ألكسي نافالني ليس فلاديمير لينين
د. جمال القرى
يثير موضوع وفاة أي من المعتقلين السياسيين في سجون الدولة – أي دولة – كلاماً كثيراً واتهامات لا تغيب عنها السياسة والمصالح السياسية، فكيف بوفاة المعارض الروسي ألكسي نافالني، شاغل العالم الديموقراطي في سجنه القطبي، وهو لم يتجاوز السابعة والأربعين من العمر؟ فهذه الوفاة ليست ما يؤرق الرأي العام وخصوصاً الغربي الرسمي، بل تسجيل نقطة سياسية على روسيا تصب في المصالح السياسية العالمية. فروسيا ليست دولة ديموقراطية، بل دولة فيديرالية شبه رئاسية، رئيسها هو قائد البلاد يحكم مع النخبة، وهو شكل من الحكم يتعاقب على روسيا منذ مئات السنين وقد قُطع في المرحلة السوفياتية ليحل محله نظام اشتراكي قاده حزب شيوعي بقيادة بدأت مع فلاديمير لينين لينتهي مع ميخائيل غورباتشوف ويعود الرئيس ليشكّل رأس القاطرة في الحكم. فهل شكل النظام هو الأمثل لشعبه؟ بالطبع لا، إذ أن كل الأنظمة المعمول بها في العالم ليست الأمثل لشعوبها.
تطور قومية أليكسي نافالني
قدمت ماشا غيسن في شباط (فبراير) 2021 في صحيفة نيويوركر عرضاً عن تطور الأفكار القومية لدى ألكسي نافالني الذي يمضي عقوبته في السجن، وتقول إنه إذا كان لدى المعارضين الروس في المراحل الأولى وجهات نظر معادية للأجانب، فقد تحركوا اليوم بشكل ملحوظ نحو اليسار.
لقد بدا نافالني في بداياته معارضاً شجاعاً وواسع الحيلة ومخلصاً لنظام فلاديمير بوتين. ولكنه ما لبث أن انضم إلى القوميين المتطرفين متبنّياً آراء خطيرة بطبيعتها.
أما في مجلة جاكوبين الاشتراكية في بريطانيا، فقد نشرت مقالاً وُصف نافالني بأنه قومي “مناهض للمهاجرين” ولا يمكن الوثوق به. بدوره، حذّر الصحافي البريطاني أناتول ليفن، الذي غطى أوروبا الشرقية في الثمانينات والتسعينات، من إضفاء المثالية على نافالني.
ويروي بعض الناشطيين الذين عملوا مع نافالني خلال أعوام نشاطه في حزب يابلوكو منذ العام 2000، وقاد جهازه في 2004، ومن ثم انتقل إلى “نعم! للمناظرات”، أن دافعهم كان رؤية التهديدات للبنية الديموقراطية في روسيا. ولكن بمجرد أن تتظاهر بأنك الأكثر تأثيراً، فهذا يودي بك إلى طردك. ويضيف آخر، أن أنه نعت إحدى ناشطات الحزب بالحمار الأسود، وعليها ممارسة التجارة في السوق… إنطلاقاً من مواقفه القومية.
وبدأت سمعة نافالني كيميني متطرف من تصريحاته التي تعود إلى ما قبل العام 2007 حين طُرد من الحزب الديمقراطي الاشتراكي يابلوكو حيث كان نائب رئيس فرع موسكو، إذ دخل في صراع علني مع القيادة وطالب بتغييرها. وشارك في العام 2007 بإنشاء حركة “الشعب”، التي أصبحت أيديولوجيتها “القومية الديمقراطية”، وترمز إلى “حركة التحرير الوطنية الروسية” على غرار القومية الأوروبية معتبرة أن المهمة الرئيسية للدولة هي “وقف عملية تدهور الحضارة الروسية”. عندها، تحدث نافالني عن حقوق السلاح وشبّه الصراع العرقي في روسيا بتسوس الأسنان، وزعم أن الفاشية لا يمكن تجنبها إلا من خلال ترحيل المهاجرين من البلاد. وأنهى نافالني حديثه بالقول: “لدينا الحق في أن نكون روسيون في روسيا. وسنحمي هذا الحق”. وفي العام 2008، دعم نافالني، مثله كمثل الغالبية العظمى من الروس، العدوان الروسي في جورجيا مشبّهاً الجورجيين بالجرذان ومطالباً بطردهم من روسيا (لاحقاَ اعتذر عن هذا التشبيه). ولاحقاً، استُبعد من هذه الحركة لإجهاره عن أفكاره القومية التي تشكّل خطراً مميتاً على روسيا.
وفي العام 2009، أصبح نائباً لحاكم منطقة كيروف ومستشاراً للقضايا الاجتماعية، وكانت هذه هي تجربته الأولى والأخيرة في التعاون مع السلطات. واقتنع أن تغيير النظام من الخارج أكثر فعالية من داخله.
وفي العام 2010 حصل على منحة دراسية لجامعة ييل، ووجد أنه من الضروري إيجاد تمويل للمشاريع في روسيا. وقد نظم مشروع روزبيل، وهو مشروع عام غير ربحي مخصص لمكافحة التجاوزات في المشتريات العامة. ونشر المستندات المتعلقة بقضية ترانسنفت على الإنترنت. ولكن من أين حصل على هذه المستندات؟ ولاحقاً، قام بتسجيل منظمة تسمى مؤسسة مكافحة الفساد لتكون خطوة في تنمية المجتمع المدني.
في العام 2012، اقترح المصرفي ألكسندر ليبيديف انتخاب نافالني لمجلس إدارة شركة إيروفلوت.
وبنظرعلماء السياسة الروس، فإن نافالني هو قومي من النموذج الأوروبي الجديد ويسعى إلى نقل الجمهورية الرئاسية إلى الجمهورية البرلمانية، ولكن اعتبار نفسه قائداً أوحداً يقود الأمة، أفقده التعاون مع الناشطين الآخرين.
وفي العام 2013، ترشّح لمنصب عمدة موسكو مركّزاً على قضية الهجرة غير الشرعية من آسيا الوسطى. وفي العام 2014، بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، قال إنه رغم معارضته للتدخل، فإنه لا يعتقد على الإطلاق أن الحكومة التي حلت محل حكومة بوتين ينبغي لها ببساطة أن “تعيد شبه جزيرة القرم”، وهذا موقف أثار غضب الجانبين الروسي والأوكراني. لقد نأى كاسباروف بنفسه عن نافالني لأنه لم يعترف بأن شبه جزيرة القرم جزء من أوكرانيا وينبغي أن تظل جزءًا منها. وأذهل عدد أكبر من مؤيدي الضم أيضاً لادعاءاته بأنه غير قانوني وخاطئ.
مشاركة نافالني في المسيرة الروسية
شارك في المسيرة الروسية، وهي مظاهرة سنوية في موسكو تجتذب القوميين المتطرفين، بما في ذلك أولئك الذين يستخدمون رموز مثل الصليب المعقوف، معتبراً إياها شكل مشروع من أشكال التعبير السياسي السنوي. وقد أخبرت عن ذلك صحافية التحقيقات الروسية يفغينيا ألباتس، وصديقة ألكسي. فبعدما عادت في العام 2004 من هارفرد إلى موسكو حائزة شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والتنظيم الشعبي، بدأت بجمع الناشطين لحضور ندوات في شقتها لمدة عام. وكانوا من مختلف الانتماءات السياسية، بدءًا من الديمقراطيين الاشتراكيين إلى الليبراليين ونشطاء دينيين. كانت ألباتس لم تتجاوز الأربعين من عمرها، وكانت يهودية متدينة شاركت في المسيرة إلى جانب نافالني وهي ترتدي نجمة داوود العملاقة، في حين كان نافالني في أواخر الثلاثينيات من عمره، وهو الأكبر سناً بين المجتمعين في منزلها، ولكنه أيضاً الأقل بلاغة وتعليماً.
واعتقد حينها حينها الناشطون الديموقراطيون الليبيراليون الذين لم يشاركوا في الأفكار العرقية القومية التي بدأت بالبروز، أنهم بحاجة إلى تشكيل تحالفات مع الحركة القومية الناشئة في البلاد، على أن يعلنوا عن اختلافهم معهم بعد الإطاحة بالنظام (غاري كاسباروف مثالاً على هؤلاء).
أما الصحافي البولندي والمعارض السابق آدم ميتشنيك، فقد كتب في العام 2015 عن محادثاته مع نافالني الذي قال له “فكرتي هي أننا بحاجة إلى التحدث مع القوميين وتعليمهم”. — العديد من القوميين الروس ليس لديهم أيديولوجية واضحة. كل ما لديهم هو شعور بالظلم العام، الذي يستجيبون له بالعدوان ضد الأشخاص ذوي لون البشرة المختلف أو شكل العين المختلف. أعتقد أنه من المهم للغاية أن نوضح لهم أن ضرب المهاجرين لن يحل مشكلة الهجرة غير الشرعية. الحل هو العودة إلى انتخابات تنافسية تتخلص من اللصوص والمحتالين الذين يستفيدون من الهجرة غير الشرعية”.
وبحسب الباحث الروسي الآخر في المنفى، سيرغي إروفييف، أستاذ علم الاجتماع في جامعة روتجرز، فهو قال لألباتس، أنه يعتبر نافالني قومياً مدنياً ثابتاً، هدفه إنشاء دولة قومية في روسيا الحديثة ذات مؤسسات ديمقراطية واضحة”. وبفضله، دافع عدد من العلماء الروس عن نافالني وغيره من السجناء السياسيين، وطالبوا بترشيحه لجائزة نوبل للسلام لتصريحاته ضد الفساد.
حاول نافالني تقديم هوية وطنية روسية ما بعد الإمبريالية لا تقوم على الحنين للدولة السوفياتية، في الوقت الذي كانت فيه المعارضة القومية انعزالية ومعادية للأجانب. ويرتكز موقف نافالني على الإيمان بالحق الأساسي في تقرير المصير.
على مدى العقد الماضي، تطورت آراء نافالني السياسية علناً. ولم يعتذر أبداً عن آرائه السابقة التي تضمنت كراهية للأجانب أو عن قراره بالمشاركة في المسيرة الروسية. وفي الوقت نفسه، تبنى مواقف اقتصادية يسارية بشكل متزايد وخرج لدعم زواج المثليين. ومن المرجح أن تكون استراتيجية اتخاذ مواقف جديدة دون إدانة المواقف القديمة صراحة، هي السبب وراء استمرار الشكوك حول القومية العرقية لدى نافالني.
ويقول نيكو بوبيسكو كبيرالمحللين في المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية في باريس عن قومية نافالني، إن القومية ليست ظاهرة معزولة في السياسة الروسية، ونافالني في هذا الإطار “أصبح قومياً بنفس الطريقة التي أصبح بها معظم اللاعبين السياسيين في روسيا قوميين بشكل متزايد”. وبمقارنة مع السياسيين الأوروبيين، يضع بوبيسكو نافالني بين الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والزعيم السابق لليمين الفرنسي المتطرف جان ماري لوبان، موضحاً أنه “يمكنه أن يتحدث بصوت أكثر قسوة مما سمح به ساركوزي لنفسه، لكنه من ناحية أخرى أكثر ليبرالية من الجبهة الوطنية”.
أما ساشا تام، الرئيس السابق لمكتب موسكو في مؤسسة فريدريش نومان ستيفتونغ، القريبة من الحزب الديمقراطي الحر الليبرالي الألماني، فيقول: “لا أعتقد أن قومية نافالني أكثر خطورة من تلك القادمة من الأحزاب الأخرى”، مضيفاً “إن حزب روسيا الموحدة الحاكم يلعب بهذه الورقة من وقت لآخر”.
وقد اعتبر ساشا تام إن نافالني من هذا المنطلق “مرشح غير مناسب”، لأنه “من المحزن والخطير بالنسبة لروسيا أن يكون أحد القادة الشعبيين القلائل في المعارضة الروسية حاملاً لوجهات نظر قومية”… “وحبذا لو تدافع المعارضة عن روسيا المنفتحة، وليس فقط ضد الفساد وسيادة القانون”.
لقد تسببت وجهات النظر القومية لألكسي نافالني بجدل واسع النطاق بين أنصار المعارضة ولم يحظ بالتأييد الكافي، ولم يشكل حزباً شعبياً واضحاً ببرنامج متكامل يقدم حلولاً للمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد بقي صوتاً معارضاً مارس ما اعتبره حقاً له.
موقف نافالني من الإسلام
حملت تصريحات نافالني نوعاً من العداء تجاه كل شيء مسلم، بدءا من رمز الشهادة والنساء المحجبات، وانتهاء بقيادة جمهوريات مثل الشيشان وتتارستان. وقد تحدث في تجمع قومي نظم في موسكو تحت “شعار توقّفوا عن إطعام القوقاز”.
ووفقاً له، فإن سكان القوقاز الموالين لروسيا هم متخلفون مثيرون للاشمئزاز، توفر لهم الدولة “مصاعد اجتماعية”، ولا يشاركون إلا في رقص الليزجينكا في شوارع موسكو. “ويقوم المتطرفون في موخوفايا وفي الكرملين ببناء مصعد اجتماعي لا يمكنك من خلاله تحقيق شيء ما، إلا إذا كنت متخلفاً مثيراً للاشمئزاز ومشاغباً، واشتريت مسدساً، وقمت بالرقص في الساحات، “هذا هو المصعد الاجتماعي الخاص بك”.
في هذا الإطار، أصبح رمضان قديروف ورستم مينيخانوف الهدفين الرئيسيين لهجمات نافالني ومؤسسة مكافحة الفساد التي يسيطر عليها، والتي تمت تصفيتها بعد قرار محكمة روسية. وقال نافالني إنه تم إنشاء “نظام إسلامي متطرف” في الشيشان يهدد روسيا والعالم أجمع بـ “جيش من الانتحاريين”. ووفقاً لنافالني، فإن “نظام قديروف الإسلامي العدواني، القائم على الجماعات المسلحة غير الشرعية والمزود برخصة قتل صادرة عن الكرملين، هو أحد التهديدات الرئيسية للأمن القومي لبلادنا”. أما عن مينيخانوف، فلا يمكن ربط الإسلام به باعتباره شخصاً علمانياً بشكل قاطع.
وفي هذا الإطار، انتقد رمضان قديروف، زعيم المعارضة ألكسي نافالني بسبب طلبه نسخة من القرآن وهو في السجن في فلاديمير من أجل دراسة وفهم القرآن والسنة النبوية بعمق..
وبحسب قديروف، فإن نافالني وصف في السابق النساء المسلمات المحجبات بـ “متوحشات العصور الوسطى”، كما أنه عارض أيضاً بناء المساجد. ولذلك، “ومن دون مزيد من التوضيح، يبدو أن هذا الكاره للإسلام يحاول استخدام الكتب المقدسة لأغراضه السياسية الخاصة، وسيستخدم بالتأكيد الاقتباسات للاستفزازات، كما تعلموا أن يفعلوا منذ فترة طويلة في أوروبا”.
رفع نافالني دعوى قضائية ضد السجن. وخلص إلى القول: “الكتب هي كل شيء لدينا، وإذا كان علينا أن نقاضي من أجل حق القراءة، فسوف أقاضي”.
إن مسيرة ألكسي نافالني السياسية ليست مسيرة فلاديمير لينين في روسيا، ولا تقربها. فهو اعتبر أنه لا يمكن الإطاحة بحكم بوتين إلا من خلال تشكيل تحالف سياسي لليبيراليين مع حاملي الأفكار القومية التي برزت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي هذا الأمر تبسيط، خصوصاً عندما يتعلّق بدولة مثل روسيا. فالخطوة التي يغيب عنها الشعب والقوى صاحبة المصلحة، تبوء بالفشل وتنتهي بمأساة.
Visited 38 times, 1 visit(s) today