هل أتاك حديث ماريا هايم: المرأة التي قالت لهتلر لا

هل أتاك حديث ماريا هايم: المرأة التي قالت لهتلر لا

لحسن أوزين

“إنها الرافضة، المعارضة، التي تحدت الجميع وقالت «لا » بكل حزم، رافضة الانصياع” لما لا يتوافق مع قناعاتها”15

           في هذا الكتاب “المرأة التي قالت لهتلر لا”، تواصل الدكتورة إشراقة مصطفى تسليط الضوء على عطاء النساء المغمورات، اللواتي تم تهميش كفاحهن المعرفي والعلمي والسياسي الاجتماعي. حيث غالبا ما كانت المدونات التاريخية ذكورية عرقية طبقية… تعبر عن سطوة وتغلب الفئة الحاكمة. حيث تكون المدونة التاريخية الرسمية حاملة لمصالح اقتصادية مادية، ورؤى فكرية سياسية اجتماعية، واهتمامات معرفية ثقافية، تخص النظام الأبوي الاستبدادي المتسلط. وهذا ما يؤدي الى تشكل المسكوت عنه والمقموع والمطموس والمنسي، والممنوع أو المستحيل التفكير فيه. لذلك يضعنا الحفر التاريخي والفكري فيما وراء مشهدية تاريخ الغالب والمسيطر. فنجد أنفسنا أمام كم هائل من المقموع والمسكوت عنه.

انطلاقا من هم معرفي بحثي وسياسي، وجدت الدكتورة إشراقة مصطفى نفسها معنية بكتاب “المرأة التي قالت لهتلر لا”، فالأمر بالنسبة لها يتجاوز الحديث عن حالة معزولة خاصة لامرأة شجاعة وقفت في وجه نظام طاغية دموي، وعبرت بكل جرأة عن رفضها لضم النمسا إلى ألمانيا في استفتاء غير شرعي، ومشبوه قهري أقرب إلى فرض الاحتلال بأدوات ذاتية لا تخلو من العبودية والمهانة والإذلال. فما حدث في النمسا تكرر في الكثير من البلدان ولا يزال يحدث عبر التاريخ البشري للمهمشين والمقهورين، في التغييب الكامل لكل تضحياتهم وعطاءاتهم وحضورهم الفاعل في الواقع الاجتماعي التاريخي. حيث تم السطو من قبل الحكام على تاريخ هؤلاء، الحافل بالعطاء والكفاح والفعل المنتج الخلاق. كما تم قمع وتهميش مختلف حالات الرفض والتمرد والعصيان المعرفي والسياسي الاجتماعي والفكري.

لهذا ليس غريبا أن ترى الدكتورة إشراقة في موقف ماريا هايم، المرأة التي قالت لهتلر لا، الكثير من النقاط المشتركة بينها وبين تاريخ النساء المطمور والمنسي والمهمش. مثلما عاشته الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا من جبال النوبة في السودان.  فالتهميش والنبذ والإقصاء مس العشرات إن لم نقل الآلاف من النساء والثوار من مختلف المرجعيات و الخلفيات الفكرية والسياسية، والانتماءات الاجتماعية، و التخصصات العلمية والمهنية والفنية…

بلغة جميلة رحبة المعاني ومضيافة للقارئ الممسوس بعشق القراءة وجمالية الكتابة الأدبية الفنية، تقدم لنا المترجمة والباحثة الدكتورة إشراقة مصطفى هذه السيرة المزدوجة، والمتعددة الأبعاد التي عاشها وولفجانج مارتن روث ، طفلا وشابا ورجلا متقدما في العمر، في سياق تاريخي، من الحرب الأوربية الثانية. حيث عانت البشرية  أشكالا فظيعة من استباحة الحياة إلى حد القتل وسفك الدماء وتخريب العمران والمعاش، وتفكيك الأوطان . إنه سياق من الرعب النازي الرهيب، والرأسمالي الاستعماري الامبريالي المتوحش.

“إلى ألتاوسي بعد عشر دقائق، وعندما مررنا بلوحة القرية وقرأت الاسم، تذكرت كيف قال والدي إنني كنت صغيرًاً جد اًّ، صغيرًاً جد اًّ لفهم لماذا كان هناك امرأة في هذه القرية تدُعى (الرافضة)، الصوت المعارض، صاحبة صوت لا…”.

 في هذا الكتاب، يشهد الكاتب على نفسه، وعلى ماريا والمجتمع والتاريخ السياسي الاجتماعي للحروب والمآسي التي عرفتها أوروبا، في تلك الفترة المظلمة من التاريخ الحديث للحداثة الغربية.

 عاد الطفل القابع في الحفر النفسية للرجل الذي صاره الكاتب، عاد بعد خمسين سنة لعله يجد إجابة شافية لجرحه النفسي، ولسؤاله حول سر المرأة التي وصمها جميع سكان القرية ” بالرافضة” المشحونة بالدلالات السلبية، تبخيسا لجرأتها وشجاعتها. لأنها وحدها صوتت ب “لا” ضد ضم النمسا من طرف ألمانيا النازية. ولذلك أرعبت الجميع بجرأتها وشجاعتها التي رأوا فيها نوعا من الاختلال والاضطراب العقلي والنفسي. عوض الاعتراف بقدرتها وشجاعتها في رفض مشروع هتلر في السطو على بلادها. في ذلك التاريخ البعيد  لم يفز الطفل/الكاتب بالجواب عن سؤاله حول سر تسمية المرأة بالرافضة، بدعوى أنه صغير.

“تلك الجروح الصغيرة هي التي تبُقي بعض الأشياء حية فينا، أشياء كنا قد نسيناها منذ زمن طويل، ولكنها تعود حتى بعد خمسين عاما، وأعترف بكل سرور أنه كان التحدي الخالص هو الذي جعلني أقرر البحث عن هذه القضية هذه المرة”18

 الشيء الذي خلف في نفسيته وصما حقيرا يقلل من قدراته على المعرفة والفهم. لقد جرب هو أيضا لعنة الوصم السيء. لهذا كانت تجربته النفسية الدافع للبحث عن حقيقة الظروف والملابسات التي أدت بالقرية الى وصم ماريا بالرافضة، وهي العلامة المشحونة في نظر أهل القرية بالتهور والشبهة والاضطراب النفسي الاجتماعي.

لكن الكاتب عاد بمسؤولية لرد الاعتبار لنفسه ولتاريخ المرأة التي همشت، في حياتها وموتها. عاد ليسهم في إماطة لعنة الوصم السيء عن نفسه، وعن تاريخ ماريا، حتى تأخذ كلمتا ” الصغير”  و” الرافضة” بعدها السميائي النبيل في الوقوف في وجه النظام الأبوي الجاهل بحقيقة الطفولة. وضد البشاعة النازية في ابتلاع سيادة بلدة ماريا، والحجر على حريتها واستقلالها.

ومع كل يوم في قرية ألتاوسي كانت أسئلة المرأة الرافضة تتناسل في نفسية الكاتب، إلى جانب جرح الطفولة الذي أخذ يعتلي منصة التحدي، ويتصدر اهتمامات الرجل. الشيء الذي جعله عازما ومصرا على كشف الحقيقة التي أحاطت بمارية المرأة الرافضة. هكذا صار منشغلا ومهووسا بالبحث عن الأسرار التي تقف وراء شجاعة هذه المرأة في رفض ضم النمسا والتنازل عن استقلال بلادها.

 «من أين استقت شجاعتها لتتصدى لهذا التوجه العام؟ .»ربما كان ذلك نوعا من التحدي أيضا، محاولة طمس جرح قديم في نفسي، لكن هناك شيء آخر؛ إذ كنت مفتونا بهذه المرأة الجسورة، المرأة التي لن تغادر ذهني بعد الآن، مفتونا بسيرتها”26

هكذا وجد الكاتب نفسه مأسورا بشجاعة هذه المرأة، وبقوتها المدنية في ممارسة حقها في الرفض والتصويت بـ: لا، ضد ضم النمسا الى ألمانيا في ما كان يعرف بـ”الأشلوس”.

لهذا قام بالتقصي والبحث لمعرفة كيف تشكل هذا الحدث والفعل الشجاع من طرف امرأة، لا شيء يميزها غير حريتها وإرادتها واستقلالها في التقرير والتصويت والتعبير عن رأيها. فانطلقت عملية البحث في كل ما يمكن أن يفتح سبل تطوير وتعميق المعرفة و البحث. وهذا ما جعله يلجأ الى بعض الصحف القديمة التي غطت حدث التصويت في استفتاء الضم،، في عام 1938.

“الاستفتاء الشعبي والبرلمان الألماني الكبير: هل توافق على إعادة توحيد النمسا مع الرايخ الألماني الذي تم في 13 مارس 1938،

وتؤيد قائمة قائدنا أدولف هتلر؟

صوت واحد ضد الاستفتاء الذي جرى بشأن ضم النمسا إلى

ألمانيا «الأنشلوس») تمت عملية «الضم » في 13 مارس 1938″ 29

لقد وقفت ماريا في وجه انبطاح الجميع أمام قوة النازية، وكل الأحزاب والجمعيات السياسية والمدنية بمختلف توجهاتها اليمينية واليسارية. وكانت أيضا الوحيدة التي تمردت على إجماع الكنيسة للتصويت لهذا الضم للنمسا. فهؤلاء جميعا رحبوا بفرح عارم بهذا التصويت، بما في ذلك رئيس منطقة ألتاوسي.

“أيها الرجال والنساء من منطقة باد أوسيه! في هذه الأيام، بعد الاعتراف الرائع في العاشر من أبريل، نشعر جميعا بسعادة وفخر لا يوصفان. أشكركم من أعماق قلبي لأنكم في هذا اليوم اتبعتم صوت دمائكم ونداء قائدنا المحبوب بطريقة مثالية.

“للغاية. تحيا أرض أوسيه الجميلة الألمانية! يحيا قائدنا المحبوب أدولف هتلر!”33و34

ولم يكتف الكاتب بما جاء في الصحف من أخبار ومعلومات تكشف الاحتفالات والاجماع الذي سيدته كل التنظيمات النازية من الشباب والفتيات، والجهات الرسمية المسؤولة، عن ربح هذه الاحتلال في صورة الضم والاندماج. لقد أجرى الكاتب مقابلات بحثا عن شهادات شفوية عاش أصحابها الحدث بكل تفاصيله.

“شهد مركز الاقتراع في فندق بيرندل إدلاء 1012 صوتا، منها 1 101 بـ «نعم »، وصوت واحد بـ لا  يحمل في طياته صدمة الجماعة.”37

وتجسد التعلق الكبير للكاتب بماريا الى درجة دفعته الى البحث عن كل ما يخصها في محاولة منه تحدي النسيان والتهميش والاحتقار الذي عاشته ماريا، وعانت من ويلاته وهي حية وميتة. كان مصرا على تفجير المنسي والمهمش الذي طال مرحلة تاريخية مما تعرضت له النمسا أمام تغول وتسلط وتوسع النازية. بالإضافة الى قناعته النفسية العميقة بضرورة رد الاعتبار لامرأة مارست وعاشت بقوة وشجاعة حق الرفض، ليس فقط في وجه توحش النازية، بل أيضا ضد ساكنة البلدة بكل فئاتها ومكوناتها. وبالتالي كتابة تاريخها المشرف في تجسيد قدرة الإنسان على قول لا، والتعبير عن الرفض الصريح للاحتلال والاحتواء والسيطرة…

لم يتوقف الكاتب في بحثه، عن كل ما يمكن أن يشكل التاريخ المجهول والمغمور والمنسي، لماريا هايم كوسلر، هذه المرأة الشجاعة الرافضة للخنوع.

فقد استطاع الكاتب من خلال هذا الكتاب/ السيرة للمرأة الرافضة أن يثير التفكير والاهتمام والنقاش بين كل للذين عرفوا ماريا بشكل أو بآخر. لقد خلخل الصمت وأزاح بعض كتبان النسيان عن تاريخ هذه المرأة الشجاعة، كاحتفاء وتكريم لها ولقيمة فعلها الأخلاقي والمدني.

“لقد غابت صاحبة الصوت المتفرد، الوحيدة التي التزمت التصويت ب «لا »، عن ذاكرة ألتاوسي منذ وقت طويل، إلا أن رد الفعل على هذا الكتاب يكشف عن مدى تغير الزمن، ليس فقط بسبب الحاجة إلى طبعة ثانية، بل لأن النقاش حول هذا الموضوع بدأ يتجدد داخل المدينة نفسها.”55

وهذا ما جعل من هذه السيرة مشروعا مفتوح النهاية، تضاف لها المزيد من المعلومات التي تخص تاريخ هذه المرأة الشجاعة. وبذلك يكون الكاتب قد أسهم تأسيس ثقافة الاعتراف والإنصاف بتضحيات الذين واللواتي تعرضن للنبذ والإقصاء والنسيان. وفي الوقت نفسه هو اعتراف وبناء للوجه الآخر المغيب من تاريخ المجتمع ككل.

الهامش

روث، وولفجانج مارتن، ” المرأة التي قالت لهتلر لا”-  ترجمة الدكتورة إشراقة مصطفى- دار صفصافة للثقافة والنشر- الطبعة الأولى 2025

Visited 46 times, 46 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي