في ذكرى انتفاضة 23 مارس 1965: التحديات التي تواجه اليوم قوى اليسار

عبد الرحمان الغندور
في ذكرى انتفاضة 23 مارس 1965 التي شكلت رحمنا النضالي والسياسي، لن نتوارى أو ننسحب، ولن نزرع اليأس، وسنفتح دائما ثقوبا لنور الأمل.
حضرت يوم 23 مارس الذكرى 60 للانتفاضة التي حركت فعل التغيير في هذا الوطن، وحركت معه فعل الاستبداد والقمع بكل أشكاله، ومنها انطلق بناء المغربين، مغرب الأمل في التغيير نحو العدالة والكرامة والحرية والديموقراطية، بقيادة اليسار بكل أطيافه، ومغرب النهب والاستغلال والفساد والقمع والتنكيل. بقيادة ما اصطلح عليه بالمخزن ومن يدورون في فلكه من طبقات وأحزاب. وظل المغربان ينموان ويتطوران في مواجهة بعضهما بين مطلب دمقرطة الدولة والمجتمع وإصرار تكريس مخزنتهما لفائدة الأوليغارشية ومن يوجهونها من قوى دولية.
لكن ثقافة محو الذاكرة، ونسيان التاريخ القريب، فعلت فعلها الآثم، حتى إن الذكرى مرت ولم يتذكرها ويستحضرها سوى القليلون ممن عاشوا أحداثها، وسط جهل كلي من طرف الأجيال التي لم تعشها، وتناسي قاتل ممن كانوا من مواليدها أشخاصا وتنظيمات.
ولأني من الجيل الذي صنعته انتفاضة 23 مارس 1965، وأمام الضحالة والرداءة الزاحفة التي دفعت بعض الناس الى احتلال المنابر والشاشات، يمحون التاريخ، ويدافعون عن البهتان بوجه لا يعرف الحياء، يلتمسون من وراء ذلك فتاتا أو حتى التقاط صورة مع فاسد كبير…
وأمام الصمت الذي لا معنى له لمن ولدوا في رحم هذه الانتفاضة وكانوا دائما في واجهة التصدي والمواجهة، وقد كنا رفاقا أو إخوانا نحمل شعلة التغيير، وكافحنا من أجل عدالة كنا نعرف أنها لن تتحقق إلا إذا انتزعناها، ها نحن اليوم نرى مسارنا وقد تقطَّعت بنا السبل. بعضنا غادر الحياة، وبعضنا تقاعد عن النضال قبل أن يتقاعد عن العمل، وبقي البعضُ الآخر يتخبَّط بين شعاراتٍ لم تعد تسمع حتى من طرف مردديها. والأفظع أن منا من أصبح انتهازيا يختفي خلف واقعية تبريرية، أو يتوارى وراء حداثةُ زائفة، ومنا من وجد في الشعبوية مجالا يرفع فيه لافتاتٍ جوفاء وشعارات باهتة يخوض بها معارك وهمية في هوامش رديئة وهو في نفس الوقت يتعاون مع أسوأ وجوه النظام. ومنا من تحول إلى براغماتي قصير النظر، يبرر كل خضوع وانحناء باسم الوطن والمؤسسات وأسبقية الاستقرار، حتى أنه يعطي الأسبقية للتطبيع والتصهين على القوت اليومي للمواطنات والمواطنين. ومنا من انزوى في انعزاليةٍ قاتلة تلتمس، الهروب من السقوط في الحضيض، وكأن الهزيمةَ تُغسَل بالصمت. والهروب لم يكن يوما حلاً. اليسار الذي تخلى عن يساريته الفكرية والتنظيمية والتأطيرية، ورضي بأن يكون ظلاً للسلطة أو صوتاً منفصلاً عن الواقع، لم يعد يساراً. إنه شبحٌ من الماضي، تحرِّكه نوستالجيا المبادئ من دون جرأة المواجهة.
اليسار كان دائما يرفض المساومة على الحقوق، ويصنع الأملَ حتى في أحلك اللحظات؟ وها نحن اليوم في بيوتٍ مغلقة، نناقش فيها فشلنا كما لو كان قدراً محتوماً؟
الوقت لم يفت بعد. التاريخ يحاكمنا، ليس فقط على ما فعلنا، بل على ما لم نفعل. إما أن نعيد اكتشاف روح اليسار بالنقد الذاتي وغرسها في جماهير الشباب التائهين لتنبت في زمن آخر أو نسلِّم بأننا صرنا ظلا باهتا أو جزءاً من النظام الذي حاربناه طيلة حياتنا.
وحتى لا نكون عدميين ولا طوباويين، وحتى نبقي على جذوة 23 مارس مشتعلة ضد من يسعون إلى إطفائها وقتل بعدها التاريخي، ندعو بقلب صادق وعقل متفتح إلى :
-1 ضرورة إعادة البناء التنظيمي والفكري لليسار بتوحيد الجهود والعمل على تقريب وجهات النظر بين مكونات اليسار لتجنب المزيد من التشرذم، بل الدفع نحو تحالفات أوسع مع من يشاركوننا نفس الشعارات من مختلف القوى ولا سيما جماعة العدل والاحسان.
– 2 ضرورة تطوير خطاب يساري يتجاوز الشعارات التقليدية، ويعالج قضايا الناس المباشرة (مثل العدالة الاجتماعية، البطالة، التعليم، الصحة، عدم المساواة الجهوية).
3- ضرورة تجديد مفهوم ربط النظرية بالواقع بتقديم حلول عملية لمشاكل المغاربة اليومية، بدل الاقتصار على النقد الأيديولوجي المجرد.
4- الانخراط في القضايا الاجتماعية والحراكات الشعبية وذلك بدعم قوي ميدانيا فيها دون الاهتمام بالداعين اليها ومحاكمة نواياهم ما دامت تطرح قضايا تهم الناس والمجتمع. وتقديم بدائل سياسية واضحة وممكنة.
5- التواجد في الميدان بتقوية الحضور في العمل النقابي والجمعوي، والانخراط في النضالات المحلية (السكن، الخدمات الأساسية، البيئة…).
6- الدفاع عن الحريات بالتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان وتراجع الحريات العامة، مع ربط ذلك بصراع أوسع من أجل الديمقراطية.
7- التواصل مع الشباب والفئات المهمشة عن طريق استقطابهم عبر خطاب يتناول طموحاتهم (مثل إصلاح التعليم، فرص العمل، الهجرة، المشاركة السياسية).
8- التركيز على القاعدة الشعبية بالابتعاد عن الصراعات النخبوية، والعمل في الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة.
9- استخدام الأدوات الرقمية وتطوير استراتيجيات اتصال وتواصل حديثة (منصات التواصل، بودكاست، فيديوهات توعوية) لجذب شرائح جديدة.
10- التفاعل مع السياق السياسي الراهن وذلك بنقد السياسات الحكومية: كالنيوليبرالية المتوحشة، الخوصصة، تدهور الخدمات العامة، وزواج المال والسلطة والفساد في مختلف المواقع، مع تقديم بدائل ملموسة .
11- فضح تحالفات النظام: مثل تحالف “الأحزاب الإدارية” مع المخزن، وإبراز تناقضاتها.-
12- التحالفات المنفتحة: مع قوى ديمقراطية أو حقوقية دون التخلي عن المبادئ، خاصة في معارك مشتركة (كإصلاح الدستور، الانتخابات الحرة، محاربة الفساد).
13-التعامل مع الإطار الدستوري والمؤسساتي بإيجابية نقدية وذلك عن طريق المشاركة في الانتخابات مع توضيح حدودها في ظل النظام الحالي، وربطها بالنضال خارج المؤسسات، والاستمرار في المطالبة بإصلاحات ديمقراطية مثل فصل السلط، استقلال القضاء، إلغاء الانتخابات الموجهة.
13- عدم الاكتفاء بالحضور البرلماني مهما كانت نسبة التمثيلية، فاليسار لا يمكن أن يكون فاعلًا دون وجود حركة اجتماعية قوية تدعمه.
14- التضامن الدولي والإقليمي عن طريق بناء تحالفات مع قوى تقدمية عربية وأفريقية لمواجهة سياسات الهيمنة الرأسمالية والعولمة المتوحشة.
15- التنسيق مع المنظمات الأممية لنشر قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية في المغرب.
إن هذا المنظور المقترح يستحضر بقوة مختلف التحديات التي ستواجهه، وعليه أن يكون واعيا بها ومستعدا لها، كالقمع السياسي وتضييق هامش الحرية. وهيمنة الخطاب المحافظ أو الليبرالي المهيمن، وضعف الثقافة السياسية اليسارية لدى الأجيال الجديدة. وصعوبة الفصل بين العمل السياسي والمؤسساتي في نظام يتحكم فيه المخزن باللعبة السياسية.
وخلاصة الكلام، فاليسار المغربي مطالب اليوم، أن يجدد أدواته ويبتعد عن القوقعة الأيديولوجية، مع الحفاظ على مبادئه في العدالة والحرية والكرامة وحقوق الانسان. والنجاح لن يأتي دون بناء تحالفات واسعة مع الحركات الاجتماعية، وإعادة الثقة بينه وبين الجماهير التي يحتاج إليها، والتي تحتاج إليه.