لماذا ترك النظامُ الرسمي العربي الشعبَ الفلسطيني وحدَه فريسةً للوحش الإسرائيلي؟؟؟
عبد السلام بنعيسي
أقدمت دولة جنوب إفريقيا على رفع دعوى قضائية في محكمة الجنايات الدولية ضد الكيان الصهيوني وطالبت بمعاقبته على المجازر والمذابح التي يقترفها ضد الشعب الفلسطيني في العدوان الذي يشنُّهُ عليه منذ ما يقارب الخمسة شهور، وبادرت دول من أمريكا اللاتينية مثل المكسيك وفنزويلا والبرازيل إلى استدعاء سفرائها من تل أبيب وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، احتجاجا على حرب الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، في حين لم تقدر أي دولة عربية من اللواتي لها علاقات بالكيان الصهيوني على قطع هذه العلاقات، ووقف التطبيع معه، ولم يفلح النظام الرسمي العربي، بمطبعيه وغير مطبعيه، في صدِّ العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، بل لم يتمكن العرب مجتمعين من إدخال حتى الخبز والماء والدواء للفلسطينيين المحاصرين في غزة، لإنقاذهم من الجوع الذي يفتك بأطفالهم، ونسائهم وعجزتهم، ومن المرض الذي يطحن الجرحى والمعطوبين والمرضى منهم، فلماذا استفحال هذا العجز العربي؟ وبماذا يمكن تفسيره؟ وكيف يجرؤ الحكام العرب على خذلان أشقائهم الفلسطينيين، إلى هذا المستوى الوقح؟ وبماذا يمكن شرح كونهم متفرجين في مأساة الأشقاء الفلسطينيين كل هذه الفترة الزمنية المديدة، المتسمة بالقتل، والتدمير، والتهجير، والتجويع، والتعطيش؟؟؟
يدرك الحكام العرب أن إسرائيل تُمثِّلُ الذراع الأيمن الضاربة للغرب، والتجسيد العملي، لمصالحه، بقيادة أمريكا، في منطقتنا العربية، ويعلم هؤلاء الحكام أن من يريد التصدي لإسرائيل والدخول في مواجهة فعلية وصارمة معها بهدف عرقلة المشاريع التي تسعى لبلورتها في محيطها، فإنه يغامر بالدخول في مواجهة، من ذات الحجم، مع الغرب عموما حول مصالحه، ومع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا حول مصالحها هي أيضا، في الوطن العربي.
وإذا توقفنا مليّاً عند الموضوع، فإننا سنستخلص أن الحكام العرب لا يجرؤون على الدخول في صراعٍ حقيقي مع القوى الغربية بشكلٍ يهددون فيه مصالح الغرب، ويتواجهون معه مواجهات حدية ومصيرية حول القضية الفلسطينية، ليس لأن العالم العربي يفتقر إلى المقومات والمؤهلات التي يمكن اعتمادُها لخوض الصراع مع خصومه وأعدائه، وإجبارهم على احترام حقوقه والتجاوب معها، وإنما لأن العجز العربي، الذي يتحول موضوعيا إلى تواطئ، سببُه الاعتباراتُ الخاصة المرتبطة بالنظام الرسمي العربي الحاكم أصلا. فهنا لُبُّ المشكل، وهنا جوهرُ الداء.
الغالبية العظمى من الحكام في منطقتنا العربية لديهم في حساباتهم البنكية الموجودة في الغرب أموال طائلة منهوبة من الثروة الوطنية العربية، ومُهرَّبة في البنوك الغربية، ولديهم استثمارات ضخمة في عواصم الدول الأوروبية، وفي أمريكا، وكندا، وفي الجنات الضريبية، وعندما نستحضر أن المخابرات الغربية على علم بأمكنة هذه الأموال والاستثمارات العربية الموجودة فوق أراضيها، فإننا نعلم كذلك أن بالإمكان وضع اليد الغربية والأمريكية على هذه الأموال والاستثمارات، وتجميدها، وسلبها من أصحابها، وحرمانهم منها، والمبررات التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذه الغاية موجودة بوفرة، وحتى إن كانت منعدمة فبالإمكان اختلاقها، وصنعها من العدم.
ولأن حكامنا يحرصون على أموالهم الهائلة حرصا شديدا، ولا يتحملون المساس بها أو ضياعها، كما أنهم يتمسكون بالاستثمارات التي لديهم في الخارج، فإنهم لا يجرؤون على الدخول في مواجهة محتدمة مع الغرب من منطلق التضامن مع شقيقهم الشعب الفلسطيني، وذلك حرصا منهم على ثرواتهم الشخصية الهائلة المركونة في الخزائن الأوروبية والأمريكية.
العديد من الأسر العربية الحاكمة أضحت لديها مشاريع استثمارية مشتركة مع فئات واسعة من الطبقة الحاكمة في أوروبا وأمريكا، مصالحُ الطرفين باتت متداخلة ومتشابكة، ولأن المشاريع والأموال توجد في الغرب وفي أمريكا، فإن موطن الإقامة للثروة يصبح متحكما في كل التصورات والمواقف والقرارات التي يتعين اتخاذها من طرف النخبة العربية الحاكمة التي تفضل حياة الدعة والبذخ والاستهلاك المفرط، متنصلة من كل التطلعات المشروعة التي تصبو إليه الشعوب التي تحكمها.
الذي ينهب ثروات وطنه، وينقلها إلى الخارج، ويكدسها هناك، لاشك في أنه يحبُّ المال الوفير والغنى الفاحش، ويصبح عبدا لتلك الثروات، ولا يمكنه التفريط فيها، أو الإقدام على أي خطوة قد تشكل خطرا عليها، ومن هنا تأتيه النصائح بأن يظل بعيدا عن كل نشاط أو قرار قد يُدخله في مجابهة مع القوى الغربية التي تتحكم في أمواله الطائلة، وعلى رأس هذه النصائح تجنُّبُ الدخول في صراع حامٍ مع الدولة العبرية. ومثل هذه النصائح يبتغيها الحاكم العربي وينتظرها، وينصاع لها بسرعة وبتلقائية.
إذا تجاوزنا عامل الحرص على الثروات الشخصية للفئة العربية الحاكمة المودعة في الغرب، فإن هناك عاملا آخر يلعب دورا كبيرا في تلكؤ وجُبن الحاكم العربي وعدم قدرته على اتخاذ المواقف الجريئة ضد الكيان الصهيوني. فعدد كبير من الحكام العرب أياديهم ملطخة بدماء الشعوب التي يسيطرون عليها، مجازر كثيرة اقترفتها بعض الفئات الحاكمة في عالمنا العربي ضد مواطنيها ومواطني جيرانها، وكانت تلكم المجازر تُرتكبُ بدعمٍ من الغرب وأمريكا، وبمباركة منهما، وهي محفوظة في ملفات سرية، وفي متناول الغربيين والأمريكيين أن يخرجوا هذه الملفات من الجوارير، وأن يضعوها على الطاولة، وأن يبتزوا أصحابها بواسطتها، ويطالبوا بمحاكمتهم بتهم ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.
بالسهولة التي يغضُّ فيها الغرب النظر عن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، واللبنانيين، والسوريين، ويتصرف إزاء هدر حقوقهم الإنسانية، بازدراء ولا مبالاة، وبمرونة زائدة، بذات السهولة، يمكن للغرب أن يعكس الآية، ويصبح متشددا في موضوع حقوق الإنسان، ويطالب بمحاكمة أي مسؤول عربي بتهمة أن أياديه ملطخة بدماء أبناء شعبه، محاكمتُه في محكمة الجنايات الدولية، ولن يتردد الغرب في فرض عقوبات اقتصادية قاسية على الدولة التي يوجد على رأسها ذلك الحاكم العربي، وجعْلِ شعبها يعاني معاناة شديدة. ازدواجية معايير الغرب في اتخاذ القرارات لم يعد الغربيون يتحرجون أو يخجلون منها، إنهم يمارسونها على عينك يا تاجر.
الحصار الذي كان مفروضا على العراق في عهد الرئيس صدام حسين، وصنوه الذي كان مفروضا على ليبيا في عصر القذافي بسبب قضية لوكيربي المفتعلة، والحصار الذي عانى منه ياسر عرفات في المقاطعة إلى أن قتلوه فيها، والحصار على الشعب اليمني، والشعب اللبناني لأن فيه مقاومة تردع الكيان الصهيوني، وقانون قيصر المفروض على سوريا، هذه الحصارات تؤكد حقيقة أن من يريد الدخول في مواجهة حازمة مع الدولة العبرية، فإنه يؤدي الثمن غاليا. ويحدث ذلك بمباركة رسمية، وتواطئ علني من طرف جل الحكومات العربية…
من هنا نفهم لماذا يتحاشى كل نظام عربي حاكم اتخاذ موقفٍ مشابه لموقف جنوب إفريقيا، أو البرازيل، أو المكسيك، ولا يجرؤ على تقديم الدعم المطلوب للشعب الفلسطيني، ولا يملك قدرة قطع العلاقات مع دولة الاحتلال، أو الدخول في صراع وجودي معها وإعلان تمرُّده الشامل على أمريكا. بسبب فرقة العرب، وتشتتهم، فإن كل حاكم عربي يعيش اليوم مرعوبا بهوس التهديد الخارجي، إما على إمكانية ضياع ثروته المودعة في الغرب، أو على نفسه من المتابعة القضائية الغربية بسبب جرائم مفترضة اقترفها ضد شعبه.
النظام الرسمي العربي يعيش وهو يتحسس رأسه، خوفا من الغرب ومن أمريكا ومن الكيان الصهيوني، ولذلك، باستثناء محور المقاومة والفصائل المنضوية تحت لوائه، ترك هذا النظام الرسمي العربي البائس والجبان، الشعب الفلسطيني وحده، فريسة للوحش الإسرائيلي…