الاحتفالية شرقية الروح وغربية العقل
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في الصورة الأولى يوجد الاحتفالي بين بحرين اثنين هما، البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وفي الجهة اليمنى يوجد مشرق الشمس وفي الجهة اليسرى يوجد مغربها، وبينهما يوجد شخص الاحتفالي، وتوجد روح الاحتفالية، والتي لها موقع عند ملتقى الحضارات والثقافات، ونحديدا عند ملتقاها ومفترقها أيضا.
وهذه الصورة، كما هي في مدخل هذه المقالة، أو هذا النفس، كانت في الأصل تشير إلى البحر، من جهة، وتشير إلى المحيط الأطلسي من الجهة المقابلة، ولكنها في هذا التعديل الجميل المعبر، والذي قام به صديقنا وأخونا الأستاذ عبد الرحمان الوادي، من عاصمة السينما الأفريقية مدينة خريبكة، نجدها تشير إلى الاحتفالية شرقا، وإلى الاحتفالية غربا، مما يدل على أن كل الطرق، مهما تعددت، فإنها لابد أن تؤدي إلى الاحتفالية، في معناها الواسع والشامل والمتكامل، والتي هي الإنسان، وهي الإنسانية، وهي الجغرافيا الإنسانية أيضا، وتماما كما هي الحياة، وكما هي الحيوية، وكما هي جغرافيا الحياة، بكل خرائطها الروحية والوجدانية والفكرية والأخلاقية، المتعددة والمتنوعة والمتجددة عبر الزمان والمكان.
أما الصورة الثانية، فتضم شخص الاحتفالي في ضيافة برنامج (سيرة) بإذاعة ميدي 1 الدولية، وذلك في مدينة طنجة الدولية؛ مدينة ابن بطوطة، شيخ الرحلة والترحال، وشيخ الروح الإنسانية، في كل أبعادها الصادقة، وفي كل مستوياتها المكانية والزمانية المتعددة.
سيرة الاحتفالي ومسار الاحتفالية
هذه الأيام الكل يسألني عني، وكأنني خرجت للوجود يوم أمس فقط، والكل أيضا، يسأل عن هذه الاحتفالية، وكأن تاريخ هذه الاحتفالية ليس هو تاربخ الإنسان في الوجود وفي الحياة وفي كل مكان وزمان، هم يسألون اليوم عن معنى ومغزى هذه الاحتفالبة، والتي هي ظل الحياة، وهي ملح الوجود، والتي هي أيضا، في روحها وجوهرها فكرة أولا، وهي تفكير ثانيا، وهي نظام حياة ثالثا، وهي مسيرة ومسار رابعا، وهي أسئلة ومسائل خامسا، وهم يسألون عن علاقتي بهذه الاحتفالية، ويسألون كيف لقيتها، وأين التقيت بها، في الحلم أم في اليقظة؟ ومتى كان اللقاء الأول بها؟
وفي إذاعة ميدي 1 بمدينة طنجة سألتني الإعلامية والمثقفة اعتماد سلام عن مسيرتي الوجودية وعن مساري الفكري والجمالي والأخلاقي، وعند أية نقطة يلتقي الخطان، خط حياتي وخط حياة مسرحي، وعند أية نقطة يفترقان، كما سألتني عن سر هذه الاحتفالية التي اختارتني، ومعي كل الاحتفاليين في العالم، لكي ننطق باسمها. والتي اخترناها نحن لتكون عنوان وجودنا، ولتكون نظام حياتنا، ولتكون في نفس الوقت نظام كتابتنا الإبداعية في عالم المسرح، ولتكون منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية نستظل بظلها، ونمشي في طريقها، ولقد أكدت لمضيفتي اعتماد سلام بأن الاحتفالية مدرستي الأولى، وأنني قد وجدتها أولا في مسقط رأسي، مدينة أبركان، والتي كانت، وماتزال، مدينة احتفالية تتنفس جمالا وكمالا، كما وجدتها أيضا، في تلك الطبيعة المحتفلة والمعيدة دائما، مرة بألوانها وأصباغها وبرسومتها الجميلة، ومرة أخرى في احتفالات وأعياد الناس، كما وجدتها في البيت، بين أمي وأبي وجدتي وإخوتي، وكما وجدتها في الكتاب وفي المدرسة، وفي السوق، وفي حلقات الذكر ، كما وجدتها في لغات الناس البسيطة والحية، وأيضا، في ملابسهم وفي حليهم وفي رقصهم وغنائهم وفي أعيادهم واحتفالاهم، وفي وشم كثير من النساء في هذه المدينة.
دهشة الداخل إلى العوالم الجديدة
يقول الاحتفالي في في كتاب (زمن الاحتفالية) والذي صدر عن “منشورات افريقيا الشرق” ما يلي:
(في البدء اندهش إذن، ولكل داخل لابد له من دهشة، قد تطول وقد تقصر، وقد يدوم ذلك الاندهاش قليلا أو كثيرا، ومن بعد هذا الاندهاش، الأولي والطبيعي، والحيوي أيضا، فإنني أتساءل بصدق، وأحاول أن أكتشف كل شيء، وأن أعرف سر الأشياء الغامضة، وأن أدرك سر الكلمات والعبارات الملتبسة، وأن أكشف الحجاب عن سر الواقع والمشاهدات الخفية، وأن أذوق معنى الإشارات ومعنى العلامات، وأن أقبضى على العلاقة الحية بين الجزئيات والكليات، سواء في الصور والأحداث، أو في المحركات أو المتحركات).
ويسعدني أن اظل ذلك المندهش الذي كان، وأن أكون مثل صديقي عبد السميع الطفل، محتفظا بروح الطفل فيه، والذي لا يشيخ أبدا، وأن أبقى مشاغبا في العلم وفي الفن وفي الفكر وفي كل مجالات الحياة.
ويقول الاحتفالي في كتاب (كتابات على هامش البانات)، والذي نشر سنة 1999 بمطابع فضالة بالمحمدية ما يلي:
(الاحتفالية تطلع على الناس دائما من حيث لا يتوقعون، إنها – والتاريخ – يسيران جنبا إلى جنب، وفي نفس الاتجاه، وإذا رأيتم يوما، أو سمعتم، أم قرأتم، عن احتفالية مختلفة، أو متخلفة عن الحقيقة والتاريخ، فاعلموا أنها احتفالية مزيفة وغير حقيقية).
فالاحتفالية هي أساسا حركة، وهي طاقة وجدانية وروحية وفكرية محركة ومتحركة، وهي تخالف نفسها دائما لتجد حقيقتها التي تبحث عنها.
وفي البدء الأول لم أكن كاتبا، وما كنت أدري معنى الكتابة، ولقد دخلت دنيا الناس، في يوم من الأيام، ولم يستشرني أحد في هذا الدخول، ولقد خرجت من الظلام إلى النور ، ومن المجهول إلى المعلوم، ولقد كنت في ذلك البدء مجرد صفحة بيضاء، كتبت عليها الأيام والليالي، وبحروف من نار ونور، مسيرتي ومساري وتاريخي، ولقد ساعدني – مشكورا – ضوء النهار أن أرى الناس والأشياء، وساعدتني المرأة أن أرى وجهي، وأن يكون بإمكاني أن أقول بأن هذا الذي في المرأة هو انا، وأن أدرك ما معنى أن أكون أنا.
وأعترف بأنني فضولي، بدرجة عراف أو بدرجة متنبئ، وذلك في مجال العلم والمعرفة، وفي مجال الفكر والفن، ويهمني أن أعرف كل شيء، وأن أتوقع حدوث الأحداث قبل حدوثها، وأن أعرف إلى أين تمضي هذه الأيام، وأن أعرف من أين أتت أيضا.
لقد خرجت للوجود في زمن كانت فيه الأمية حاضرة بشكل كبير، ولكن التفاهة لم تكن حاضرة، وكان الأمي يأخذ الرسائل التي تصله لمن يقرأها له، ولم يكن يجرؤ على أن يتطاول على العارفين،
وهذه الاحتفالية. هي دائما مع جماليات الفنون ومع معقولية الفكر والعلوم، ولكنها بالتأكيد ضد دجل السياسة وضد دجل السياسيين، وضد تخاريف الإيديولوجيا، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال (ما جادلني جاهل إلا غلبني).
الاحتفالي المتمرد في الحياة المتمرة
بحسب قانون الوجود وقانون الطبيعة، فإن كل شيء في هذه الحياة يمشي إلى الأمام، أو يطير إلى الأعلى، ولا وجود لشيء يمكن أن نسميه خط الرجعة، أو خط التراجع، وفي الأمام يوجد الجديد، ويوجد الجميل، ويوجد المدهش والمثير، ويوجد ما هو أكثر صدقا ومصداقية، وكل ما هو أكثر كمالا واكتمالا.
وبحسب ابن عربي فإن (الإمام لا يلتفت إلى الخلف)، لأن من طبيعة هذا الإمام أن يكون في الأمام، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يرفض أن يكون في اليمين، أو أن يكون في اليسار، أو أن يكون في الوسط، وهو محكوم بأن يسابق الزمن، والذي فيه من يسايره، وفيه من يخالفه ويتخلف عنه، وهل كانت كل الحضارات إلا سباقا شرسا ضد الزمن، وضد ساعته المجنونة؟
وفي كتاب (الاحتفالية مواقف وموقف مضادة) نجد فصلا بعنوان (الاحتفالية لا تلتفت إلى الخلف)، وفي هذا الفصل نجد الاحتفالي يقول (إن الاحتفال، في معناه الصحيح. هوالحضور، وهو التلاقي، وهو الحوار، وهو العيد وهو التجديد، وبهذا فقد كانت هذه الاحتفالية، مثل أمها الطبيعة، ومثل جدتها الحياة، لها دورتها الوجودية المتجددة، ولها شروقها وغروبها، ولها ليلها ونهارها، ولها فصولها المتعاقبة، وبهذا فقد أمكن أن نقول ما يلي، ان هذه الاحتفالية لا تغيب إلا لتحضر، ولا تختفي إلا لتظهر، ولا تغمض العين إلا لتبصر احسن، ولا تنتهي إلا لتبدأ، وهي تؤكد دائما على أن الغياب خيانة وجودية، وحتى ذلك الذي نسميه موتا، فإنه ليس غيابا حقيقيا، ولكنه مجرد تغييب، وهو فعل يمارس من الخارج على الذات الحية، وقد يكون خيانة داخلية ايضا، وهناك ذوات كثيرة تقبله. وترضى به، وتراه قدرا لا مفر منه، وبالمقابل، فهناك ذوات أخرى متمردة ومحاربة؛ ذوات ترفض الغياب، وتقاوم التغييب، ووتصدى لكل قوى الاغتيال، بكل عنف وقوة، وفي هذه الفئة المتمردة توجد الاحتفالية، ويوجد شخص الاحتفالي بكل تاكيد.
وعندما تكون احتفاليا، ويكون لك ارتباط عضوي وحيوي بالزمن، وبالساعة، فإنه يستحيل أن تكون سلفيا، أو تكون رجعيا، أو تكون ماضويا، أو تكون متخلفا، أو تكون متحفيا، أو تكون غائبا أو غيبيا.
وفي كلمة للدكتور مصطفى رمضاني، تعقيبا على مقالة ( الاحتفالية بين الأنانية والنحنية) نجده يقول:
(فعلا صديقي. وهل يتأتى الاحتفال إلا بحضور الآخر؟
وهل يمكن أن تعيش إنسانيتك الحضارية خارج النحن؟
نحن يا صديقي نعيش ونحتفل ونستمر بهذه النحن التي هي لا تنتهي. محبتي).
وأنا الاحتفالي، العاشق للحركة وللجديد والتجديد، أجد نفسي ملزما بأن أكون ضد العادة، وذلك عندما تكون هذه العادة حركة في دائرة مغلقة ومفرغة، ولقد قلت قولي هذا، وكتبه مرات ومرات عديدة، ولقد أكدت على أن الأصل في هذه العادة هو أنها تكرر الموجود، بشكل آلي، وأنها تسترجع الذي كان، كما كان، وأنا، من (عادتي) أنني لا أحب هذه العادة التي لا حرية فيها ولا تفكير فيها ولا اختيار فيها، وأنا عادة لا أوصي بالعادة إلا في حالة واحدة فقط، وذلك عندما تصبح السعادة، في حياة الناس، هي العادة، وأن تكون بذلك فعلا جميلا ونبيلا متكررا في كل يوم وفي عام يوم وفي كل ساعة وفي كل دقيقة وفي كل دقيقة وفي كل ثانية، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي الذي بداخلي يقول دائما:
— ما أجمل أن يكون الإنسان متعودا في حياته على أجمل الأشياء وعلى أنبل الأشياء وعلى أصدق الأشياء، وعليه، فإنه لا شيء أجمل من يكون الإنسان متعودا على السعادة وعلى الفرح وعلى التفاؤل، ومتعودا أيضا على البهجة وعلى السؤال، وهذا بالتأكيد ما يمكن أن نجده في العيد وحده، والذي هو العادة، وذلك في معناها الذي يفيد تجديد القديم، ويفيد معنى إعادة الكائن الموجود بصيغة الممكن المحتمل الوجود.
ولعل أسوأ شيء في حياة الإنسان اليومية هي تلك العادة التي تدور حول نفسها، والتي لها معنى التكرار والاجترار، وتكون بذلك مدخلا للملل والسأم، وأن تكون فعلا آليا، يبعد الإنسان الحي عن الحياة وعن الحيوية، ولكن هذه العادة قد تكون ضرورية أحيانا، وتكون تجديدا للقديم، وتكون أحياء لما قد نظن أنه ميت، ولهذا فقد كان الاحتفالي ضد العادة، وذلك عندما تكون هذه الاحتفالية جمودا على الموجود. وتكون كسلا فكريا، وتكون روتينا يوميا بلا روح.
وفي معنى فعل التعييد، والذي هو العادة المتمردة على السكون وعلى الثبات وعلى الجمود، وفي معنى هذه الاحتفالية، في مستواها الفلسفي العام، يقول الفنان والإعلامي حسن عين الحياة ما يلي:
(بين العيد والتعييد هناك المسرحي المقتدر السي عبد الكريم برشيد.. احتفالي كبير يتجدد كل ساعة وكل يوم وكل شهر وكل عام.. وبالتالي فهو حر، لا يشيخ أبدا، ولا يجوع أبدا، يغذي احتفاليته من الأحداث وأسبابها ومسبباتها ونواميسها ومن شخوصها الخفية والظاهرة.. وهكذا، يظل الاحتفالي حيا، جسدا وروحا، وحياته تمتد إلى الأشياء من حوله.. وفي اللغة التي يتحدث بها احتفال، وباللغة التي يزرعها في الجمال.. وبالتالي فهي، أي الاحتفالية، ليست الكمال.. إنما تسعى إليه، وتشتغل من أجله، وتبحث لبلوغه، وتجتهد للوصول إليه، وهي في بعدها وفلسفتها تحاول أن تستقل لتشمل.. تخلخل المفاهيم السائدة والتقليدية، لتكون أكثر حداثة.. تتمرد لتتجدد.. وفي التجديد حياة.. والاحتفال جوهر الحياة…
تحياتي السي برشيد… احتفل ونحن معك من المحتفلين).
وفي نفس هذا المعنى، والمتعلق بالعادة، يقول المتنبي، شاعر الحكمة ما يلي؛
(لكل امرئ من دهره ما تعود)
نعم، ونحن أيضا، وعلى منهاجه، نقول نفس قوله، ونردد معه:
لكل امرئ من دهره ما تعود، وان من عادات الاحتفالي دائما، البحث عن لحظة فرح حقيقية، وهو السير إلى الأمام أيضا، وهو النظر إلى وجهه في المرآة صباح كل يوم، حتى يتأكد من أن وجهه مازال هو وجهه، وأن ملامحه لم تتغير، إلى الأسوأ، وأنه مازال محافظا على إنسانيته ومدنيته.
الاحتفالية الطاقة المتجددة
وبخصوص قوة الاحتفالية، والتي هي جزء صغير من قوة الوجود ومن قوة الحياة، وبخصوص القيمة المضافة التي أتت بها الاحتفالية، إلى مجال المسرح بشكل خاص، يقول الباحث والإعلامي والمؤرخ المسرحي المغربي د.نذير عبد اللطيف في مجلة (النبوغ) ما يلي:
(تتجدد قوة الاحتفالية بتجدد الأزمنة، وتتطور بتطور الأحداث والظروف والملابسات، ذلك أنها بعمق فكرها، استطاعت أن تبني إطارها النظري والتنظيري من رؤيتها التي تتجاوز الوقوف عند كل ما هو كائن إلى تصور ما هو ممكن ومحتمل، فخالفت بذلك بعض التجارب العالمية في ابعادها وتصوراتها وتجلياتها المعرفية والمفاهيمية والتواصلية، من هنا نراها انتقدت الملحمية البريشتية في نظرتها للمسرح، باعتبارها تخاطب عقل الجمهور فقط، دون إحساسه، باعتبار أن هذا المتلقي يعتبر عمق الفعل الدرامي، وجوهر العملية التواصلية، كما تجاوزت المسرح الدرامي الأرسطي، بمكوناته ومستوياته التطهيرية، الساعية إلى مخاطبة عواطف المتلقي للانضمام بانفعالاته).
وبحسب الاحتفالي المفكر والمنظر، فإن كل طرق الحياة تؤدي إلى الاحتفال وإلى العيدية وإلى الاحتفالية، فنحن نولد في يوم من الأيام، وفي اليوم السابع نحمل اسما من الأسماء، ويكون ذلك في احتفال، وندخل عالم الناس الأحياء من بوابة الاحتفال، ونستقبل الأحياء الجدد باحتفال عيدي، ونودع الأموات منا أيضا، باحتفال جنائزي.
إن كل طرق الحضور تؤدي إلى العمل، وكل طرق العمل تؤدي إلى النجاح، وكل طرق النجاح تؤدي الى الاحتفال. وكل طرق الاحتفال تؤدي إلى الاحتفالية، وبهذا يكون الاحتفال تتويجا للاجتهاد والمجتهدين، ويكون تتويجا للكد والجد والحفر في الصخر، ويكون جزاء للصبر أيضا، من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة.
وكل طرق الحياة، في عالم الناس الأحياء، هي طرق للبحث عن الفرح وعن السعادة وعن النجاح وعن الغنى الروحي والنفسي والوجداني، والبحث أيضا عن العلوم وعن الفنون الجميلة، وعن المعرفة وعن الحكمة، وعندما يدرك الإنسان واحدة من هذه الغايات. فإنه يكون من حقه أن يحتفل، أما بالنسبة للفاشلين والمتخلفين والتافهين والحمقى، فإنه لا يليق بهم الاحتفال.
والاحتفالية، في فلسفتها التعييدية، تسعى من أن تنتقل من إرادة القوة، كما هي عند نتشه، إلى إرادة الحياة الصاقة والحقيقية، كما ينبغي أن تكون، والتي هي فعل إنساني جميل ونبيل يستحق الاحتفال.
ولهذا الإنسان الاحتفالي، في درجته العالية والسامية، وجود متجدد في كل الإبداعات المسرحية الاحتفالية، واختتم اليوم هذا النفس الجديد، من هذه الكتابات الاحتفالية المجددة، عن شخصية سقراط، والذي طلب الحياة فأعطي الموت، وبحث عن الجمال والكمال، ولكنه أدركه القبح والظلم والظلام، من حيث لا يحتسب، وفي النفس الأخير من مسرحية (سقراط قالوا.. مات) يدور الحوار التالي بين سقراط والجلاد:
(ــ يا سقراط، لقد كلفتني الدوائر العليا أن أسألك السؤال التالي: ما هو طلبك الأخير؟
ــ طلبي الأخير هو نفس طلبي الأول، أي أن أعود إلى ساحات أثينا..
ــ هذا غير ممكن..
ــ وأن ألقي درسي الأخير في شباب المدينة..
ــ وإذا سألتك، في أي موضوع سيكون هذا الدرس يا سقراط، ماذا تقول؟
ــ في أي موضوع؟ في نفس الموضوع الذي أموت الآن بسببه، وهو كل ما لدي، ولا أحد يعطي إلا مما لديه..
ــ طلبك مرفوض يا سقراط..
ــ مرفوض أو غير مرفوض، فأنا حتما سأعود إلى ساحات ودروب أثينا غدا..
ــ لن يسمح لك الموت بهذا..
ــ لا سلطة لأحد على الأرواح الحرة، وسأعلم الناس كيف يعيشون أحرارا، وكيف يموتون أحرارا، وكيف يفكرون بحرية، وكيف يسألون ويتساءلون، وكيف يكونون مشاغبين كالأطفال، وكيف يكونون مقلقين ومرعبين..
ــ أجساد الموتى لا تقلق أحدا يا سقراط..
ــ نعم، ولكن أرواحهم تقلق الجلادين والطغاة والدجالين والمزيفين والمحتالين، غدا سأكون بلا وزن..
ــ ( يهمس لنفسه) لن يكون لك غد بعد اليوم..
ــ وسأكون بلا حجم أيضا، وبلا شكل، وبلا لون، سأكون حرا كالريح والهواء، وشفافا كالنور والضياء، لن أكون مواطنا يقبل السجن والاعتقال، ولن أكون جسدا يقبل النفي والاغتيال، لأنه لا أحد يموت مرتين، ولا أحد يمكن أن يخاف من الموت بعد الموت..
أنا ما أحسست يوما بأنني حر كما أحس الآن يا رفاقي، بعد هذا الموت لن أرغب في شيء، ولن يخيفني شيء، ولن أطمع في شيء.. هات أنت الكأس أيها الجلاد..
( يأخذ منه الكأس، يريد التلاميذ أن يسرعوا إليه ليمنعوه من شرب ما بالكأس، فيردهم بيده)
ــ من نفس هذه الكأس، سيشرب الجميع، حتى أنت يا صاحب القناع، وحتى السادة القضاة، وحتى الحكام والأغنياء، كأس واحدة تشرب منها كل البشرية..).
Visited 25 times, 1 visit(s) today