“ندوب” باب المندب.. الجغرافية التي تصنع التاريخ
جورج الراسي
كم تصدق هذه المقولة على “باب المندب”... ثم من أعطاه هذا الاسم المشؤوم…؟ كمن يرزق بطفلة فيسميها “مصيبة” أو “جائحة”…
تقول الرواية إنه اسم موغل في أعماق التاريخ. يعود إلى ملايين السنين، حين تحركت صفائح الأرض ففصلت آسيا عن إفريقيا، مما تسبب في غرق مئات البشر، وتصدعات في التربة لم يسبق لها مثيل...
خلق هذا المضيق إذن في مخاض عسير التصق باسمه، ومن العجيب أن نصف مضائق العالم المهمة “عربية”، “باب المندب” طبعا، ولكن هناك أيضا مضيق هرمز، ومضيق جبل طارق. أما إذا أضفنا إليها مضيق “البوسفور” في تركيا، يكون العرب والمسلمون سادة أربعة من أهم ستة مضائق عالمية.. المضيقان الباقيان هما: مضيق Bering في أقصى الشمال المتجمد، ومضيق Taïwan في بحر الصين.
مرتع القراصنة
كل البحارة الذين يعبرون ذلك المضيق يقولون كم هو موحش. رياح باردة لا تهدأ، وصمت مطبق لا يقطعه صوت نورس، وخلو من أية حركة تشي بالحياة، ما عدا بضعة أضواء ترسلها مجموعة جزر صغيرة تسمى جزر “عنيش” Anish لا يسكنها إلا الهارب من زوجته… سواد دامس يخيم على ذلك الممر الذي لا يتجاوز عرضه 30 كيلومترا محصورة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويكفي أن تنظر إلى الخارطة حتى ترى كيف كان الالتحام بين قارتي آسيا وإفريقيا.. لا أدري من استفاد أكثر من انفصام عرى تلك الوحدة. قطعا هي قناة السويس التي تصل المتوسط بالبحر الأحمر، والتي تحولت إلى أهم شريان عالمي لتزويد الدول الغربية بالنفط، إذ كان يعبرها نحو أربعة مليارات برميل نفط في اليوم..! وأصبحت رابع نقطة مرور بحري في العالم بالنسبة لشحن النفط.
هل هناك ديكور أفضل لممارسة القرصنة؟
حتى هذه الأعوام الأخيرة كانت الصومال هي قاعدة القرصنة في تلك البحار، بعد الخراب الذي حل في البلاد. كان حلم كل فتاة صومالية أن تتزوج من قرصان، إذ كانت تكفيه “خرجة” أو “خرجتين” لاختطاف باخرة أو باخرتين، حتى يقيم لها أفخم الأعراس، (أين منها أعراس أولاد المسؤولين عندنا؟)، ويفتح لها أجمل دار، ويعيش معها أجمل الأيام. البحر أمامه والصحراء خلفه وحوله.. فمن يطاله؟
تطورت الأمور فيما بعد قبل أن تصل إلى ما نحن عليه اليوم. فاِزدهر التهريب بكل أنواعه وأشكاله، وانتشر السلاح بكثافة، ووجد “الإرهاب” مجالا واسعا لممارسة هواياته المفضلة، فضرب المدمرة الأميركية قاذفة الصواريخ USS Cole وهي تقوم بالتمون في ميناء عدن عام 2000، وبعد عامين جاء دور شاحنة النفط الفرنسية Limburg.
تاريخ استعماري.. الانكليز أولا..
كان من الطبيعي أن يسعى الجميع للظفر بموطئ قدم في هذه البقعة الضائعة من بحار العالم، انطلاقا من جزيرة صغيرة مكونة من صخور بركانية تدعى Perim بالفرنجي و Mayyun بالعربي. وكان أخ غير شقيق لأسامة بن لادن يريد بناء جسر يصلها بجيبوتي عام 2008.. ولكن حلمه لم يتحقق فيما كانت أحلام أخيه غير الشقيق في مكان آخر…
لتلك الجزيرة تاريخ حافل. ففي عام 1513 فكر الأميرال البرتغالي Afonso de Albuquerque ببناء قاعدة محصنة فيها لكن وحشة المكان أقنعته بالتراجع. وفي عام 1799، سعت لتحقيق الهدف ذاته بعثة بريطانية يقودها James Murray لحساب شركة الهند الشرقية، لكنه تخلى عن المشروع للأسباب ذاتها. وفي عام 1857 عاد الإنكليز بمعية الفرنسيين لفرض السيطرة عليها. وقد بقيت عدن مدينة بريطانية حتى عام 1964. حتى جاء عام 1967، فدخلنا على الخط، وكانت تلك سنة الهزيمة العربية الكبرى، كما كانت السنة التي ورثت فيها جمهورية “اليمن الديمقراطي” حينها، المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي السابق، (اليمن الجنوبي الذي استعاد اليوم حجمه السابق) تلك الجزيرة وجرت حينها أول محاولة للتمركز في جزيرة Perim من طرف “الجبهة الوطنية لتحرير اليمن” لمنع مرور السفن التي تحمل نفطا إلى إسرائيل، يعني“بروفه” أولية لما هو جار اليوم.
وخلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر1973، قدمت مصر الدعم اللازم لتحقيق نفس ذلك الهدف، أي منع وصول النفط إلى الدولة العبرية. ويجب انتظار العام 2015 وبدايات الحرب الأهلية في اليمن حتى تعود الجزيرة إلى قلب التجاذبات في المنطقة، وحتى يسيطر عليها الحوثيون، قبل أن يستعيدها مرة ثانية تحالف سعودي – إماراتي بدعم غربي.
كل ذلك لم يكن كافيا لوقف عمليات القرصنة “التجارية” و”السياسية”. يذكر البحارة الذين تآلفوا مع تلك الصخور، أنه في ثمانينيات القرن المنصرم أطلقت قذائف على باخرة فرنسية انطلاقا من جزر Anish.
في 2017، على مسافة قليلة باتجاه الشمال، مقابل مدينة “المخا” اليمنية، انقض قارب مسلح على البارجة السعودية “المدينة”، مما تسبب بمقتل سعوديين. كان من عادة الحوثيين منذ ذلك الوقت نشر الألغام البحرية، على غرار ما شهدته الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات، فقد كان في مقدورهم سد المضيق إذا لم يتمكنوا من السيطرة عليه. وقد شهدت تلك المنطقة حربا صامتة بين الغرب والسوفيات أيام الحرب الباردة، حيث كانت عيون الغربيين مبثوثة في كل مكان لمراقبة تحركات “محور الشر” القديم. وكانت عدن هي القاعدة الخلفية، لقد كانت المدينة خارجة لتوها من ثلاثة عقود من التواجد الإنكليزي. كانت” زهرة المدائن”، كما يصفها الذين عايشوها في تلك الحقبة، فقد كان حي “كريتر” يصل الليل بالنهار: مطاعم، وبارات، وكازينوهات، وحانات من كل شكل و لون. كل اللغات متداولة في الشوارع، كان هناك فرس ويهود ومسيحيون…
القهوة… و Rimbaud
ويتساءل المرء، ما الذي أغرى كل أولئك الكتاب والشعراء للمكوث فيها… والكتابة عنها، أمثال Arthur Rimbaud الذي عاش فيها عامين، وHenry de Monfreid و Albert Londres و Joseph Kersey، الذين كانوا شهودا لقوافل المهاجرين في الاتجاهين…
كان يكفي أن تصعد قليلا بمحاذاة خليج عدن حتى تقع قبالة مدينة المخا على بعد نحو مئة كيلومتر شمال باب المندب، المدينة صاحبة التاريخ العابق برائحة القهوة، أكبر موانئ تصدير القهوة الآتية من إثيوبيا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.
في عام 1708 نظمت الشركة الفرنسية للهند الشرقية أول رحلة لها إلى مخا، بقيادة مجموعة من القرصان البارزين، وقد دخلت تلك الرحلة في تراث البحارة، إلى درجة إطلاق اسم “شارع المخا” على أحد شوارع مدينة البحارة Saint Malo
عسكرة المضيق
اليوم عاد المضيق ساحة صراع على مستوى العالم، بفعل الأحداث التي تشهدها المنطقة، فقد نبتت القواعد العسكرية كالفطر، بخاصة على الضفة المقابلة في حيبوتي واثيوبيا والصومال (على الطريق). وآخر القادمين روسيا والصين وتركيا، وأصبح الحوثيون من اللاعبين الأساسيين في المنطقة، ودخلت على الخط استراتيجيات عربية طموحة، أبرزها خطط الإمارات العربية المتحدة، لفتح طريق لها إلى المحيط، في حال تعطل مضيق هرمز في يوم من الأيام، فثبتت حضورها في جزيرة “سوقطرة”، التي تعود في جذورها إلى أيام الخلق الأولى. وأصبح الجميع يراقب الجميع في هذه البحار الملتهبة…
فكيف لا يلقب بـ “باب المندب”…؟