المقاهي والجريدة

المقاهي والجريدة

  نجـيب طلال

         هل نحن تغيرنا، أم الزمان سبب هذا التغييرالمفاجئ؟ ربما زمن ممسوخ ، ميتامورفوزي؟ أم نحن أصبحنا “ميتامورفوزيين” تقريبا كـ (غريغور سامسا) شخصية رواية “كافكا/ المسخ”، لهذا هل أصبحنا “كافكاويين” بالمعنى المجازي. بحكم أننا نعيش وضعا غرائبيا وعجائبيا، أضحى يتضمن طقسا/ طقوسا ما اعتدنا عليها سلفا، كثير منا (الآن) يبحث عن الأنس والمؤانسة، فلم يجـدها كالأمس القريب، لقد اختفت وجوه المؤنسة ، وشباب الابتسامة والنكتة الفرجوية. فأمسى المرء انعزاليا في (صومعته) بعيدا عن العلائق والصخب وحيوية الحياة ضجيجها، لقد حدث انحدار وتغير في القيم والمكانة الاجتماعية، واختلاط في الكلام والمعاني هل المجتمع أمسى يشيخ؟ فكل شيء تغير وتبدل سؤال ينطرح بين الفينة وأخرى على ألسنة العديد من العباد وفي أغلب أرجاء البلاد، هذا التحول الحالي بين الأمس واليوم. مخالف لحالتنا الأولى. نعيش يومنا وأيامنا بشكل مهول؛ مذهل. حيث أمسى الشهر أسبوعا، والأسبوع يوما، هكذا يشعـركل منا لحظة اختلائه بنفسه أو انزوائه في ركن (ما) وخاصة في إحدى زوايا المقهى، هـذا إن بقي يرتادها ويعشقـها؟

ذاك الفضاء الذي كانت له أجواءه ونكهته الخاصة، وملاذ العديد من الناس، وشرائح المجتمع.. المقاهي (كانت) بوثقه اللقاءات الخاصة والحميمية بين روادها وزوارها و تبادل الأخبار والمشاورات  والاطلاع على المستجدات بين هذا وذاك. فيها كان ركن “التعارف” الصادق والنبيل. موازاة بركن التعارف الذي كان في الجرائد والمجلات كالأطلس/ المشاهد/…/قبل أن تكون فضاء للترفيه وتذويب عناء العمل وخلافه من أشغال خاصة، إنه نادي حقيقة للتزاور اليومي تقريبا بين الإخوة والأصدقاء والرفاق. حتى أمست أغلب المقاهي لديها زبائن معينة، فالوافد الجديد يعرفونه بسرعة برق، لكن حينما تتأمل حتى في المقهى، تستشف أنها تغيرت وتغيرت طقوسها اليومية، ليضاف السؤال هل الزمان سبب التغيير؟ أم نحن تغيرنا؟ أم مقاهي الأنس والذكريات فرض عليها أن تتطور، بعد زحف أخواتها  خارج مدار المدن؟ يا ليتها تطورت للأفضل، أوبقيت على سجيتها وطقوسها المفضلة. وأعجب طقس تلك الأغاني الصباحية لمطربين عرب ومغاربة، طرب سلس ينبعث من مذياع صداح .مذياع يذكرك بزمن “هتلر” واكتساحه أوروبا بالنار والحديد، وبزمن انقلاب ضباط الأحرار والنكسة العـربية، مذياع خاصيته في شكله ، وجوهره  في استرسال الكلام الهادئ والمتزن، مرفقا بإدراج حلاوة الطرب الصافي، بدل الإسفاف من الأغاني الموسمية، وانبعاث ضحكات مجانية بين لحظة وأخرى في برامج ما أنزل الله بها من سلطان، ناهينا عن رطانة لغوية وهجانة حوارية ! كان المذياع في المقاهي وتحول لتلفزة تتنوع أحجامها حسب مقام “المقاهي” تلفزات منصوبة في الداخل والخارج، من أجل كرة القدم الأوربية، إنه الاستيلاب اليومي، قبل استجلاب الزبائن… إنه التطور، وليس تبدل الزمان، لأن الصبح صبح. والعشية عشية. بلى ! مشرق الشمس كعادته؛ وللشمس دورتها، إلى حدود الغروب ليستبدل المشهد  ببهاء القمر- ليلا- لحظة اكتماله. لسنا هنا نوستالجيين، ولا شعراء. ولكن نتساءل كبقية أجيال ما قبل “الأيفون” جيل “منتصب القامة أمشي” و”شافوني الناس بالصنارة ” و” القمر الأحمر” ورعيل” ناح النوّاح والنوّاحة على بقرة حاحا النطاحة” و”فين لتجمعو عليك أهل النية”…آه ياالصينية! وآه من تحول يصعب الإمساك بخيوطه، حينما نتذكر حضور المذياع والجريدة في المقاهي، ياله من طقس متفرد! امامك جريدتان يملأن ويتصدران فضاء المقهى، لا ثالث لهما. ربما الثالثة في بعض المقاهي. عجبا جريدتان يتناوب الزبناء عليهما بدون خلفية سياسية، أو تأطير فصائلي. إنها لوعة القراءة  ليس إلا. وشغف الإطلاع على المستجدات من التنوع المعرفي/ الإعلامي ، الذي كانت تقدمه الجريدتين، وأغرب ما يمكن أن تظل الذاكرة تذكره، ففي شمال بلادنا وبالضبط (تطوان) حيث كل المقاهي كانت تتزين بالجريدتين. كل جريدة منصوبة بعصا (!) ومرارا كنت أسأل أهل “تطوان” من صاحب هـذا الاختراع الجميل: تلك العصا الجامعة للصفحات؟ لم يستطع أحد إمدادنا من يحمل براءة الاختراع ، إنه الإيثار: ربما؟ ونكران الذات: على ما يبدو؟ لأن وضع صفحات الجريدة حاشيتها (عصا) لتصبح الجريدة في شكل كتاب لم تأت من فراغ. ولكن الثابت في ذاك الإنجاز: بأن الجريدتين كانتا ملكية مشتركة بين الزبائن، مشهد عجائبي: كنت لا ترى إلا العصي تتلوح من المائدة، فلا ترى حاملها ولا وجه من يتصفحها، والمدهش أنك كنت ترى الذي بجانبه يتلصص لقراءة القصاصات. مشاهد عجيبة، ولوحات دينامية كانت، تزين المقاهي…. ضاعت بضياع عقارب زماننا. بـ “فاس” كانت المقاهي تطبع اسمها على “الجريدتين” حتى لا تخرج من فضائها ، أو تختلط مع “جريدة” أحد الزبائن، وذلك تلافيا للمناوشات. حتى أن بعض المقاهي أمست تقتني أربع نسخ من كل جريدة، لتلافي انتظار الزبائن على الصحيفتين، هذا قبل ظهور بعض الصحف قيل لنا إبان ظهورها (أنها) حرة ومستقلة؟ والتي اكتسحت بدورها المقاهي، إنه تنوع مشروع: لأن قراءة الجريدة كانت مظهرا من مظاهر المقاهى. هي المؤنس، حسب معنى محمود درويش [مقهى، وأنت مع الجريدة جالس/ لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ] هي فعلا كذلك قبل حضور ركب الأصدقاء والشلة المعتادة. وبدون منازع ولا مزايدات كانت “الجريدة” إحدى المكونات الفاعلة في حياة المقهى. وفي المشهد العام. وهنا يمكن للقارئ “المفترض” أن يتذكر مئات “المقاهي” كل مقهى كانت لها نكهة خاصة، وفيها حكايات وحكايات بين روادها، وروادها مع الجريدتين، هل نتأسف عن هاته المعلمة الإجتماعية، التي في الأصل كانت دخيلة، ولكنها حققت هُـويتـَها في هويتـِنا. فـ (الآن) رغم تعدد المقاهي وتنوعها! فلم تعد لها تلك الطراوة والنكهة الخالصة، ليس بسبب غلاء المشروبات بل نتيجة تغير الزمان في كينونة البشر، والبشر في خيوط الزمان.

تأكيدا بأن المقهى والجريدة بمثابة جـسد واحد (كانتا) إذا ما نظرنا أن أغلب الأعمال الأدبية والصحفية. بعضها كـُتب في “المقهى” وانكتبتِ المقهى على الورق كفضاء حيوي/ اجتماعي في بعض النصوص القصصية والروائية والشعرية والخاطرة والشذريات… هل بتبدل حال المقاهي تبدل الإبداع ، وتكسلت المخيلة؟ أسئلة ليست قصدية بل تتناسل من تلقاء نفسها، لأننا في تحول رهيب، تحول استنزف طاقتنا وذهنيتنا، وحتى المقاهي طلقت الجرائد، لتصبح رحابا للكسل والترف الزائف، كل منا يعانق هاتفه الخلوي (؟) حتى أصبحنا خلويين بالرفع والنصب تأكيدا! نبحر في اليم الأزرق ونسبح في عوالم “التيك توك” و”اليوتوبات” لتتبع وترديد أسماء فاقت رجالات الفكر والأدب والسياسة ببلادنا، رجالات كافحوا من أجل اشتعال وإنماء الحروف بين السطور، واستنهاض الهمم وإيقاظ الفكر، لكي يشتغل العقل كقبس من نور. وبالتالي لا محالة جيل ما قبل الأيفون ستسترجع به الذاكرة ليكتشف تلقائيا: بأن الجريدة كانت كتابا مفتوحا في مؤسسة شعبية “المقهى” والتي كانت تضم كل الأطياف والأجناس والمقامات… المسألة ليست نوستالجيا صرفة، بل تذكير وتذكر قبل إقفال سجل التاريخ الورقي.

Visited 24 times, 24 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب طلال

كاتب مغربي