الهجرة إلى فرنسا.. تاريخ مكتوب بالدم ودموع الفرح

الهجرة إلى فرنسا.. تاريخ مكتوب بالدم ودموع الفرح

 علي بنساعود

        أمس صباحا، وقفت على صورة لهرمين من أهرامات الثقافة الفرنسية والإنسانية، هما الفيلسوف _الأديب _ الناشط السياسي جان بول سارتر والفيلسوف ميشيل فوكو، يتظاهران مع عموم المواطنين، بباريس، احتجاجا على اغتيال مراهق (16 سنة) من أصول مهاجرة، يوم 27 نونبر 1971، على يد رجل شرطة، ومعلوم أن هذا الحادث وما خلفه من تظاهرات احتجاجية، ومشاركة كبار المثقفين فيها، دليل على ما عاناه المهاجرون، ومازالوا يعانونه، بهذا البلد منذ قرون!

مناسبة الوقوف على هذه الصورة هي زيارتي “للمتحف الوطني لتاريخ الهجرة” بباريس، وهو متحف يستحق الزيارة فعلا، إذ هو فضاء يعبق بالتاريخ، تاريخ مكتوب بالدم ودموع الفرح، فضاء يسافر بزواره في رحلة تمتد من سنة 1685 حتى الآن، فضاء يحاول التعريف بتاريخ الهجرة والمهاجرين في فرنسا، سعيا من أصحابه إلى خلخلة الأفكار النمطية، والمساهمة في الجدل الدائم حول هذا الملف الشائك، رغم كل العقبات والانتقادات.

وخلال الرحلة التي يقترحها المتحف، انتقلنا كزوار بين صور لمهاجرين في مخيمات تحت القناطر في العاصمة الفرنسية، جنبا إلى جنب مع صور الأوكرانيين الذين تم استقبالهم بالأحضان! فضلا عن بيانات ديمغرافية من دراسات حديثة في الموضوع، علاوة على أنه يحاول، بصور ووثائق هوية وعقود عمل، أن يحكى قصص الترحيل والمأوى والمنفى والجنسية…

بعبارة أخرى، يحاول المتحف، وبوسائل مكتوبة ومسموعة ومرئية، بعضها فني وبعضها مباشِر، أن يطلع زواره على تاريخ فرنسا المشترك، ويبرز كيف أثّر المهاجرون في المجتمع الفرنسي؟ وكيف طبعوه؟ كما يحاول إبراز التغلغل التدريجي للهجرة في كل مجالات المجتمع، وأن الهجرة جزء لا يتجزأ من تاريخ فرنسا، وأن واحدا من كل ثلاثة فرنسيين، حاليا، مهاجر، أو ابن مهاجر أو حفيد مهاجر…

هذا ويحاول المتحف أن يبرز واقع الهجرة، اليوم، وهي، حسبه، بوجهين، وجه عبارة عن قارب مُحمّل بحزم من الأقمشة الإفريقية، كما عبر عنها عمل للفنان الكاميروني بارتيليمي توغو، الذي يحمل عنوان «الطريق إلى المنفى» ويجسد الأخطار التي تواجهها قوارب المهاجرين خلال عبورها البحر الأبيض المتوسط، ووجه ثان عبارة عن صور لأطباء وممرضين أجانب في المستشفيات الفرنسية خلال جائحة كوفيد.

وحسب المعرض، فقد كانت مملكة فرنسا أرض هجرة ونزوح منذ نهاية القرن الـ17 حيث استقر بها مهاجرون قدموا إليها من الدول المجاورة لأسباب سياسية أو دينية واقتصادية بشكل أساسي.

واستمرت أوضاع المهاجرين ومعاناتهم ونضالهم بين مد وجزر حتى مطلع القرن الـ19، حين شهدت البلاد منعطفا جديدا من الهجرة عندما أدت الثورة الليبرالية إلى وصول آلاف المنفيين السياسيين الأوروبيين، معظمهم بولنديون هاربون من القمع الروسي…

وبعدها بقليل، قامت حربان عالميتان قلبتا أحوال المهاجرين وأجبرتهم على تحمل أوضاع صعبة، لأنهم كانوا حطب الحربين العالميتين إذ سددوا بدمائهم فاتورة تحرير فرنسا! كما أنّهم كانوا مرجل بناء فرنسا التي دمّرتها الحرب النازية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا…

كما يبرز المتحف تداعيات إنهاء الاستعمار، والتعبئة من أجل حقوق العمال الأجانب، من خلال خرائط وصور ولوحات وغيرها من الوثائق عن الأحداث الرئيسية التي حاولت تحويل الهجرة إلى اندماج.

هذا، وشهدت سبعينيات القرن الماضي، حسب معروضات المتحف، زيادة في الهجمات العنصرية والجرائم في فرنسا، في أعقاب الأزمة التي سببتها الصدمة النفطية عام 1973، وأججها تفكير الحكومة الفرنسية في السيطرة على تدفقات الهجرة وتعليق هجرة العمالة، وأصبحت سياسات الهجرة أكثر صرامة، وارتفعت عمليات الطرد مع إنشاء نظام احتجاز إداري والرغبة في استبدال المهاجرين بالعمالة الفرنسية. ونتيجة لذلك، ولظروف الاستقبال السيّئة، تحركت النقابات العمالية واليسار ضد سياسة الإعادة القسرية. وكيف أنه في أعقاب ماي 1968، تشكلت حركة للدفاع عن حقوق العمال المهاجرين والمطالبة بعدة أمور، منها إدانة الجرائم العنصرية، والحصول على سكن لائق، وعلى وضع قانوني مستقر، وعدالة اجتماعية في المصانع، فضلا عن تمثيل المهاجرين في النقابات.

كل هذا يوضحه جناح في المتحف خُصص للافتات والملصقات ومقالات الجرائد ودعوات الإضراب التي عرفتها المرحلة… كما يوضح كيف أنه بعد انتخاب فرانسوا ميتران عام 1981 ونجاح اليسار في الانتخابات التشريعية، تحسنت الأوضاع قليلا، إذ سوّت الحكومة أوضاع مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، كما منحت حق تكوين الجمعيات للأجانب، وعلقت عمليات الطرد وألغت الإجراءات القمعية.

من جهة أخرى، يكشف المتحف أن المسيرة من أجل المساواة ومناهضة العنصرية التي شهدتها فرنسا سنة 1983 ساهمت في جعل أحفاد المهاجرين أكثر حضورا في الفضاء العام، ليصبح تصريح الإقامة لمدى 10 سنوات جاريا حتى يومنا هذا…

بموازاة ذلك، يكشف المتحف أن مشاكل الضواحي تحولت إلى موضوع للنقاش السياسي ورمزا لصعوبات السياسات الحضرية والاندماج…

وتضيف معروضات المتحف أنه، منذ عام 2011، وفي أعقاب ثورات ما سمي “ربيعا عربيا” والحروب في ليبيا وسوريا، وصل مئات الآلاف إلى بوابات أوروبا بعد عبور البحر الأبيض المتوسط واستقر بعضهم في فرنسا وتقدموا بطلبات الحصول على اللجوء فيها.

مقابل هذا، أطلقت الحكومة الفرنسية في مارس 2022 منصة خاصة تسمح للمواطنين بالتعبئة لاستقبال الأوكرانيين وتوفير السكن لهم والمدارس لأطفالهم وفرص العمل للكبار، في حين لا تزال مخيمات المهاجرين الآخرين _خاصة في كاليه_ شاهدة على المفارقة الكبيرة وعدم تكافؤ الحقوق في تاريخ الهجرة!

والملاحظ أن المتحف حرص على أن يعرض “هذا التاريخ بكل تعقيداته”، أي تاريخ الفرنسيين، وتاريخ المهاجرين، والهدف من ذلك هو إبراز أن التاريخ هو تاريخهما “معاً.

كما يعرض المتحف سلسلة من الصور لسيارات العائلات المهاجرة التي كانت تذهب صيفاً إلى دول المغرب العربي، بسطوح تتكدس عليها قطع الأثاث والأجهزة المنزلية.

ومن الأجنحة التي يضمها المتحف، واحد خاص بالموسيقى، يصرح من خلاله، القائمون على هذه المعلمة، أنه، ومنذ ثلاثينات القرن الماضي، اغتنى المشهد الموسيقي_ الغنائي بفرنسا بعدة روافد أجنبية، من بينها رافد الموسيقى العربية_ المغاربية ومن النماذج التي يقدمها ويعرض مقاطع منها نجد: أم كلثوم وفيروز وناس الغيوان ووردة…

وبهذا، تكون إحدى أهم رسائل “متحف الهجرة” بباريس هي تبيان أن تاريخ فرنسا هو تاريخُ كلّ من جاء للعيش على أراضيها، منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، وأن بناء البلد جرى بمساهمة ملايين المهاجرين الذين جاءوا إلى فرنسا، وبهذا، فهو يسعى إلى خلخلة الأحكام المسبقة المتعلّقة بفهم جزء أساسي من تكوين الهوية الفرنسية، خصوصا في سياق صعود اليمين المتطرف.

لكل ما سلف، تظل الهجرة والمهاجرون في فرنسا وقضاياهم وقودا أساسيا في جميع الحملات الانتخابية، بين مُناهض ومُؤيّد، سيما أنّ الهجرة كما قال أحدهم، هي: ماضي فرنسا وحاضرها ومستقبلها.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي