاء والحماسة والفخر والغزل والتشبيب. فقد عمل الشعر على امتصاص جميع تلك المواضيع والأغراض التي قد لا تجد لبعضها مكاناً في الشعر اليوم.
الشّعر بين الشمول والتجزيئ
كما أن الشعر قد فقد إحدى خاصّياته الكبرى وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. إن الكوميديا الإلهية ”لدانتي أليغيري ” (المستوحاة كما هو معروف من رسالة الغفران لرهين المحبسين شاعر الفلاسفة أو فيلسوف الشعراء أبي العلاء المعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية شمولية متكاملة منسجمة. كان دانتي يريد أن يقول كل شيء في ملحمته. ومنذ زمن غير بعيد كان ” الكاتب الأرجنتيني الضرير – البصير خورخي لويس بورخيس” يعرب عن ارتياحه وانشراحه وغبطته عند عثوره على بيت واحد من الشعر الجيّد الجدير بالقراءة في عمل مّا أو في ديوان شاعر. كانت باكورة أعمال بورخيس الإبداعية تحمل اسم حرف «الألف» العربي تعبيراً عن إعجابه الكبير بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضاد الجميلة . ومثلما كان يُعاب على شاعرنا العربي القديم أبي تمّام أنّه كان يُتّهم بأنه يقول ما لا يُفهم ، فكان يجيب ولماذا لا تفهمون ما يقال..؟! ، فإن بعض الشعر اليوم لم يعد يُفهم. ثم إنه في نظر البعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية نادرة، وانصرف نحو التجزيئ. وكان الشعر الحقيقي فيما مضى من العقود والقرون يُفهم ويُقرأ ويستوعب بسهولة ويسر.