عيد المرأة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات البطريركية
د. جمال القرى
يحلّ اليوم العالمي للمرأة في ظل معاناة المرأة على مستوى كل العالم من انتهاكات تتناقض مع جميع اتفاقيات حقوق الإنسان. ولا زلن حتى اليوم، لا تتمتعن بالحماية الاجتماعية والقانونية، وتتعرّضن لمختلف انواع الانتهاكات الجسدية والنفسية في المنازل وفي العمل، ولحرمانهن من التعبير بحرية ومن أسْرهن وتعذيبهن في السجون، خصوصاً في بلداننا، حيث تتنامى ظاهرة العنف الجسدي والجنسي والاغتصاب والتزويج القصري في عمر صغير، والتمييز بينهن وبين الرجل سواء في ميدان العمل وأمام المحاكم والقضاء وفي منابر العدالة، ومجال التعليم، وفي جميع مجالات الحياة المختلفة ما يجعل المطالب الاساسية اليوم هي تطبيق الاتفاقيات الدولية لاعتبار ما يحدث بحق النساء، هي جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي.
تشكّل حقوق المرأة خصوصاً في مجتمعاتنا البطريركية – الذكورية تحديّاً لثنائية مفهوم “الذكر والأنثى”، التي تضفيها العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية على العلاقة بين الجنسين.
صحيح أن التحاق النساء بسوق العمل يُعتبر تقدّماً وشرطاً مسبقاً لتحررهن، ولكن يبقى أن الظروف التي عانين منها، أبقت على عدم المساواة بينهن وبين باقي العمال وعرضتهن ولا زالت إلى الاستغلال والاضطهاد. إن المجتمع الذكوري يعمل على إبقاء النساء بعيدات عن السياسة وعن اتخاذ القرارات، في الوقت الذي تمتلك فيه النساء طاقات إيجابية ربما أكبر من تلك لدى الرجال.
لقد كانت النساء من وجهة نظر التقليد، مجرد تابعات لأزواجهن، عليهن الطاعة لرأس العائلة وتربية الأطفال ومحرّم عليهن التعلّم. وعليه، يمكن الحكم على طبيعة النظام الاجتماعي من خلال وضع المرأة فيه. صحيح أن المجتمعات المتطورة قد شهدت تقدّماً في الاوضاع السياسية والاجتماعية والقانونية، لكنها لم تنسحب على بلداننا في العالم الثالث حيث لا تزال العلاقات التقليدية والبطريركية هي النافذة قانوناً واجتماعاً وسياسة على الرغم من دخول المرأة في بعض تلك الدول معترك العمل لعدم انحراطهن في النقابات المختصة بعملهن من ناحية، ولوضع العراقيل أمام مشاركتهن فيها من جهة أخرى.
فحمل لواء الدفاع عن حقوق المرأة يتوجب رفع عدم المساوة عنهن وجميع مظاهر القهر والتمييز والاستغلال والظلم انطلاقاً من وجهة نظر طبقية. أي، رفع الغبن عنهن بداية من وجهة نظر اقتصادية، إلا أن وجهة النظر هذه، ليست على رغم ضرورتها، كافية لإحقاق حقّ النساء في مجتمعاتهن. إذ ينبغي أن تترافق مع التعامل معهن ككائنات كاملة الأهلية على قدم المساواة مع الرجال من الناحية الاجتماعية والقانونية، بمعنى تحريرهن. إن محاولات زجّ النساء وتقسيمهن تحت راية تحرّر النساء أو النسوية أو توظيفهن أو انتخابهن تبعاً لنظام الكوتا وعزلهن عن نقاباتهن، إنما تصبّ في غير مصلحتهن، بل وتحولهن أحياناً إلى سلعة تخدم الأشكال السياسية والاجتماعية البطريركية القائمة، ويسهّل البيروقراطية والوصولية التي تنهش أي إمكانية للإصلاح الجدّي.
معاناة النساء
إن مشكلة النساء لا تتوقف فقط عند مسألة التمييز في أماكن العمل، ومعدلات الأجور المنخفضة وانعدام الحقوق، بل تتعداها إلى المنزل والعائلة والحمل والأمومة، والحق في الطلاق والإجهاض وبالمراقبة الصحية وتوفير دور حضانة مجانية لأطفالهن، وحمايتهن من العنف المنزلي ومنحهن الحق بنقل جنسياتهن إلى أولادهن وحمايتهن من خلال نظام جديد للأحوال الشخصية… ففي لبنان حيث الواجهة هي حضارية، ولكنها تخفي وراءها تخلّفاً اجتماعياً تغذّية ثقافة البطريركية الطائفية، والذكورية المتفشية في غالبية الأوساط والليبيرالية الفردانية التي تنادي بها بعض الحركات النسوية والمنظمات غير الحكومية.
إن الردّ على قضيةٍ عامةٍ معينةٍ من باب النسوية مثلاً في ظل الهيمنة التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم وخصوصاً النساء منها، المتراوحة ما بين الهيمنة الذكورية والدينية وصولاً إلى التسليع وصولاً الذي يضفي على النساء هويّة الأنوثة كشرط لإبراز تفوّقٍهن في نظر المجتمع الذكوري، لا يمكن اعتباره تغييراً إيجابياً مجتمعياً. فهذا التفاوت بالأصل، هو تفاوت إجتماعي طبقي. أما مقاربته بسطحية، إنما يعبّر عن تمييزعنصري بين النساء، وهذا الاسلوب هو أسلوب اختزالي وقمعي، إذ يختزل الغالبية إلى فئة نمطية واحدة.
إن رسم نمطٍ أنثوي للمرأة متعارض “تفضيلياً” مع بقية النساء بما يتطلّبه السوق، يُضفي عليها ما يمكن تسميته بالحاجة الذكورية المجتمعية للشكل الذي يريده لها، والذي ترتضيه هي لنفسها باعتباره نموذجاً متفرّداً. فليس بمقدور كل النساء، ولا تسمح الظروف لغالبيتهن بأن يكنّ على هذه الصورة التفردّية، النموذج المرغوب، بما يضعهّن في موقعٍ أدنى غير متساوٍ..بينما في الحقيقة، هذا النموذج المتفرّد ليس متحرّراً كما يعتقد، بل هو انعكاسية إخضاعية في أحد وجوهها. وهذا بحدّ ذاته لا يصبّ في الفكرة التحرريّة المجتمعية، وليس صورة عن التكافل الاجتماعي، بل تشجيع على الارتقاء الفردي ليصبح جزءًا من المنظومة المتحكّمة وشكلاً من أشكال الاستغلال واللامساواة بين النساء. بينما المطلوب إرساء القواعد العامة من أجل التحرر الاجتماعي للنساء كافةً. إذ أن وضع المرأة الاجتماعي، بشكله النموذجي التفرّدي أو العبودي، إنما يشكّل تعبيراً واضحاً عن طبيعة النظام الاجتماعي، ما يجعل النظر إلى هؤلاء النساء التعيسات نظرة فوقية، من دون الإضاءة على الظروف التي تخلق الشروخ التي تعشنها. فإذا كان المقصد هو المدافعة عن قضية النساء والعمل على تقليص اللامساواة تجاههنّ كما التمييز والظلم، ففي قسمة النساء بين نموذج حضاريٍ ونمطي، إنماهي محاولة تزيد من تخلّف المجتمع.
هل هناك من علاقة تربط بين عيدي المرأة والأم، أو هل هما نقيضان؟
في مجتمعاتنا، لا يتساوى الاحتفال في هاتين المناسبتين. فالاحتفال بعيد الأم يتفوّق بما لا يُقاس على عيد المرأة الذي يبقى الاحتفال به نخبوياً. فالأول يُستخدم للمحافظة على طبيعة العلاقات البطريركية – الأبوية – العائلية، بحيث تصبح فيه المرأة – الأم، العنصر – الأساسي الضروري لتثبيته وإستمراريته -، إما ملاكاً، نبعاً للحنان والعطاء والتفاني والضعف حين تمتّص التناقضات على حساب كيانها كإنسان، وإما ناشذاً يتوجّب محاسبتها وحرمانها من أولادها (العنصر الأساسي في حياتها كإمرأة) أو ضربها أو قتلها أو تأليمها حالما تحاول كسر النمط المفروض بحكم التقاليد والعادات وطبيعة المجتمع وبنيته، وإلا كيف يمكن تفسير معاناة الإناث أكثر من الذكور في مجتمعاتنا، أو تفسير مسؤولية الأم والمرأة ذاتها عن تثبيت هذا الإطار في طريقة تعاطيها وتربيتها لأولادها الإناث والذكور مع غلبةٍ لصالح الأخيرين بطبيعة الحال، أليس هذا دفاعاً عن الوجود لتعذّر المواجهة في ظلّ قوانين أحوال شخصيّة تكرّس دونيّتها وتضعها دوماً في خانة الملحق الناقص الأهلية؟
إن عيد المرأة وعيد الأم لا ينبغي أن ينفصلان، بل هما يتكاملان في إطار الإعتراف بخاصيّة المرأة الممنوحة لها غريزياً وبيولوجياً دون غيرها، والإعتراف بحقّها القانوني كإنسانٍ كاملٍ مكتمل. أما الفصل بينهما، وطغيان الإحتفال بالمرأة كأمٍّ فقط، إنما يدلّ على بنية إجتماعية متهافتة هادفةٍ إلى البقاء في غياهب التاريخ. وكل هذه الإحتفالات هي تعبير عن مدى نضوج المجتمعات. فليُدمج العيدان معاً للإحتفال بالمرأة كأمٍّ وكعنصر مساوٍ في تحرير المجتمعات ولتُفكّك هذه البنية التي هي من صنع البشر.
مناسبة تاريخ العيد
لقد بدأت قضية المرأة تبرز كقضية اجتماعية وسياسية وحقوقية منذ أواخر القرن التاسع عشر في ظل استغلال عمل النساء والأطفال للعمل في المصانع لقاء أجور تقل عن أجور الرجال وتحقيق أرباح كبيرة للرأسمال. ففي العام 1888، قامت النساء العاملات في المصانع وجلّهن من الأحياء الفقيرة بثورة في لندن احتجاجاً على ظروف العمل الصعبة والمجحفة، واستطعن تحصيل بعض الحقوق نتيجة انضمامهن إلى النقابات العمالية. وبين العامين 1912 و1914، نظم البلاشفة أول اجتماع لتخليد اليوم الأممي للمرأة وأصدروا جريدة نسائية، رابوتنيتسا (المرأة العاملة)، سنة 1914. وكانت تشجع النساء على الالتحاق بنضال العمال الذكور، وحثتهن على نبذ الحركة النسوية التي شكلتها النساء البورجوازيات في أعقاب ثورة 1905.
وفي العام 1910،عُقد في مدينة كوبنهاغن، أول مؤتمر دولي للمؤسسات الأشتراكية بحضور أكثر من 100 سيدة بينهن ثلاث سيدات كن قد أنتخبن كعضوات بالبرلمان الفنلندي. وقد اقترحت المناضلة السياسية الألمانية والمدافعة عن حقوق المرأة، والناشطة في الحزب الديموقراطي الاشتراكي الألماني حتى عام 1917، والمؤسّسة إلى جانب كارل ليبكنخت وروزا ليكسمبورغ الرابطة السبارتاكوسية والمنضمّة إلى الرايخستاغ في عصر جمهورية فايمار من 1920 الى 1933، “كلارا زيتكن” اقترحت خلال المؤتمر بأن يكون هناك يوماً عالمياً للمرأة، تخليداً لذكرى انتفاضة عاملات النسيج في أميركا في 8 أذار 1875 حيث نزلت عاملات النسيج والحياكة إلى شوارع لورير ايسب مايد في مدينة نيويورك في تظاهرة احتجاج على تدني أجورهن وطول ساعات العمل وتردي ظروفه. وتوصلت المؤتمرات الى المطالبة بـ:
- حق التصويت.
- حق التعيين في المناصب العامة.
- حق العمل.
- وقف التمييز بين الرجال والنساء.
وبعد أقل من أسبوع، قُتلت أكثر من 140 سيدة وطفلة حرقاً بأحد مصانع نيويورك نتيجة عدم توفر نظم الأمن والسلامة بمكان العمل، وتوالت الأحداث… وفي العام 1913، عند مطالبة النساء الروسيات بكامل حقوقهن بالعمل بما يساعد على إعالة أسرهن في ظل غياب الأزواج الذين غيبهم الموت في الحروب، ووسط بحر من الأحتجاجات وافق قيصر روسيا وسمح للنساء بالعمل والتصويت، وقد صادف ذلك الثامن من آذار. أحتفلت النساء بالقرار واعتبرن ذلك اليوم يوم عيدهن الذي يرمز إلى نضال المرأة من أجل وضع حد للأنتهاكات المستمرة لحقوقها في التعبير ووضعها في مكانها اللائق في المجتمع الإنساني على النطاق العالمي.
تحية للمرأة العاملة، لسيدة المنزل، للمطالِبة بحقوقها المدنية والانسانية، للمساهِمة في تحرير مجتمعها، للمناضلة في الشوارع ضد سلطات الحكم البائسة، للأسيرة في كل السجون، للمدافعة عن الحقوق، للمواجِهة لجعلها سلعة للبيع والاستغلال، للرافضة لشتى أنواع الظلم والابتزاز..وتحية للمرأة التي تسعى لتحقيق الإنسانية في مجتمعات تغوّلت وانهارت في ظل أنظمة الاستبداد والاستغلال.