بورتريه: السرْج المذهّب لا يليقُ بالحمير
عزالدين الماعزي
1
لا يحتاج سي امبارك إلى أيّ شرطٍ لكي يمارس حياته الطبيعية وطموحَه الكبير الذي ينوي إتمامه فيما يُرضي الله ورسوله. في سبيل ذلك اعتقلتْه العديد من المهن والحرف اليومية : بائعا متجولاً للكرموس والدلاح والحريرة في برشيد وقلعة السراغنة والجديدة ومولاي عبد الله وفرْناتْشي في أماكن مختلفة.
صنع له تاريخا متعددا من فصول مختلفة وتقلّد عدة مناصب ومسؤوليات وحاز شواهد تقديرية. إنه صوت صارخ متوترٌ متاوتر لتاريخ متعدّد وحكايات طويلة لرجال طواهم النسيان، صانعا من الحلم سجلاً ونبوءة صعبة التصديق..
إنه شعلةُ ضوء مُشعٍ لم يكن أبدا خافتاً أو منطويا على نفسه. يقول بلسان عبد الرحمان المجدوب :
شفوني في ثوبي مغلف/ حسبوني ما في ذخيره/ وأنا كيف الكتاب مؤلف فيا منافع كثيره /..
السي امبارك، مواطن طيبٌ، شريف، غارقٌ حتى الأذنين كما يعلق رفيقه، رفع قيمة موظف الجماعة القروية ومنحهُ القيمة والمكانة الاجتماعية والإنسانية اللّائقة التي يستحقها أمام من لا يَسْوَى قيراطا أو من لا يُساوى شيئا، هكذا بلغةِ دكالة وبلكنة بدوية من القاع يقول لك إنه انتزع حقه منْ ضرْس التمساح الذي يلتهمُ بعنف حقوق الضعفاء وأنّ آلافا مؤلفة قلوبهم على الهرولة والانبطاح لا مكانة لهم في سُلم الهرم، يُسحقون يوميا بالاضطهاد والظلم والركل والشتم وآليات العنف بأشكاله..
رجلٌ يعيش في شاحنةٍ بثقوب يرفع يديه إلى السماء أجمل الكلمات هي التي تربك. يرفض أنْ يذعنَ للأوامر التي تأتي من الفوق، مشاكسٌ، ومحاور قويٌّ في الدفاع عن الحقوق؛ لا ينتمي لأي جمعية ولا لأي حزب، الغباء والجهل ورقتان رائحتهما تزكم الانوف في القرية، ليتأكد من اختلافه يقهر نفسه ويعمل بجدّ ونشاط من أجل الصالح العام.
إنه نقطة ضوء ترفض أن تعود إلى السطر، تأبى أن تكون فقط ذكرى للعابرين والمقهورين. لم يعد أحد يومن بالآخر يقول إنّ كلّ واحدٍ تحركه مصالحه الشخصية والعصبية القبلية. إنه رجل استثناء بفلسفةٍ تثيرُ الانتباه لا يشبه إلا زاوية القرية التي تسكنه حتى النخاع ويدعها سلماً لصعود بعضِ الانتهازين والسفلة ومُنعدمي الضمير ويبقى هو وحيدا كالذي تنكرت له القبيلة وعاتبتْ أسماؤها سيرته في كتابٍ مؤجل لا يعلمه إلا ذوي الاختصاص.
2
جميع مشاريع سي امبارك مبنيةٌ على الأحلام؛ إلى ذلك فهو يبنيها ويُستّفها تسْتيفاً مزركشا وواقعيا وإن جاءتْ متراكمة فهي تفي بالغرض، ينتقي منها ما هو صالح لحياة الفلاحة وللسماد تماما كما يفعل مع الزراعة في الأرض التي يوليها اهتماما خاصا. يزرع الشعير والقمح، والفولُ يُهندسه بيديه رغم ارشادات مكتب الاستثمار الفلاحي فهو لا يتّبعها يقول : إنها صالحة للمبتدئين ولا يمكن أن تفلحَ مع أمثالي.. يزهر كفُولة أينعت في أرضِ ” المرس” وساقية دوار البحابحة وبعفوية ينشرُ البسمة على محيا أولادْ لكَارْ.
تحت نخلة أبيه التي زرعها، توسّدها وبكى، استخار ربّه أن يحققَ حُلمه، فظهرت له رُؤيا بشيرة خير؛ ينبوعُ ماء زلالٍ ينبثق من أرضه ويفور… آمن به وقرر من الصباح التفكير في حفر بئر. ليتحقق حلمه ويسهل الله عليه مستعجلاً جمع الأوراق وأشكال القرض والسلف من بنك الفلاحين لنشر الخضرة والخير في أرض أكلها الخراب وجفّ ضرعها بالجفاف..
أمثال سي امبارك قلّةٌ؛ فهو مبارك في الأرض والسماء. تقول له الساكنة : بولحية أو سي الحاج رغم أنه ليس حاجاً ويرفض أن يكون كذلك. إنهم يتبدلون بعد عودتهم من الحج، يصبحون قُساة وغلاظ وأشد كفرا يقول ساخرا مخاطبا صديقه القنزير عبد الرحيم : إيوا سيرْ حجْ ليهم..؟!
ثم يعطيك نماذج بشرية تغيّرَ بريقُ لونها وصفاتها كما يتغيّر وجه المنتخبين بعد نهاية الحملة الانتخابية..
يرفض الفلوس والدنيا وما فيها، يحبّ أن يعيش لحظته فقط. يومه بين يديه وكفْنُه على كتفيه ويمشي ممشوق القامة. أقول له : را العيشْ فيه وفيه، ستصبح حاجاً ولو في الكرموسْ !؟
يبتسم ويفتل شاربه ويمسّد لحيتَه التي خالطها البياضُ وامتزجت بحبّات الثلج مُترنّماً بيت المتنبي: ملآى السنابل تنحني تواضعاّ
والفارغاتُ رؤوسهن شوامخُ.
3
يتحدث عن الأدب والفنّ بطريقة المتذوّقِ، يقول : لا غناء بعد ناس الغيوان؛ إنهم امتداد الماضي في الحاضر، صورة لن تتكرر إلا في الذاكرة:
مهمومه وخيي مهمومه هذ الدنيا ولّى بنادم عباد اللومه..
من سيقول مثل هذا الكلام، من يجرؤْ على قول:
لا حُرمة بقاتْ لا دين لا عبادة؟
ينظر حواليه بعين النمر المتربص وهو يقول : أغانيهم لا تموت، تدلفُ الذاكرة وتخلد فيها. إنها مثل طاحونة القمح تنفعُ وقت الشدة، تثير شهية القارئ، المتلقي..
في قصيدة “شامة” لناس الغيوان المعنى ولك التأويل: …
قَالَتْ مَاعَنْدِ اوْزِيرْ طَمَّاعْ ايْدَارِ هَلْ الْمَالْ اَلَوْ كَانُ فَجَّارْ
وَلِّي هُوْ مَوْسُومْ بَالْفْقَرْ = لَوْ كَانْ اَبَّاهْ ايْرَتْمِيهْ اَلْقْفَارَا
وَالسَّلْطَانْ اطْبِيبْ وَالرّْْعِيَّا مَضْرُورَا لا َوْزِيرْ لِيهْ ايْبَلَّغْ لَخْبَارْ
وِيجِيبْ الشّْرْبَا لْمَنْ اتْضَرّْ = وِيلَى خَانْ لُوزِيرْ بَعْدَتْ.. لَمْزَارَا…
(من قصيدة النحلة شامة، نظْم التهامي المدغري، غناء ناس الغيوان).
لا أحد يبلغ الاخبار، ولا خير فيمن استوْثقناهم.. ابقَ هنا ولا تبطء سيان أن تكونَ أو لا تكون.
كنت أسرحُ بأفكاري في كلماته وهي تأتي عفوية تنطق عن الهوى وعن حكمة طاوية في زحام لا يهدأ. أبدو منشغلا بضوء حكاياه، بصُوره بتشْبيهاته.
هل تخلّصَ السي امبارك من ثِقل آلامه وفظاعة همّه إلى بلاغة المعنى والدلالة التي تحْتفي بالبساطة والتفاصيل القريبة من البُعد الإنساني؟
4
حين أقول إن السياسة فنّ اتقان الكذب والرياء، يبتسم ويقول بلكْنة “اللوكس” الذي لم يجدْ أحداً “يخاطبه”، ضاحكا شامتاً : اللَّا…
سي امبارك يتكلم في السياسة ويتفنّنُ فيها يقول : إن السياسة نومٌ عميق لعن الله من أيقظه.
لم يصوّت لأي شخص ولم يكن يوماً جهة اليمين أو اليسار. يقول إن الاحزاب دكاكين متشابهة ورائحتها تزكم الأنوف، وتظهر نتائج سياستها الارتجالية بسرعة.. ويعطيك نماذج لسُوء تسْيير وتدبير الشأن المحلي ومناوشة المجلس له وصراعه من أجل كسب حقّه الذي يضمنه له دستور البلاد الجديد وضامن حمايتها من الفساد والحكرة والظلم الذي يمشي في دكّالة على رجليه دون رقيب وحسيب..
إنه يطالب بالنزاهة والحكامة واحترامِ الرأي المخالف والابتعاد عن الوصولية والتواكلية والرشوة وأن جُهد العمل المبذول هو الأجدى والأبقى ولا سبيل لتحقيقه في أرض ينهبُها القلةُ ويدعون الاستقامة والقناعة والحرص على حسن التعامل، الله يهديهم وصافي.. إذا ظهر المعنى لا فائدة من التكرار. والسرْج المذهّب لا يليقُ بالحمير.
5
يركضُ سي امبارك البحبوحي في سبيل اللحاق بالركْب الذي فاته ويطلق ساقيه بِنعال الريح كقطار التنمية الذي يغرقُ في الأوحال.
إنّ أيّ رجلٍ مثله يُمنعُ من التحليق، من الامتداد حين يرى التّحديقَ مثلا في القمر والنظر بعين (التقويسة) للشمس بمثابة السفر لفتح كوّة الهروب بحثاً عن المستقبل الآخر، يحاصره الأمل والحلم والمغامرة.
بُغية تحقيق أمنية : أن يكون مُصلحا. لا يستطيع اصلاح شعبٍ أو فكل ما يستطيع هو أن يقول إنها في طريق الانقراض والانهيار. لذلك لا يكفّ عن الصراخ ولا تكفيه اللعناتُ ولا مكابدة الهموم ومصارعة الأمواج ليُبدّد تلك الانعراجات التي تتكرر في طريقه، لن يحتاج بعدها إلا أن يضع طعْما خفيفا للحكمة التي تتمددُ وتفتح فمها..
ليس صعْبا أن يتحوّل البحر أداة للصيد أو تركه بدون مزاج الأمواج المفيدة فكل شيء يحتاج إلى ترويض الأفق وكأن الصراع هو صراع رواية “همنجواي “العجوز مع البحر؛ صراعٌ ضدّ الأخطاء التي تحدث في شبكة المعنى ويتطلب تخطّيها ممارسةُ مسألة ترويض للجسد.
هل عليْنا أن نتداوى بالتفكير كما يقول صديقك العزيز وهو لا يطيق أن تكون موضع الشّبهات.
إنّ نضاله ومقاومته تُحرره من المسكوت عنه لينصهرَ كل ذلك في بوتقة الذات وصياغة التفكير وتحريره من إشكالية القهر والعبودية.. هي اللحظة التي يبحث عنها سي امبارك، اللحظة الشعرية التي تمرّ بالقرب منه لكنه يتناساها أو يهملها.. فهل تحررُه منها هو نوعٌ من النّدم؟
لذلك أعدتُ مرات سؤاله عن معنى الانسان والفرح والكذب والحرية والمحبة بحثاً عن جواب شافٍ يصلني بالكاد تعليقه عبر مكالمة هاتفية في ليلة باردة قائلا:
– القنطرة تُعاني… هل يمكن التداوي ب.. الأعشاب أو بالأحلام؟
هل يمكن ترويضُ اليدِ لكي تتصالح مع العيش؟
هل يمكن أن تظلّ… في دوامة السكوت تندبٌ حظك وتراجع بُرجك. الأولى بك أن تحلمَ أو تكتفي بأن تبقى حيّا وحياً.
ليس هناك شك إلا وكان محملا بالفكر والدلالة وامتياز الوجود.. فهل الوجود وجود أم انطلاق سهم في أفق البحث وطرح السؤال..
إنه ضربٌ من لِجاجِ المُماحكة، رغبة قوية في التخيّل والبحث عن مرصد الإمكان والإبداع والتمرد والكشف والبقاء..