السّؤال روح الإيمان: قراءة في أعمال نصر حامد أبو زيد (2 من 3)

السّؤال روح الإيمان: قراءة في أعمال نصر حامد أبو زيد (2 من 3)

لحسن أوزين

تمتاز كتب نصر حامد أبو زيد بنوع من العمق التحليلي النقدي العلمي الدقيق، ليس فقط في وضوحها المنهجي، بل أيضا في خلفياتها النظرية والمعرفية. والقليل من القراء هم الذين انتبهوا الى محاولته الفكرية العلمية، والاجتماعية الثقافية في انتاج وعي جديد بالمسألة الدينية في اطارها الشامل الثقافي الاجتماعي، والسياسي التاريخي بعيدا عن الاسقطات الايديولوجية لصحابة الاقنعة الدينية، وجماعة الاقنعة العلمانية. وغالبا ما تم تبخيس مجهوده العلمي بدوافع رافضة للتغيير والتحرر من أسر التصور السياسي السلطوي الاستبدادي في الدين، إما بسبب الدفاع عن السيطرة والهيمنة حماية للمصالح المادية، أو بحكم العبودية المختارة التي تطاول مع زمن القهر سحر تلاعبهابالعقول، وتحكمها في القلوب. كتابات أبو زيد زعزت وفككت الكثير من البديهيات الدينية البشرية التي حصنت سطوتها باسم الدين والقداسة، وفق غالبا تصورات أسطورية الغيبية، وهي ليست أكثر من تعبيرات عن اجتهاد بشري في حماية الوجود الاجتماعي السياسي لفئة معينة داخل المجتمع. كما ان الرجل استطاع ان يعيد للسؤال المعرفي الايماني قيمته الانسانية في تحقيق المشروع الوجودي للاجتماع الانساني بعيدا عن ارهاب نفي الانسان وتغييب الحياة الدنيا انتصارا لثقافة القهر والقمع والعنف والموت. فالكثير من الاعتراض والنقد الذي جوبهت به كتب نصر حامد هي من جهة عبارة عن ذعر وخوف قوى السلطة والتخلف من عري القهر وانكشاف حقيقة المستور وراء رداء قداسة الحقيقة المطلقة، ومن جهة أخرى ليست هذه الاعتراضات سوى انتقادات لا ترقى الى مستوى النقد المنتج لبديل معرفي في تشكيل الثقافي الاجتماعي، بل هي ليست أكثر من مزايدات ايديولوجية في ادعاء النقد الجذري للمسألة الدينية في الحياة والمجتمعات. من هنا غيب مجهود الباحث المفكر أبو زيد في بناء روح الايمان من خلال أسئلة تستأنف آفاق تعدد الاصوات الحوارية في بنية النصوص الدينية، وفي البنية الثقافية الاجتماعية التاريخية، للسردية الاعتقادية الايمانية. فكيف استلهم وتفاعل المفكر الباحث أبو زيد مع مفهوم التركيب في ترابطاته المعقدة على مستوى النص القرآني وعلى مستوى علاقاته بباقي النصوص الثقافية، وفي جدله-النص- مع الانسان والواقع الاجتماعي التاريخي، متكونا ومتطورا في سيرورة من التعديل والاضافة، او الناسخ والمنسوخ، وفق ما تطلبته سياقات أسباب النزول، بعيدا عن الاعتقاد في أزلية النص، او في ديمومة النزوع الوصفي للواقع في أحكام شريعة فرضتها ظروف وشروط المرحلة على كل المستويات المعرفية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية السياسية؟ ” للنصوص لغتها الخاصة، او شفرتها الثانوية، داخل نظام اللغة. ومن خلال هذه اللغة الثانوية تطرح النصوص الدينية العقيدة= (الايديولوجية) الجديدة، وهي العقيدة التي يحاول بها النص اعادة تشكيل وعي المتلقي. لكن حتى هذه العقيدة الجديدة لن تكون عقيدة جديدة تماما فالنص ينحاز في النهاية لاديولوجية لها بذورها أو ارهاصاتها في الثقافة…اذا انتقلنا من المجال الثقافي العام بشقيه المعرفي والايديولوجي الى مجال علاقة النص الديني بالنصوص الاخرى السابقة عليه والمعاصرة له لوجدنا ان النص قد انخرط في علاقات سجالية مع تلك النصوص. وقد اعتمدت تلك العلاقات السجالية على آليات تناصية على درجة عالية من التعقيد”1.

لهذا يرى المفكر ان ان استئناف المشروع الوجودي للانسان في عمارة الحياة الدنيا يبدأ من هذا الافق الايماني المتحرر من سلطة النصوص الدينية، اي من سلطة خطاب الحقيقة التي فرضها التغلب والقهر في التاريخ العربي الاسلامي بشكل أحادي يدعي القداسة في منع واقصاء او اغتيال التنوع والتعدد والاختلاف كحالة طبيعية صحية في الوجود التاريخي الانساني.

لكن الى اي حد استطاع حقا المفكر الباحث ابو زيد الاستجابة لطموحاته وافكاره النقدية، ومقارباته المعرفية والفلسفية العلمية، دون السقوط في نوع من التدين الاقرب الى تأسيس فرقة دينية جديدة؟

أولا /السؤال أو المنفى، الكلام أو الموت

يصعب جدا في ظل تصور من بين تصورات كثيرة في احتكاره خصوصية التسمية ( الاخوان المسلمون، الجماعة الاسلامية، الصحوة…)، وعمومية التمثيل الدلالي للدين/الايديولوجية الذي ساد وسيطر وشاع، ان نفكر بمنطق السؤال لان الديني في سيرورة صراعه التاريخي مع تصورات ومعتقدات ورؤى خلافية مختلفة استطاع ان يسود ويسيطر عبر تاريخه الطويل، بمنطق التغلب والقهر، بعيدا حتى عن ادارة الاختلاف في حده الادنى: منكم الامراء ومنا الوزراء. ومن ضمن آليات تأبيد وجوده الاجتماعي السياسي هذا، هو أن يتحول الى حقيقة مطلقة، ناسفا أرضيته التاريخية، متنكرا لبشريته في قناع القداسة المفارقة للوجود الانساني، ولذلك حارب طويلا تاريخية النصوص الدينية مختبئا وراء أزلية القرآن ليخفي تصور اجتهاده البشري. لهذا فالدين يمقت ويكره الايمان/السؤال الى حد وصم صاحبه بالزندقة والكفر. هنا تكمن حلقته الاضعف وعورته التي يستميت ويقاتل في حجبها بعشرات الاوامر والنواهي المهددة، بالنفي والتغريب، وسحب عضوية الانتماء المجتمعي، وهدر الدم، وبالكفر والعذاب السعير. ان أكبر ما يخشاه الدين ان ينزله سؤال الايمان من سطوة سدته العالية، و يمشي في الاسواق ويأكل بين الناس، كفعالية بشرية ضمن فعاليات كثيرة يحتضنها الوجود الاجتماعي الانساني.

في سياق هذا الصراع التاريخي بين سلطة الدين/الايديولوجها ونصوصها، ثوابتها، نهائيتها الناجزة والمطلقة، استقرارها المألوف بالتسلط والتكرار القهري، وفق آليات القمع والحفظ والاسترجاع وتنميط الذاكرة، وبين الايمان/السؤال كسيرورة مستمرة متغيرة ومتطورة في النظرة والفعل والتفكير، وفق آليات الفهم والتحليل والنقد والاستنباط والاستدلال والاستنتاج، في محاولة دؤوبة لبناء عملية اكتشاف السؤال، قلت في سياق هذا الصراع تحمل نصر حامد أبو زيد عبء ومشقة الايمان/ السؤال في محاولة منه عدم التنازل عن شرعية و أحقية امتلاك روح الايمان الذي هو سؤال الفهم والمعرفة والتحليل القائم على الشك والنقد والرفض امتدادا لما فعلته فعاليات مختلفة في تاريخ الفكر العربي الاسلامي قديما كالمعتزلة وحديثا كطه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود…، فهو- أبوزيد- يعرف “ان المنهج سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال ويتصور الباحث انه حقق نضجه المنهجي، فان ما يكون متحققا بالفعل هو الجمود المنهجي”2. لذلك لا يريد ان يكرر التنازل العلمي المعرفي الذي قدمه أولا محمد عبده في ” رسالة التوحيد” حيث تراجع في طبعته الثانية عن موقف المعتزلة من مسألة أزلية القران، ثم ثانيا الترضيات التي قدمها كل من طه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود…

وكما قلنا سابقا فالايمان فردي بامتياز ولا شأن له بالجماعة والا تحول الى دين ثوابت و عصبية مولدة للعنصرية والكراهية والاقتتال المذهبي الطائفي. لهذا يمكن القول بأن سؤال الايمان أقرب الى مفهوم الكلام في فرديته وفرادته النوعية في التغيير والابداع عكس الدين الاقرب الى اللغة في صورتها الجماعية، في ثباتها وتحجرها ومقاومتها للتغيير والتطور. ” هكذا أدرك دي سوسير من خلال تفرقته بين اللغة والكلام أو بين الاجتماعي والفردي في اللغة بعض عناصر الصراع الايديولوجي في الحياة الاجتماعية على أرض اللغة. فهناك نصوص تنطقها اللغة وتلك هي التي تسمى نصوصا على سبيل المجاز والتساهل، وهناك نصوص لديها كلام تريد ان تنطقه من خلال اللغة.”3 بناء على هذا التمييز يمكن فهم الصراع بين نصوص الخطاب الديني التي تتشبت بالثبات والتكرار القهري للمعطى اللغوي الحرفي بخلفيات أسطورية مانعة للتفكير وانتاج المعرفة، ونصوص نصر حامد أبود زيد التي لديها كلام حول الحياة والمجتمعات في تاريخيتها وشروطها الثقافية الاجتماعية تريد أن تقوله من خلال اللغة. إنه صراع القهر والثبات والموت ضد الحرية والتطور والحياة والكلام، بما يذكرني بالكتاب الجميل لمصطفى صفوان ” الكلام أو الموت”. في هذا السياق ومشاركة في هذا الافق الكلامي والايماني الفردي انتصر أبوزيد للحياة وللدينامية الاجتماعية في حركة تطورها التاريخي، خدمة لنماء وتطور وحصانة القيمة الانسانية للانسان، كما تحمل محنة ومشقة السؤال في مواجهة آلة المنفى و ثوابت الموت الرهيبة

ثانيا/ عبء السؤال الايماني

كثيرة هي الكتابات المتهورة، ذات الرؤية الضيقة التي يدفعها غضبها العصبي، وانفعالات ردود أفعالها ازاء واقعها القهري الصعب، الى صب جام غضبها و سخطها على الدين في شخص معتقدات وتصورات وممارسات الناس العقائدية، مختزلة الصراع المجتمعي بمستوياته البنيوية والتطورية في مخاصمة المعتقد الديني. لكن نصر حامد أبو زيد بعيد في كل ما كتبه عن هذا النمط من التفكير، وعن هذه السياقات الانفعالية، وعن هذا الافق الضيق لمسار ومصير الانسان. فهو استطاع حمل عب السؤال بفضل اقتداره المعرفي وتمكنه العلمي المؤسس على تكوين ثقافي بكل ما استجد في الفكر الانساني من خلفيات معرفية وفلسفية وابستيمولوجية، ومن مقاربات ومنهجيات حديثة في الفهم والتحليل والنقد، وذلك من خلال اشتغاله المتواصل والمتطور لمنهجية حديثة تستلهم المنجز الانساني القديم من خلال أسس ومتطلبات وأسئلة ما يطرحه الراهن من تحولات ومتغيرات وسياقات ورهانات، وما ينفتح عليه من آفاق وسيرورات معقدة التركيب والترابط والتفاعل في كل المجالات، الشيء الذي يستلزم معرفيا وفلسفيا ومنهجيا رؤية كل الوجوه التي تسمح بتوسيع زاوية المنظور. لهذا يمكن القول انه تمكن من اقتراح قراءة نقدية جديدة ليس فقط لسؤال الدين/ الايدولوجية، كما يختزل البعض عطاءه الانساني، بل أيضا- وكما كان يطمح- التأسيس لقراءة تحليلية نقدية للفكر والواقع العربيين في أزماتهما العميقة وانسداداتهما التاريخية الآسنة. لذلك أدرك ان اكتشاف محنة السؤال كامن في وحل الارض، في تاريخية الوجود الاجتماعي وما يمفصله من سلط في البديهيات والمسلمات، وفي اللغة والنصوص، وفي التصورات والمعتقدات، بمعنى في كل الانساق الثقافية والاجتماعية. من هنا اصراره العنيد، على ما يخبئه الاستقرار والثوابت والعقائد والقداسة والحقيقة المطلقة من قهر وتسلط وسلطة في اللغة والنصوص والمقولات والتصورات والممارسات، و بحثه المتواصل ايضا في بناء سؤال التاريخ وجدلياته المختلفة في الفكر والثقافة، وفي الحياة والمجتمع،. سؤال التاريخ الذي تم استعباده باسم سلطة قداسة الدين في نوع من الاسترقاق المعرفي والاجتماعي والسياسي والاعتقادي العصبي المولد للطوائف والعصبيات والمذاهب ومختلف اشكال الجماعات والفرق المسكونة بهواجس الطهرانية على ايقاع العنف وقتل النفس وإراقة الدماء. ازاء كل الوثنية الاستلابية لسلطة الحقيقة المطلقة، التي تتستر وراء النصوص الدينية، كالقران والحديث والاجماع…، او خلف الصحابة والائمة وكل الموروث الديني، قام أبوزيد بعقلية المفكر الباحث بتفكيك الخطاب الديني الذي حول الانسان في الحياة والمجتمع الى مجرد دابة تمشي على الارض لا تملك حرية قرار التحكم في زمام مصيرها، كقطيع من الاتباع العبيد يستثمر في اقتصاد التخلف والعنف والحروب. وبناء على تكوينه العلمي والثقافي حاول نزع قناع القداسة عن التاريخ والفاعلين الاجتماعين، كما انتصر لروح الايمان في معانقة سؤال الخلاص الاخروي في عمقه الدنيوي البشري المنفتح على الحياة والمجتمع بما يخدم سعادة الانسان في تقدم وتطور قيمه الثقافية والاجتماعية، حياته المادية والرمزية، في اطار نماء قيمته الانسانية مهما كانت لغته ومعتقداته….

فالكشف عن اسس ومنطلقات واليات الخطاب الديني في كتب نصر حامد أبو زيد يسمح لنا بالقول وفق لغته المفهومية والمنهجية على ان كتبه هي أولا مُنتَج ثقافي تمفصل فيه بعد التركيب بين المحلي القديم والحديث والمعاصر والفكر الانساني في ابعاده المعرفية والابستمولوجية والفلسفية والايديولوجية، كما انها ثانيا مُنتِج ثقافي يسهم في بناء السؤال وانتاج معرفة علمية وتفكيك المسلمات السائدة والمسيطرة باسم الدين، الى جانب انها تعمل على تغيير الوعي والتحرر من سطوة وتسلط وقهرقداسة السلطة بمختلف اشكالها. والجميل ان القارئ لكتبه يستأنف وجوده التاريخي الاجتماعي الانساني، ويمتلك حقه في روح الايمان بتحمل مسؤولية عبء السؤال في سيرورته الحيوية والمتدفقة والمتطورة باستمرار، بالتحرر من الاجوبة الاحادية والوحيدة للفرقة الناجية الصراطية المتلبسة زورا وبهتانا لقناع القداسة. قراءة تحررك من أسر القطيع والعبودية والاستقرار والثوابت الزائفة، ومن الاذعان والخوف من جرأة السؤال الايماني ازاء سلطة النصوص الدينية التي قمعت الحرية و التنوع والتعدد والاختلاف، كما نالت من كرامة الانسان بفرض الاسترقاق في صورته الفظيعة، حيث التحكم في العقول بايقاف عملية التفكير، مع التسلط على القلوب بالترهيب والتخويف من فرح ونعم الحياة الدنيا، بالانتصار لنزوة الموت ضد رغبة الحياة.

كتابات أبو زيد تمتلك عمقا معرفيا أصيلا، وتحليلا نقديا خصبا منتجا للوجوه والمكونات السوسيولوجية والثقافية والتاريخية للمجتمعات العربية والاسلامية، ذلك التنوع والتعدد والاختلاف الذي غيبه طغيان قداسة الفكر والاجتهادات البشرية المسيجة إلهيا بسلطة النصوص الدينية تثبيتا وتأبيدا للمصالح في شكل سياسي عقائدي يسهل الاستئثار بالثروة والسلطة والمجتمع والثقافة والدولة، كما يرسخ ويكرس آفة فقر الدم التاريخي، الى درجة نشر رهاب العنصرية والكراهية والتكفير ازاء اي تفكير نقدي تاريخي يتوخى اضاءة الماضي، خاصة المهمش والمسكوت عنه في التاريخ والفكر العربي الاسلامي وابراز التصورات الخرافية. “هذه التصورات هي التي سادت تاريخ الثقافة العربية الاسلامية وسيطرت بآليات الفرض السياسي وسيطرتها وسيادتها لا يعني امتلاكها قوة الحقيقة .”4

ثالثا التاريخية: النظام اللغوي وجدل التاريخي الاجتماعي

كتب أبو زيد ليست نتيجة حسابات شخصية، أو بسبب رغبة ذاتية في حب الظهور الاعلامي والايديولوجي السياسي، من خلال التهجم على معتقدات الناس، بل هي جزء من بنية فكرية تنويرية لتيار او مكون فكري ثقافي جسدته على ارض الواقع الكثير من الاقلام، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، نذكر بصورة مؤسسة الشيخ أمين الخولي وطلابه. لذلك فكتب نصر حامد تشكلت بهم وانشغال علمي معرفي بحالة الانسداد التاريخي الآسن، وبسبب تحدي ثوابت أسس التسلط و التخلف والانحطاط الناتج عن الاسترقاق السياسي الاجتماعي باسم سلطة قداسة النصوص الدينية. الى جانب وعيه النقدي بفقر حصاد التنوير الذي حالت توفيقيته التلفيقية والتلوينية دون انتاج وعي مختلف نقيض للخطاب الديني الغارق في التخلف والظلامية. ” نبرة التردد والاحتمالية التي يلوذ بها خطاب التنوير لا تعني مغايرته التامة لنقيضه، ولعل في تلفيقيته الناتجة عن تصوراته وأطروحاته، ما يفسر لنا فقر حصاد التنوير، الفقر الناتج عن تجاهل الاسئلة الحقيقية والالتفاف حولها، وترك تأثير تجاهلها يعمل في الخفاء”.5 وهو في ذلك لا يبخس بشكل عدمي مجهود خطاب التنوير الذي انتصر في قراءته للتراث للمعقول ضد اللامعقول الشيء الذي مهد في نظر نصر حامد ” لتأصيل تاريخية التراث الديني، ومن شأن ادراك هذه التاريخية أن تؤدي الى نزع قناع القداسة عن وجهه، وهو ما يؤدي في نهاية الشرط الى طرح كل الاسئلة الممكنة، بلا خوف، ولا تردد ولا تواطؤية تبريرية. انها ممارسة الحرية على مستوى الفكر والقول والفعل، الحرية التي اعتبرها التنويريون صرخة العصر، وشارة انسانه وشعوبه التي تسعى لقهر الضرورة على مستوى العلم بفهم قوانين الطبيعة والمجتمع، والحرية كما تتجلى في تعبيره الجميل عن أحلامه و أشواقه. ان ممارسة هذه الحرية في نقد التراث تعد شرطا ضروريا في مشروع النهضة سعيا لتغيير بنية العقل من حالة الاذعان والتقبل السلبي الى حالة التساؤل وانتاج المعرفة، وهل للتنوير معنى دون هذا الشرط الجوهري؟”6

انطلاقا من هذا الرؤية في التفكير والفعل المنتج للفكر النقدي الاختلافي انتصر أبو زيد لجدل الحرية والتنوير بعيدا عن عقلية التلفيق التي “تلوذ بالسلامة، ولو على حساب التواطؤ الفكري والعقلي”.7 لهذا تبنى المنهج النقدي التاريخي الذي وجد بعض سماته وملامحه في موقف المعتزلة من مسألة خلق القرآن حيث يمكن تجاوز التصورات الاسطورية للخطاب الديني التي تحولت، بفعل عزل الانسان عن التاريخ وجعله مجرد أتباع لقطيع عبيد تنازلوا طوعا واختيارا عن عقولهم، أي عن سؤال الايمان لصالح الدين، الى عقائد مقدسة للتكرار القهري، وهي ليست اكثر من اجتهادات بشرية أنتجها الفعل الاجتماعي التاريخي في اطار الصراع بين تصورات متباينة المصالح والاهداف والغايات.” الوحي ليس ظاهرة مفارقة للواقع التاريخي الاجتماعي الذي نزل فيه القرآن على الباحث دائما ان يضع هذا الواقع التاريخي في اعتباره . وشرحنا بما لا يتعارض مع المصدر الالهي للوحي وأكدنا ان فهم القرآن بوصفه بناء لغويا ومنتجا ثقافيا لا يعني انكار جانبه الالهي.8 من هنا نقده لاصحاب أزلية القران في اللوح المحفوظ، حماية لمصالحهم من التغيير، وكبتا لاسئلة النقد التاريخي في الكشف عن ولادة وتكون وتطور الافكار التي سيطرت وسادت بمنطق القهر والتغلب حتى تحولت من افكار بشرية مارست اجتهادها بشكل او بأخر الى نصوص دينية وعقائد الزامية في الاعتراف بالايمان وكسب شرعية العضوية الاجتماعية للانتماء الديني لملة الاتباع الذين يسيجهم التوسط الايديولوجي للدين الحق، والدين القيم الذي أنجزه أمثال: الشافعي والغزالي…،” سيادة اجتهاد الشافعي وهيمنته في حيز علم أصول الفقه ظاهرة تاريخية، اي ظاهرة يمكن تتبع أسبابها وعللها في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. ذلك ان هذ الاجتهاد لا يكتسب من هذه السيادة التاريخية منطق اليقين المطلق والحقيقة التي لا يمكن ان ينالها النقد.”9 لهذا فان اكبر ما يخشاه الدين/ الايديولوجية، وخطاباته المختلفة هو القراءة النقدية التاريخية التي لا تسلم بالمعطى الثابت الناجز والنهائي كحقيقة مطلقة بما في ذلك النصوص الدينية في معناها الحرفي القطعي الدلالة، و المحسوم المعنى الذي لا يقبل الخضوع لتطور المعرفة في سيرورتها التاريخية، لذلك ليس تجديفا او نكرانا في نظر نصر حامد للمصدر الالهي للنص القرآني في قولنا بتاريخيته، اي في تعاطيه وتعامله مع مشاكل عصره وزمنه، او في اعتباره أرضية لافق امل الانسان في سعادته وتطور حياته من زاوية تطوير وتويسع دلالاته وآفاق معانيه بما يفيد ويسعد حياة الفرد والمجتمعات، اي في اعتبار النص الديني مجموعة أوراش أفقها الانسان تخاطبه وتهتم بشؤونه في الحياة الدنيا، يجب ان تستكمل وفق السيرورة التاريخية لمتطلبات وتحديات و آمال العصر الراهن. فهذه القراءة التاريخية هي التي تسمح بتغيير زاوية النظر الوحيد ة والاحادية الى تطور الفكر والواقع البشري في سيرورته التاريخية الاجتماعية، بما يسمح من جهة برؤية الوجوه المتعددة للافكار والمواقف والتصورات والمعتقدات المتنوعة والمختلفة والمتعددة الى حد التناقض بعيدا عن الوسطية الزائفة لكل اشكال التفكير والفكر التوفيقي الذي ساد وسيطر قديما وحديثا الى حدود النهضة وخطاب التنوير العربيين، بل الكارثة اليوم ان كثيرا من الاصوات الفكرية في العلوم الانسانية والاجتماعية تقف ضد حرية وكرامة ومستقبل شعوبها، وهي تخلط بين المعرفي والايديولوجي، فتكرر بعقلية الثبات والتكرار والبحث عن الاستقرار، الذي يعني تأبيد الوضع الراهن، الانحياز لمواقف وأفكار وممارسات عبادة الموروث الفكري والثقافي البشري، والانتصار للجمود والتخلف وللقمع السياسي والديني، دون تحمل عناء ومشقة ” الحفر من أجل رد الافكار الى أصولها وبيان منشئها الايديولوجي وحين ينكشف الاساس الايديولوجي لبعض ذلك المستقر والثابت تنتفي عنه أوصاف الحقائق الثابتة او ماهو معروف من الدين بالضرورة. ان للافكار تاريخا وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول الافكار الى عقائد فيدخل في مجال الدين ما ليس منه ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الايديولوجي نصوصا مقدسة.”10 وهكذا يتم فهم التسلط الديني الذي ساد وسيطر في الفكر والواقع العربي الاسلامي على أنه مجرد ” نتائج استقرت في الوعي الاسلامي واكتسبت صفة الحقيقة مع انها نتائج لفكر بشري. الاخطر من ذلك ان هذه النتائج المشار اليها تمارس تأثيرا في حجب الوعي الاسلامي عن تاريخيته وتعوقه من ثم عن قراءة ذاته قراءة مستبصرة ناقد”.11

وفي سبيل نزع قناع القداسة عن التاريخ والنصوص الدينية استند نصر حامد أبو زيد الى تكوين معرفي علمي ورؤية فلسفية ابستيمولوجية في المنهجيات الحديثة، الشيء الذي مكنه من بلورة واستثمار وتخصيب مفهوم التاريخية كما طرحها موقف المعتزلة من أزلية القران.” ان مسألة خلق القران كما طرحها المعتزلة تعني في التحليل الفلسفي ان الوحي واقعة تاريخية ترتبط أساسا بالبعد الانساني من ثنائية الله والانسان أو المطلق والمحدود، الوحي في هذا الفهم تحقيق لمصالح الانسان على الارض، لانه خطاب للانسان بلغته. واذا مضينا في التحليل الفلسفي الى غايته- التي ربما غابت عن المعتزلة- نصل الى ان الخطاب الالهي خطاب تاريخي. وبما هو تاريخي فان معناه لا يتحقق الا من خلال التأويل الانساني، انه لا يتضمن معنى مفارقا جوهريا ثابتا له اطلاقية المطلق والقداسة.”12 لم يكن بامكان أبوزيد تجاوز القراءات المغرضة التي تؤسسها الخلفيات الايديولوجية سواء كانت سلفية سياسية بأقنعة دينية، أو سلفية سياسية بأقنعة علمانية، إلا من خلال التناول العلمي لاشكالية الدين في سطوة الايديولوجي على المعرفي. ولهذا طرح اشكالية النص الديني ضمن رؤية لسانية سميولوجية بنيوية تاريخية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص الديني من حيث خصائصه الذاتية كنص لغوي في بناء مكوناته الذاتية المعنوية والفكرية والدلالية، ومن حيث تفاعلاته الجدلية مع مستويات كثيرة من الانساق الثقافية بسياقاتها المتعددة التي تؤطر بشكل ما ولادة النص وتكونه ثم تطوره الى درجة الاسهام في عملية التشكيل الفكري والاجتماعي لجدل الفكر والواقع حسب الشروط الثقافية والتاريخية. ” فالنص في مرحلته الاولى في تعبيره عن الثقافة لم يكن مجرد حامل سلبي لها، فقد كانت له فعاليته الخاصة بوصفه نصا في تجسيد الثقافة والواقع، وهي فعالية لا تعكسهما عكسا آليا، بل تجسدهما تجسيدا بنائيا، اي تجسيدا يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد. وفي المرحلة الثانية ليس المقصود بأن النص منتج للثقافة تحويل الثقافة الى صدى سلبي للنص، فللثقافة أيضا آلياتها الخاصة في التعامل مع النص وذلك باعادة قراءاته وتأويله.”13 من هذه الزاوية، عند أبو زيد، التي يحددها مضمون فكره المؤسس والموجه لاستراتيجية انتاج المعرفة ككتابة نقدية، ليس فقط للخطاب الديني، بل أيضا لطبيعة المآزق التي تحاصر الراهن العربي في استبداديته وتخلفه الشامل، وتتواطأ ذاتيا في شل فعل التغيير وتأجيل النهضة المنشودة، أنتج أبو زيد اطاره المعرفي النظري، وجهازه المفاهيمي المنهجي كأساس للقراءة التأويلية النقدية التي يمارسها كفعل ثقافي اجتماعي تاريخي، حيث اعتبر النصوص الدينية ” نصوصا لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرين عاما. وحين نقول تشكلت فاننا نقصد وجودها المتعين في الواقع والثقافة بقطع النظر عن أي وجود سابق لهما في العلم الالهي او في اللوح المحفوظ…واذا كانت هذه النصوص قد تشكلت في الواقع والثقافة فان لكليهما دورا في تشكيل هذه النصوص”14. انطلاقا من هذه الرؤية المنهجية للنص الديني كنص لغوي أدبي حاول أبوزيد تحريرمسألة خلق القران من التصورات الاسطورية ومن فقر الدم التاريخي بما يخدم فاعلية الانسان في تقرير وجوده ومصيره كذات اجتماعية تاريخية فاعلة. ولذلك ذهب بعيدا في تناوله اللغوي الادبي للنصوص الدينية مستندا على تراث النظم عند عبد القاهر الجرجاني والتأويل في الثقافة العربية الاسلامية، وعلى الاساس النظري والمنهجي للمقاربات الحديثة مع اعطاء الكثير من الاعتبار لقضية السياقات الداخلية والخارجية البنيوية والتطورية المؤطرة للسيرورة اللغوية والنصية والثقافية الاجتماعية التاريخية لتطور جدل النص الديني والواقع الحي بكل مستوياته وأبعاده.

” الدين ذاته ليس الا مجموعة من النصوص التي تتحدد دلالتها بدورها بالسياق وذلك بوصفها خطابا وكون الخطاب الهيا من حيث المصدر لايعني عدم قابليته للتحليل بما هو خطاب الهي تجسد في اللغة الانسانية بكل اشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي”15.

وفق هذه الرؤية تمكن أبو زيد من تعرية طلاسم القداسة التي يتقنع بها الخطاب الديني الذي وصم تصوره واجتهاده الديني بالوحدانية المطلقة وان كل ما عداها شرك وكفر لا يتبعه الا اهل الاهواء. وبهذا التناول العلمي النهضوي سقطت سلطة النصوص الدينية للخطاب الديني فظهرت على حقيقتها كحقيقة فرضها الاستبداد والقهر باسم الدين. وهذا ما سنناقشه في الجزء الثالث ” تاريخ الثقافة في كل المجتمعات الانسانية يعلمنا ان هذه السيطرة والهيمنة لخطاب بعينه كانت تتم من خلال عوامل القهر السياسي والاذعان الاجتماعي وتزييف في أحسن الاحوال”

 

Visited 36 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي