في سيكولوجية الشر
حسن زهير
ما الذي يجعل شخصاً ما قادراً على فِعل الشر؟
إذا نظرنا إلى تصرفات الطفل، قبل وعيه بذاته، نجدها محايدة من الناحية الأخلاقية، إذ لا يكون قادراً على الإتيان بأفعال شريرة إلاّ بعد تشكل مفهوم الأنا لديه، ومع نمو الوعي بالذات ينتقل الشر من الإمكان إلى الفعل، ذلك أن الخير والشر مُجرّد إمكانيتين داخل الطبيعة الإنسانية، ولهذا فالاستعداد الفطري لفعل الشر أو الخير يرتبط، أساساً، بالطريقة التي تتمّ بها التنشئة الاجتماعية لدى الأفراد، فإذا نشأ طفل ما داخل بيئة اجتماعية معيّنة تُهيمن عليها ظواهر الحقد والجشع والأنانية والعنف. إلخ، فمن المُنتظر أن يبني نسَقه الذاتي وفقاً لهذه الصفات المُضرّة، ويَعمل، بالتالي، على نشرها وإعادة إنتاجها، فغياب التعاطف الوجداني داخل أسرة ما، مثلاً ، قد يُسبب صدمة قوية لدى الطفل تجعله يعمَل على تشكيل صورة مُزيّفة عن ذاته، ويُشيّد، بالتالي، ما يُسمى بـ “الأنا المُزيّفة”، أي تلك التي يقدمها الفرد عن نفسه للآخرين بهدف الحفاظ على سمعته أو لتحقيق أهداف معينة، ويمكن أن تكون تلك “الأنا” أيضاً نتيجة للضغوط الاجتماعية أو لعدم الثقة بالذات، الأمر الذي يدفع الفرد دفعاً إلى الاستعداد لمواجهة عالم يبدو له خطيراً ويُشكّل مَصدر تهديد، ولكي يتمكّن من ذلك يلجأ إلى استراتيجيات دفاعية لاشعورية من أجل بناء وعيه الذاتي المُزيّف حفاظاً على البقاء ودون معايير أخلاقية، الشيء الذي يجعله مؤهلاً لاكتساب بعض الصفات الشريرة المرتبطة بنظام الأنا المكتسب لديه.
هذا الأمر لا يُمكِن اعتباره كافياً لتفسير الفعل الشرّير عند الإنسان، وفي هذا الصدد يمكننا التوسع، قليلا، في هذه الفكرة بالانفتاح على اقتراح “كارل يونغ” حول مفهوم “الظل” باعتباره مصدراً أساسياً للشر، فماذا يقصد بذلك؟ يرى “يونغ” أنّ اللاشعور عند الأفراد ينطوي على عنصر يقف وراء مُعظم شُرورنا. هذا العنصر يسميه “الظل”، أي مجموع الصفات الشخصية المذمومة والمُحرجة التي يرفض الأنا قبولها، فهو يُمثّل الصفات التي لا يقبل الفرد حضورها على مستوى الشعور ويعمل جاهداً على كبتها في اللاشعور، فعندما يقمع شخص ما بعضاً من ميولاته ورغباته المذمومة، باعتبارها أسراراً مُخجلة ومُذلّة، فإنّ هذا الأمر يؤدّي إلى استهلاك كمّية هائلة من الطاقة النفسية، التي تُسبّب الإنهاك العاطفي-الوجداني المُؤدّي إلى كثير من المعاناة النفسية، وتزداد هذه الأخيرة قوةً وعنفاً إذا شَمل القمع الذاتي، المُشكّل لمنطقة الظل، بعضاً من الصفات الإيجابية.
وكُلّما عَجز الفرد عن التعامل مع هذه الأمور داخلياً، لجأ لاشعورياً إلى اتهام الآخرين وإلقاء اللوم عليهم، فعندما يعاني الشخص، مثلاً، من مشاعر الحسد والغيرة أو الكراهية والحقد، وينكر هذه المشاعر ولا يتعامل معها بشكل مباشر، يلجأ إلى إسقاطها على الغير، ولذلك اعتبر “كارل يونغ” أن أكثر أنواع الشر خطورة هي تلك التي تَحدُث عبر الإسقاط، كآلية نفسية دفاعية لاشعورية، إذ يَتمّ من خلال عملية الإسقاط هاته استبعاد الخصائص الشخصية المرفوضة و المُحرجة والمُدلّة والمذمومة. إلخ، والتي تُشكّل منطقة الظل، إلى خارج دائرة الأنا وإلحاقها، بطريقة لاشعورية، بشخصية الغير مما يؤدي في النهاية إلى استباحة كلّ شيء لديه، بشكل يبدو مقبولاً ومشروعاً أمام “الأنا”.
وهكذا يأخذ هذا الأمر شَکْل فِعل شرّير ومُبرّر، ف “الأنا” في هذه الحالة يُسقِط مشاعر الحقد والغيرة والأنانية على شخص ما ليجعل منه عدُوّه اللدود، وعبْر هذه العملية اللاشعورية الإسقاطية يَتمّ تدمير القيمة الأخلاقية للشخص المستهدف، باعتباره يستحق كلّ ما يتعرض له، وهكذا يَتمّ تبرير الشر بوعي تام أمام الذات، وذلك لكي تقنع نفسها، بطريقة ماكرة، أنّ الغير يستحق ما يتعرّض له من شرور، لأنه كُلّما نظَر صاحب النزعة الإسقاطية إلى نفسه على أنّه شخص جيّد اعتَبر الظل شرّيراً، وإذا تَمّ إسقاط الظل الشرّير على الآخرين اعْتُبروا أعداء يستحقون الأذى والعقاب، ولذلك فعندما يَتمّ تجاهل الظل وإنكاره يُمكِن أن يؤدي الأمر إلى تراكم الكراهية والحقد و الانتقام، وبالتالي فإذا لم يَتمّ التعامل مع هذا الظل بشكل صحيح وسليم، قد يتحول إلى ما يُعرف بـ “الظّل المُظلم”، وهو الجزء الأكثر عنفاً وعدوانية والمسؤول عن التصرفات العنيفة والمُدمِّرة، والتي تبدو مُبرّرة لدى أصحابها. وبهذه الطريقة يُؤوِّل الأنا الشر ضد الغير ليُصبح خيراً في نظر نفسه، أي عقاباً مستحقاً. هذا الأمر هو الذي يجعل من مفهوم الإسقاط مفهوماً منتجاً، باستمرار، لخطاب أخلاقي مزدوج.