“بنات الراندي”.. رواية المفارقات العجيبة
محمد عبد الإله المهمة
1- كاتبة “بنات الراندي”
يخص هذا العنوان مسودة نص روائي سينشر في مستقبل الأيام. وهو للكاتبة المغربية الفذة زوليخة موساوي الأخضري. مبدعة تشتغل متوارية في صمت، لكن بثبات. وفي محراب تأملاتها، تشمل زائرها من أصدق الأصدقاء برحابة روحها، وابتسامة وجهها الذي لا يبدي حيادا في وجه كل محاور شغوف بتبادل المعرفة والرأي. كلما عبرت إليها في مُقامها غير البعيد عن نهر سبو، أجدني إزاء كاتبة تستبطن حلول الزهاد وتعاليهم عن التفاصيل العابرة. تكتب بخيمياء، لا تلبث شخصيتها الشفيفة أن تكشف عما تسطره من ملامح في ما تصدره من خطاب. إلى اليوم، لا تني عن الغرف من مختلف منابع المنجز السردي الكوني، ولم تدخر نفسا في سبيل مكنة واثقة، تجلي ما تسعة خلفه من قيمة مضافة للرواية المغربية والعربية. إنها السيدة التي تكتب بأكثر من لغة، سواء بالرقن بالصفحة البلورية الافتراضية، أو تحبر بالقلم بياض الصفحة الصقيلة. كلما أشبعت نهمها الموسيقي عزفا على أوتار عودها دائم الحضور بغرفة المكتب، تمدد أناملها تم تضمها لبعضها، بنفس الحركة الترويضية، كأنها تذكر أبعد ما في روحها أن لياقة الأنامل، شرط العزف السليم. بنفس غرفة المكتب، رتبت في إحدى زواياه مرسما يليق بما تحضن به من أثار صباغية، من وحي رقص فرشات وألوان. تعرضها، تتأملها، بنظرات من أدهشه، شكل أفكاره على القماش. ذاك هو وسط متعددة، تتنفس شعرا رغم ما تخص به السرد من حساسية، جعلت من قراءة منجزاتها الأدبية وخزا لطيفا للروح.
2- ما قبل “بنات الراندي”
* خلال الموسم الثقافي لسنة 2006، أصدرت زوليخة موساوي رواية “الحب في زمن الشظايا”، باكورة مشروع أدبي كان لها ما بعدها. أستعيد الآن حماستها وهي تعرب لي بما يفيد أن هذه الرواية “ذاكرة جمعية لحقبة تاريخية معينة”، في بقعة معينة على هذا الكوكب. أستحضر مرجعية زمن كتابتها، الممتد من نهاية ستينيات إلى تسعينيات القرن العشرين، وقت انتهكت سنوات الجمر والرصاص، زرقة السماء الصافية، يحضرني سؤالها المؤرق وقتئذ: هل السجن مجرد فضاء محاط بالأسوار العالية والبوابات المتينة و حراس عيونهم لا تنام ، أم أن السجون متنوعة ومختلفة، وكل كائن بشري يحمل سجنه على ظهره مثلما يحمل سيزيف صخرته؟
بعد فترة خصت بها الشعر، أصدرت سنة 2008 ديوان “أبابيل الصمت”، لكنها في الآن نفسه لم تحد عن تأمل ومتابعة ما يصدر من منجز سردي مغربي وعربي. متابعة، واكبها نفس الانفتاح السابق على الرواية الأنجلو فونية ، أما الفرنسية فلم يظهر ما يدعو أستاذة الأدب الفرنسي إلى إدارة الظهر عنها. خمس سنوات من الغياب، استهلت حضورها للموسم الثقافي لسنة 2011 برواية “بين الضوء والسراب”. تجربة كتابية جديدة، اكتفت بإدراك أن الحروب القادمة لن تكون من أجل البترول أو الأورانيوم أو الذهب، أو حتى حرب من أجل بسط النفوذ، بل ستكون من أجل قطرة ماء. هكذا بوعي إيكولوجي استباقي، تنخرط الأديبة المغربية زوليخا موساوي الأخضري، في جبهة المنتصرين للحياة، المناضلين من أجل مستقبل الأرض. انخراط يعتبر بالنهاية احتجاجا ضد منظومة النظام الرأسمالي، بوصفه المسبب المباشر لكل ما يهدد وجه الحياة البشرية من كوارث. فقد تساءلت بما لا يدع لبسا في وضوح رؤيتها، لحظة تقديم هذه الرواية، بقولها: ماذا يفيد الحب في زمن السلم أكثر من وقت الحرب؟ وهل يمكن للحب أن ينقذ البشرية من قدر محتوم؟
* سنة 2012 تصدر رواية “في حدائق كافكا”. معتبرة أن الموت والجنون وجهان لعملة واحدة، وأن ما بين العقل والجنون مجرد خيط رفيع. ثم تتساءل، كما هي عادتها في كل محفل أدبي أو ثقافي: هل يدرك الروائيون والمبدعون ما الفرق بين الواقع والخيال؟
حين تتكاثف تشعبات متاهة الحياة، ويتيه العقل بين دهاليزها، وترزح الروح تحت وطئتها، يلجأ الإنسان إلى الهروب إلى أعماق دواخله لمحاولة إيجاد الذات الضائعة.
* كان موسم 2012 سنة خصب وفير، فقد أصدرت “الأخرس والحكاية”، رواية مرتكزها جملة أسئلة موضوعها الذات بالأساس. تساءلت عما هو الحب وما هو العطاء؟ كيف يمكن للعاشق أن يتحلل في المعشوق؟ وفي نفس الوقت يحافظ على ذاتيته وكيانه المستقل؟ متن روائي، متمحور حول ليلى، وليلى امرأة عاشقة، تحكي عشقها للحبيب وللحياة، غير أن المجتمع لا يملك آذانا صاغية، فتضيع الحكاية أمام مجتمع أخرس.
بعدها جاءت، وفي نفس الموسم، رواية “في حدائق كافكا ” حيث الموت والجنون وجهان لعملة واحدة، و ما بين العقل والجنون خيط رفيع، لكن هل يدرك الروائيون والمبدعون ما الفرق بين الواقع والخيال؟ للجواب على هذا السؤال، يتعين على القراءة المتأنية الإمساك بٍجوهر الفكرة، حين تتكاثف تشعبات متاهة الحياة، ويتيه العقل في دهاليزها، وترزح الروح تحث وطأتها يلجأ الإنسان إلى الهروب إلى أعماق دواخله لمحاولة إيجاد الذات الضائعة.
قد يكون من المستحسن الإشارة إلى أنه سبق للكاتبة أن أصدرت في وقت سابق ديوان أبابيل الصمت (2008)، وبعده في سنة (2011) أصدرت المجموعة القصصية “نشاز أخر للبياض”.
3- حبكة السرد في “بنات الراندي”
لكل أديب عوالمه الخاصة التي تميز كتابته عن غيره من الكتاب. فضلا عن ذلك، فميزة الروائية زوليخة موساوي الأخضري هي الاشتغال على قضايا إنسانية، وفق مقاربة تخلخل الساكن خلف التابوهات ، تتساءل بجرأة و وضوح الرؤية ، فلا مجال لديها للساومة على القيم الكونية، كامرأة حريصة على تثمين المساواة بين الجنسين. مواقف صارمة تعادل التزامها بالكتابة. لهذا فجميع رواياتها نتاج ما مرت به وعاشت تفاصيله من تجارب واقعية أو متخيلة. منها ماعاشته ومنها ما هو مرصود في مدونات وسجلات وصحائف الإنسان. تجارب حصلت تحث السماء الواسعة، وفوق الأرض التي تقوضت حدودها إلى أن بلغ العالم ما هو عليه اليوم من أقصى درجات التفكك والفردانية وتشييء الفكر و القيم.. جراء جغرافية سياسة قاعدتها السيطرة و قمتها الهيمنة.
تراكم روائي وأدبي يضع زوليخة موساوي الأخضري على مشارف الكتاب العاملين من أجل حمل قيمة مضافة لصاح الإبداع الأدبي عموما، و للرواية بشكل خاص.
“بنات الراندي”، كتابة رواية على ألسنة عينات شخوص من الفئات الدنيا للمجمع. مجبرون على تحمل ما ينتج ويعيد إنتاج التسلط والاستبداد من بنيات سوسيو- ثقافية، تحضر بقوة بالمجال القروي. بؤرة الحكاية ومبعثها، عائلة الراندي التي لا حق فيها لمخالفة قرارات الأب أو الوقوف ضد سلطته. حياية تجري وقائعها وتتفرع في تطور مطرد عبر عدد من الشخصيات وفق إيقاع تنائيات، الأب والأم، القرية والمدينة، الخصب والجفاف، التسلط والتمرد على ما هو مادي أو رمزي من سلط. تناص نصوص تستلهم السير والمحكيات الشعبية دعامة للتيمة المركزية.
4 – شخصية محورية في “بنات الراندي”
تنحث الكاتبة زوليخة مساوي الأخضري شخصياتها وفق منظور لا يجانب ما يفترضه رسم الشخصية الروائية من صدق فني يجنب السقوط في التماثل بين الشخص والشخصية. لهذا، فما نصادفه من تشابه بين شخوصها الروائية وبين أشخاص بعينهم في الواقع، ليس سوى من قبيل صدفة من وحي العمل الإبداعي.. لصالح الراندي – هو شخصية محورية – علاقته تبعية وانفعال بكل ما يجري من أحداث ووقائع . ليس من الضرورة في هذا المقام التفصيل في حقيقته كمثال حي، ينتمي لشريحة أو لطبقة اجتماعية في شرط ما يطبع المجتمع الزراعي من تسلط واستبداد متعدد الرؤوس والأصوات. من بين ما يعمق حدة التناقض بهذا المجتمع الارتهان للماء والكلآ لآجل العيش. شخصية سلبية إذن، لمنها روائيا نامية. يتحكم بمسارها ضمن إستراتيجية السرد، ما تعبره من عتبات متعاقبة في ما يشبه نوافذ تفتح من خلال شخوص لا اختلاف في ما بينها من حيث الانتماء الاجتماعي والتركيبة النفسية. أي شخصيات سلبية، مستسلمة، كأنها أرواح تتأرجح وهي معلقة بين فوق وتحت، بطبيعة بنيتها السردية، وبإيقاعها الداخلي، تجعل رواية بنات صالح الرندي القارئ أمام زخم من المفارقات. طبعت Théatre de Cruauté بشحنتها المدار الجماعي للأحداث، وأضفت في مرحلة معينة على عالم الرواية المسحة السريالية لمسرح القسوة. مفارقات بالإمكان إجمالها في ما يلي:
أولى: على صعيد العائلة، نجد (رأس الأسرة، والد صالح الراندي) شخصية متسلطة، غصب حق ابنه الوحيد في اختيار امرأة حياته، معتمدا على سلطة رمزية لم تعد مقبولة زمن أبنائه، حيث (..) أنه قد أعطى كلمته لشيخ القبيلة منذ سنوات (..) دون علم ابنه بذلك. على الطرف النقيض منه كانت (والدة صالح الراندي)، سيدة مستسلمة، خاضعة لسلطة الزوج، توافقه الرأي دون أن يخصها ولو بمشورة صورية. هذه السيدة، بقدر ما كانت نموذجا لمكب الأسرة، ورتاج باب بيتها، كانت أيضا مستودع ما يمثل الطاعة العمياء من قيم. إذ بمجرد ما صارحها ابنهما برغبته في (..) الزواج من كلثوم (..) حتى عرت عن درجة استلابها أمام سلطة زوجها (..) لا أظن أن أباك سيوافق على الأمر (..) موقف رجح كفة قيم مصدرها ماض عتيق، على سعادة مشروطة بمستقبل منشود.
ثانية: كلثوم “ذات الضحكة الرقراقة التي يعشق” الراندي، مثال للشابة العاجزة. فرغم واقعيتها التي جعلتها ترى (..) بحدس الأنثى أنه فعلا يحبها (..) فإنها على العكس منه (..) لم تكن حكايات الأميرات والجنيات قد ملأت طفولتها، لذلك كانت تهز رأسها بعنف، يمينا وشمالا، دلالة على رفضها الشديد لجنونه (..) المتمثل في رغبته في الهروب معا للزواج بعيدا عن مكان لا وجود فيه لا للحب فأحرى لحق اختيار الحبيب. بهكذا، أثرت العجز عن التمسك بحبيبها. وبنفس درجة استسلامها وهروبها من واقع يستوجب المواجهة، يقر الراندي بأنه (..) لم يفكر يوما أنه يستطيع أن يتجوز امرأة أخرى غير كلثوم (..)
ثالثة: زواج صالح الراندي مع مغنية، الذي لم يكن لا بدافع رغبة ولا لأجل ملئ فراغ عاطفي سابق (خلفته كلثوم). سيما و أنه لم يفت الكاتبة الإقرار بأن التسلط يقتل الحب والمودة. فزواجه، لم تفرضه حاجة موضوعية قصد التغلب وتخطي انتكاسة قاسية مرت به أثناء هجرته إلى المدينة. فما لحقه من قهر هناك ، ألقى به في مساحيق الاضطراب وعدم الاستقرار.
رابعة: أمام تخلفهما كثيرا عن الإنجاب، قبلت مغنية و صالح الراندي تبني رضيعة مجهولة الأصل والنسب. قبول اضطراري سرب بعض الدفء، وأضاء عتمة حياة يتخللها البرود بين الزوجين.من بين الأسماء، اختارا لرضيعتهما القادمة من السماء اسم لغزال. قبل مرور ما يكفي من وقت يسمح باستواء لغزال على قدميها، ظهرت علامات الحمل على مغنية، فأنجبت فتاتين توأم. ياقوت والغالية. هكذا، تحول الرحم العاقر إلى خصب أنجب اثنتين على مسافة كبيرة من الاختلاف منذ نعومة أظافرهما.
خامسة: حب مقرون بالحنان والدفق العاطفي، خص به الراندي ومغنية لغزال وياقوت، وكره ما بعه كره حضيت به الغالية من جهة والدها. بعدما طفح به الكيل، جراء ما يصدر عنها من شقاوة تخطت كثير عمرها (..) هل أنا من أنجب هذا الشيطان يا ربي؟ (..) فهذه الياقوت، وبقدر ما تعودت على تحاشي النزوع العدواني المصحوب بالميل لسلوك الشراسة، كانت (..) تلتجئ إلى حنان ودفء لغزال كي تهرب من بطش توأمها الغالية (..)
سادسة: دون بقية من في البيت، فضلت الغالية الإقامة في الحظيرة، بين الدواب والحيوانات. معتمدة على نفسها في توفير متطلبات يومها من أكل وشرب. هناك (..) لأول مرة شعرت أنها سعيدة (..) اختيار ينأى بصاحبته عن كنف أهلها جعل الناس يلقبونها (..) بالمجنونة صاحبة الكلاب الضالة (..)
5 – من يكون صالح الراندي أولا ؟
رُزق الراندي في ما أوردته الحكاية، بثلاثة ببنات، هن: لغزال، رضيعة جاءت بها (..) الجارة حادة، ووضعتها بين ذراعي مغنية (..) التي (..) تساءلت وهي تقبل الرضيعة بحنان، كيف يمكن لما هو غريب عنا أن يكون سبب سعادتنا؟ (..) حينما لزم الأمر ذلك، صارح الراندي مغنية، بنفس ما هي عليه من شحنة حنانها، قائلا (..) لغزال أبنتي أيضا وأنا مجنون بحبها (..) بوح جعلها تطمأن لسكون زوجها إليها كما تسكن إليه، بعد ما عمر بينهما من برود وجفاء .فقد أضفت لغزال على وجودهما ما يجعل كفات ميزان الزيجة متساويان. في معرض حديث السارد عن ولادة التوأم، فأفاد بولادة عادية، سلسة ودون صعوبة على الأم في حالة ياقوت، في حين وصفت القابلة ولادة الغالية، بصرختها (..) التيلاد الثاني يرفض الخروج (..)
يسر في حالة ياقوت جعل مغنية تردد (..) قلت مع نفسي: إن كان الوضع بهذه السهولة، أريد أن أضع كل يوم صبيا (..) وعسر صعب خروج الغالية، وضاعف من معاناة الأم وهي تصف ما مر بها من آلام (..) كنت متأكدة من شئ واحد: تمنيت أن أموت لأنعم بالراحة (..) ولادة مفارقة، وسلوكات متزامنة مع نمو الوليدتين، شكلتا نموذجا مختلفا للتوأم سوف يكون لحاضره ما بعده داخل السياق الروائي.
يتضمن عنوان الرواية شحنة دلالية قوية تضع للقارئ أفقا للقراءة، و توجه تفكيره أول الأمر نحو الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط. بالتفكير في، أبو البقاء صالح بن يزيد الٌرندي الأندلسي، إلى أن ترفع القراءة ما يوحي به العنوان من لبس، ويضعه من غموض. فالمؤكد أن بين الشخص والشخصية الروائية مسافة تاريخية جد بعيدة. لا مكان أو زمان بوسعه الجمع بينهما فما ظهر بين الاسمين من تشابه، فليس أكثر من صدفة خدمت العمل الروائي ،حيث فتحت نافدة أما القارئ المستكشف.قد تسعفه على القيام ولو بإطلالة عابر على أندلس منتصف القرن السابع. مرحلة تاريخية شهدت سقوط عدد مهم من قواعدها على يد الأسبان، ناهيك عن استفحال القلاقل و الاضطرابات السياسية . لحظة زمنية قد تماثل بعض ما برت به الشخصية الروائية صالح الراندي، رغم أنها غير محصورة في مكان أو زمان معلوم بالتحديد. هو فقط زمن اندحار قيم، وبروز أخرى، وسقوط شخوص، وولادة أخرى.. وحصول تطورات عاصفة جعلت (..) المكان نفسه من دون حب يتحول إلى ذئب يعوي وبؤذي، له أنياب ومخالب (..) يصبح مكانا ممتلئا بالحقد، يكره كل من يمشي فوق ترابه (..) فها قد تحولت أرض القرية، من رطبة خصيبة إلى يباب يابس. قريبا من الوضوح، بعيدا عن الغموض، يقر السارد في رواية بنات الراندي، بأن الماء بالنسبة الأرض معادل موضوعي للحب بالنسبة للإنسان. لما تقوض عليه مساحة العيش فوقها، يهجر الأرض صاحبها. وتعد ندرة الماء، تكلس الأوحال في الآبار بعد نضوب، عجز خيط الماء المنسكب عن ري الطير الذي يموت عطشا على ضفتيه. يقول السارد (..) من يقول الحقيقة، هدفه الرحيل والهجرة إلى المجهول، وقد تكون نيته عدم العودة (..) وهذا ما حصل مع صالح الراندي بعدما أضفى على احتجاجه مسحة الاستسلام باللجوء إلى الهجرة إلى المدينة، هروبا من بطش أب متسلط، يرفض اختيار ابنه بدافع أقتصادي/ طبقي يجبره على القبول بقراره لأجل مصلحته السياسية فقط.
بون شاسع، يقاس بالفرق بين العلم والجهل. أو بين اللغوس والميتوس لو شئنا بالتعبير الأغريقي القديم، هو ما يفرق بين شخص الرندي، الفقيه اللغوي والقاضي الشاعر، الذي اكتسب لقبه من مدية رندة بالأندلس، وشخصية الراندي الذي ذاع صيته، بما ملأ به الآفاق من مهارات خاصة في لعبة الورق، يقول عنها السارد أن أبناء القرية كانوا (..) يتغامزون وينادونه الروندا، تم أصبحوا ينادونه الروندي وأخيرا أصبح الجميع يناديه الراندي، ثم لم يعد أحد في القرية يعرف اسمه الحقيقي (..)
عود على بدء:
شيدت الكاتبة متنها الروائي مستدعية الحكاية. وهذا يعني شأنها من شأن عدد من الكتاب الروائيين الراهنين، عادت زوليخة موساوي في رواية بنات الراندي إلى الحكاية. اختيار لا يخلو طريقه من مخاطر، فكرية وإبداعية حتى، سبق وأن قاربها الباحث الأكاديمي حسن المودن، ضمن اشتغاله على الرواية المغربية الآن، بتنبيهه أن العودة إلى الحكاية عملية مركبة وليست بسيطة فهي من جهة (..)عودة تستدعي العودة إلى الذات والمجتمع والتاريخ والذاكرة (..) ومن أخرى فإن العودة (..) تقتضي أن لا تبقى الكتابة منشغلة بذاتها فحسب، بل أن تعيد الاعتبار للمرجع (..) في ضوء هذا الافتراض تنهض وتتناسل أسئلة، من قبيل:
– كيف كانت عودة زوليخة مساوي الاخضري للحكاية؟
– هل هي عودة لقول الحكاية وفق منطق أسلوبي تقليدية قديم؟
– أم عودة وفق رؤية للعالم، مغايرة ومجددة؟
الواقع أن ما يطبع الأعمال الروائية للكاتبة هي التجديد في التقنيات، وفي استدراج ما يناسب من مهارات الكتابة الروائية. كاتبة ذكية، تبرع إبداعيا في التعمق في أعماق ونفسيات شخوص عالمها الروائي. مرشدها رؤية مطابقة، وعلاقة صادقة بالواقع الذي تمتح منه، الأمكنة، والأزمنة، وبناء الشخوص على إيقاع لغة مكثفة، تميل للإيجاز البليغ في الوصف، دون أن يحول ذلك دون دفق لغوي يجمع ما بين شاعرية الأسلوب، والمباشرة في تشخيص الخالات والوضعيات السردية.
رواية “بنات الراندي”، دفق لغوي يغري بمعاودة القراءة، من أجل استكشاف مضاعف لعوالم كاتبة ذات صوت غير منتهي الصدى، مونولوج، تقصد بع العالم على رحابته وسعة حدوده، فهي لما تكتب، تصور، بما يجعل سمة المشهدية ظلا لصوت السارد. فالقارئ يتصور ما يقرأ في صيغة ما يجعله فعليا وجها لوجه مع ما تمر به الشخوص وما تنتهي إليه من مصير.