نصر حامد أبو زيد : فك الارتباط بين الجهل الديني المقدس والإسلام

نصر حامد أبو زيد : فك الارتباط بين الجهل الديني المقدس والإسلام

لحسن أوزين

يعتبر نصر حامد أبو زيد واحدا من الذكورات المنبوذة المعاصرة، وهو في كفاحه المعرفي العلمي، والسياسي الفكري، والديني الإيماني، الامتداد الأصيل، والمبدع الخلاق للورشات الكبرى التي بدأها النبي في سياق اجتماعي تاريخي، عانى فيه الإنسان المغلوب على أمره اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. خاصة، المرأة بشكل مهول فظيع. والجميل الرائع في كتابات أبو زيد هو حذره الابستيمولوجي ويقظته المنهجية إزاء المعرفة الجاهزة، والعفوية التلقائية التي راكمها الفكر الديني عبر قرون التخلف والانحطاط،. تلك المعرفة التي تجد قوتها وسلطتها وانتشارها ليس في صحتها وصوابها وأحقيتها الشرعية والمعرفية، بل في تغلبها وقهرها وعنفها التاريخي. فالمؤلف يعود إلى الماضي ليتموقع تاريخيا واجتماعيا في السياقات التاريخية الاجتماعية، أي في حدود ومحدودية المرحلة التاريخية. وذلك قصد إدراك المعاني الحية للواقع الحي، والاجتهاد في النظر إلى المغزى للآفاق الدلالية التي يتطلبها المستقبل، من أجل بناء الاستجابة الفكرية والثقافية والمجتمعية الراهنة في وجه التحديات الكبرى، والتيمن بينها الخروج من مأزق ومأزم الانسداد، التي ساهم فيها الفكر الديني بنصيب الأسد.
مع كتابات أبوزيد نكتشف الفكر النقدي الثاقب لمعنى “أنا أفكر فأنا مسلم” كفكر إسلامي يجد أسس أرضيته في عمق مغزى معاني النصوص الدينية، وفي أبعاد الآفاق الدلالية لبعد النظر الفكري العقلي في قراءة الصيرورة الاجتماعية التاريخية المعرفية للإسلام، الذي تنهض صيرورته، من خلال، استكمال الأهداف والغايات والمقاصد الإسلامية للشرع : في الزواج والطلاق والإرث والعبودية والجزية…
يرتد أبوزيد عن الفكر الديني السلطوي الاستبدادي، ليعود إلى الإسلام في قيمه ومبادئه كمشروع اجتماعي تاريخي ثقافي حضاري،. يغتني ويتطور ويتجاوز المعطى والسائد بحثا عن منطق صيرورة اكتمال لا تنتهي.
يعود أبو زيد إلى الماضي لكي يمارس التفكير النبوي، أي ينغرس في التاريخي الاجتماعي لزمن الوحي حتى يكتسب ويستحق جدارة الصحابي المعاصر لزمنه الراهن، وما يتطلبه من أسباب النزول في مغزى حلم وآمال الآيات القرآنية بقدرة الانسان على عيش منطق الصيرورة دون الخوف من حرفية سلطة النص التي هي في حقيقتها الاجتماعية السياسية التاريخية سلطة الفكر الديني المتخم بمصالحه المادية  السياسية ضد مقاصد وأهداف الإسلام.

يعود أبوزيد إلى الماضي لا لوأد الفكر وتغطية العقل وهدر الدم واغتيال النفس التي حرم الله قتلها، ونفي الرجال والنساء. وهدر حقهم الوجودي الإنساني في صناعة المصير، وإنتاج الحياة والمشاركة في صياغة وجودهم التاريخي الاجتماعي. وهو ليس وحيدا في هذه العودة الى الوراء من أجل خطوات نوعية الى الامام. ينطلق من محاولات ذكورات منبوذة لرواد النهضة كالأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والطاهر الحداد… ليبين ضرورة فك الارتباط بين الفكر الديني والإسلام، يعني هذا توضيح الالتباسات الحاصلة بين الأيديولوجية والمقدس. يشحذ أدواته الفكرية بممارسة النقد بمختلف أشكاله اللغوية والفكرية والتاريخية والسياسية والثقافية. لذلك يبدأ نقده بإيديولوجية اللغة في مضمونها العنصري الطائفي الذي يتحكم في الكثير من خطابات المساواة والمشاركة التي تفتقر إلى الحذر الأبستمولوجي، واليقظة المنهجية في بناء أطرها النظرية، و أدواتها المفاهيمية التحليلية، باعتمادها التربة الإيديولوجية اللغوية للذكورة الصراطية. مما يجعلها تسقط من حيث لا تدري في زاوية منظورها، اذ تؤسس هذه الخطابات وجودها على فرضية “مركزية الرجل الذكر. فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل وحين يسمح لها بالمشاركة فإنها تشارك الرجل وفي كل الأحوال يصبح الرجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية.”
هذه اللغة التي تؤسس للطائفي العنصري في إنتاجها للفعل المجتمعي الذي يحط من شأن وقيمة الاخر الأعاجم، هي المنظور اللغوي نفسه الذي يجعل المرأة مساوية للأعاجم. وهذا الإحساس بالتفوق والمركزية والفاعلية يهيمن شكلا ومضمونا على الوعي اللغوي، الذي هو وعي الجماعة التي أبدعت هذه اللغة في سياق الصراع والتصادم. “إن الوعي لا يتطور بمعزل عن اللغة ولا تتطور اللغة بمعزل عن تطور الناطقين بها، فإن لكل من نمطي الوعي تاريخه المستقل ومساره المتميز، وأحيانا يتصادم الوعيان تصادما قد يؤدي إلى تغيير جوهري في بنية اللغة، وقد يفضي الى انتصار بنية اللغة بوعيها التقليدي على الوعي الجديد.”
لقد حاول القرآن خلق لغة ووعي جديدين في بنية اللغة وبنية الوعي، والتأسيس لعلاقات اجتماعية نقيضة/ الى حد ما/ لما هو سائد “جاهلي” تعصبي طائفي. لكن في سياق الممارسة الاجتماعية لتصادم الوعيين الإسلامي والفكر الديني الطائفي العنصري تقنع هذا الأخير بتجليات ومظاهر المقدس الإسلامي لمعاودة إنتاج نفسه، وبالتالي معاودة إنتاج سيطرته وهيمنته، المؤسسة أصلا على مصالح دنيوية مادية، ذات أرضية سياسية اجتماعية.

 وقد طال هذا البعد في معاودة الإنتاج حتى مجهود علماء اللغة. “صحيح أن علماء اللغة يميزون بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي، لكن هذا التمييز لا يعفي المؤنث المجازي من الخضوع لكل آليات التصنيف التي يخضع لها المؤنث الحقيقي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا نجد التمييز الحقيقي بين مذكر حقيقي ومذكر مجازي، وهو أمر يكشف عن تصور أن التذكير هو الأصل، والمؤنث فرع لا فاعلية له.”

إن الخطاب الديني العدائي للنوع الإنساني، خاصة المرأة، الذي يسمي نفسه فكرا إسلاميا عنصري طائفي في جذوره التاريخية الاجتماعية، كعنف قبلي عصبي. ولا ينتعش وهو يصارع لغة ووعي الخطاب القرآني في لغته ووعيه، إلا في فترات الازمة والتراجع والانحطاط المجتمعي. فكما حدث خلال المرحلة الصعبة التي عاشها النبي، نجد الأمر نفسه يتكرر بعد هزيمة 1967، حيث ضاقت الرؤية إلى أبعد الحدود، وانحسرت فيما يعتبره الفكر الديني الشر الداخلي، وهو يقصد: المرأة، القربان الذي ينبغي التضحية به لحماية حسب تصوره، الممارسات والتصورات والمعتقدات. هذا يشمل كل ما يعتقده النظام الثقافي الاجتماعي الذي تؤطر وحدة وحياة المجتمع.

 فيتم إقصاء وتغييب ونفي المرأة كذات فاعلة منتجة و منجزة وحية ودينامية كجزء عضوي في وحدة بنية المجتمع “النساء شقائق الرجال”. وفي تناقض مع هذا تسيطر خطابات ذكورية تكن الحقد لكل الذكورات المنبوذة المنخرطة في المشروعات النوعية للإنسان، كيف ما كان نوعه ذكرا أو أنثى. “فإذا كنا نحتقر المرأة و لا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط فإنما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا ورضائنا بما نحن فيه من هوان وسقوط.  وإذا كنا نحبها و نحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلا صورة من حبنا واحترامنا لأنفسنا وسعينا في تكميل ذاتنا”. “وليس من المعقول أن تسقط المرأة ويرتفع الرجل. وهذه حقيقة نبرة لم تتسع لها بعد أذهاننا.” فتغييب المرأة كذات حية حاضرة في الواقع الحي، لتحضر كموضوع أخلاقي ديني. وأيضا من خلال هذه المفارقة لغياب المرأة كذات وحضورها كموضوع، يتم تغييب الواقع الاجتماعي السياسي بكل تناقضاته. هذه هي الممارسة السياسية للفكر الديني في ارتباطه بالمقدس الإسلامي قصد السيطرة والهيمنة واحتكار السلطة. حيث يستحيل تاريخيا في المجتمعات العربية الإسلامية الحديث، في ظل سلطة الخطاب الديني للجهل المقدس البعيد كليا عن الإسلام، عن تعدد الحقيقة والاختلاف والمعارضة الفكرية والسياسية والاجتماعية.

 هل يمكن الآن أن نفهم حروب اليوم حيث لا اختلاف أو تعدد أو معارضة في الإسلام؟ فخطاب الجهل المقدس لهذا الفكر الديني العنصري والطائفي المذهبي يختزل نفسه في مفهوم التوحيد، بمعنى التوحد السياسي الجبار والمهيمن الذي يجعل من الاختلاف الفكري والثقافي والسياسي وثنية، ومن التشارك في السلطة شركا في الالوهية، وبهذا التماهي بالمقدس الإسلامي ينتج حقيقته المقدسة التي هي في حقيقتها الإيديولوجية الفكرية ممارسة سياسية للصراع الاجتماعي السياسي.  والأدوات والآليات التي تسود وتنتصر بها تلك الحقيقة، هي آليات الإقصاء والتغييب والتصفية والاغتيال الفكري والثقافي والاجتماعي والدموي. وهي غالبا ما تعتمد على تزييف وتشويه اللغة والفكر والوعي، باعتماد الجهل المقدس. من هنا تطرح ضرورة فك الارتباط بين الفكر الديني للجهل المقدس وبين الإسلام، كضرورة معرفية واجتماعية سياسية لحرية وتحرير الانسان من تسلط جهل يتقنع بالدين، وتحرير الإسلام من السطو العنصري الطائفي المذهبي على المقدس الإسلامي الشاسع الرحب الذي لم يكن سنيا ولا شيعيا ولا حنبليا ولا شافعيا…، في أسسه وتوجهاته وقيمه ومبادئه الكبرى. “هل نحن إزاء خطاب ديني، مغالطة أن نقول ذلك. بل نحن إزاء تخلف قد يتوسل لغة الدين أو لغة السياسة او لغة الاجتماع او الاقتصاد. لكن في الحقيقة خطاب تخلف يكرس الأزمة بقدر ما يعكسها. وهو ليس خطاب تخلف فقط ولكنه خطاب إرهابي معتد يمارس ضد المرأة كل صنوف الاعتداء.” و الاعتداء يطال أيضا الأقليات الدينية والمذهبية. إننا إزاء فكر عنصري طائفي تفتيتي للامة والوطن وللنوع الإنساني بين الرجال والنساء، متناقضا كليا مع فكر النهضة الطموح الى التقدم والوحدة. إنه خطاب مأزوم بتسلسل الهزائم، ومقموع من الداخل بفعل التحدي الغربي في كل المجالات المادية والفكرية الثقافية، والعلمية التكنولوجية. وأمام هذا العجز في المواجهة والتحدي، عاد الخطاب المهزوم الى الماضي بحثا عن وهم الرجولة، مختالا بذكورة صراطية جوفاء، مخبأة تحت رداء الدين، قصد تغييب وحجب المجال السياسي بتغييب وحجب المرأة والشعب عن الواقع الاجتماعي السياسي. “إن مناقشة قضايا المرأة بمعزل عن سياق الواقع الاجتماعي العام المحدد لمكانة الإنسان في سياقه، قد يغري في كثير من الأحيان إلى الانزلاق في هوة الحديث عن المرأة بوصفها مقابلا للرجل ونقيضا له…هذا الإطار العام الذي يتحرك فيه الخطاب الديني عادة في مناقشة قضايا المرأة، إنه خطاب يستحضر الرجل الذكر أساسا ويجعله في بؤرة الاهتمام وفي مركز الحركة.”
إن فك الارتباط بين الفكر الديني والإسلام يتم من خلال الاعتراف بقيمة وإنسانية النوع الإنساني في اللغة والممارسات الاجتماعية السياسية والفكرية الثقافية، وفق تطلعات وطموحات الخطاب القرآني، وما وصل إليه الفكر الإنساني الحديث على مستوى أسس ومبادئ الحرية، و حقوق الإنسان بعيدا عن المنطق الثنائي لعبودية الصلح والعنوة. وباعتماد الحق السياسي الاختلافي الديمقراطي في التأسيس للفضاء السياسي، كمجال رحب يلجه الجميع ويشاركون كما يشاركن، كتنوع وتعدد واختلاف،، في مدنية صراعات سياسية اجتماعية ديمقراطية. كما يشارك الجميع في بنائه وتكونه وتطوره، وفي صياغة مساراته ومصائره. وفي المجال السياسي الديمقراطي وحده يتحرر الإسلام من قبضة الدين و الفكر الديني، كما يتحرر النوع الإنساني من أحادية سيطرة القطب الواحد للرجل الذكر، فاتحا المجال السياسي والمجتمعي أمام الجميع بعيدا عن أية ذكورة صراطية، التي هي في حقيقتها السياسية الاجتماعية والفكرية الثقافية استرقاق وعبودية صلح مختارة، أو عبودية عنوة بوصاية قهرية “آليات الاستبعاد والاقصاء والقمع ليست من خصائص الدين والعقيدة بقدر ما هي من خصائص الفكر وآلية من أشد آلياته خطرا.”

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي