استحضار المسرحي جـواد من زنبقـة الياسمين
نجيب طلال
رهانا ستبدو إطلالة اليوم العالمي للمسرح (عندنا) كالمعتاد ! إطلالة خجولة في مشهدنا! خجولة لأسباب قيلت وقيلت، ولا آذان فعالة، لتفعيل ما يجب تفعيله، لبناء ثقافة الجمال، وسحر الإبداع بين العباد. عباد أغلبهم (الآن) تشرنقوا في عنف الذات والحياة، بحيث أغلب الفنانين والمبدعين يعيشون (الآن) على إيقاع الآهات، المضمرة في أعماق أنفسهم، وبالتالي لنغير آهات هاته السنة المتزامنة مع شهر الصيام الفضيل. بآهات استحضار الإحراق والاحتراق، الذي وقع في اليوم العالمي للمسرح، بدون أنشطة مكثفة ، ومما يؤسف له! بدون ترحم عن الذي احترق؟ لأن إحراق جَـسد باسم المسرح علامة بارزة! تدفعنا في كل سنة: أن نتساءل أمام معبد ديونيزوس. لماذا أقدم الفنان قيد حياته [أحمد جواد] على إحراق جسده؟ بعيدا عن تلك التأويلات والموتيفات السخيفة التي غلفت أسباب الاحتراق! فلو كان هنالك إبداع متميز، وفن مائز، في سياقه تكافؤ الفرص؟ على الأقل سيقلص نسبيا عنف الحياة من دواخل الإنسان… لكن رغم انهيار المشهد ـ وتفكك شبكته الجامعة، لأشلاء ممارسي المسرح وفعاليته ومريديه وزبائنه، إن كان هنالك مريدين، كأهل الزوايا والطرقية؟ المنشرة بين القرى وأزقة المدن القديمة! أو زبائن: مثل زبائن الحلاق الذي هو في الأصل “مزين” لغويا، والمسرح مزين بدوره، فإن كان الأول يقص ويزين شعْـر الوجه والرأس ويعطره، فالمسرح حلاق/ مزين النفس: من الأحقاد والأدران والإقصاء والكولسة والدسائس. كشرط عيسَى بْن هشامٍ في مواصفات حجام المقامة الحلوانية (وحجَّاما نـستعْملهُ… وَليِكنْ الحَجامُ خـفِيفَ اليَدِ، حَـديدَ الموسَى، نَظيف الثيابِ، قَليلَ الفضولِ…)، أليس للحلاقين أمين ينظم الحرفة؛ ويفصل في الإشكاليات؟ ولهم ولي يتبركون باسمه سنويا؟ إنه سيدي علي بوغالب دفين “فاس” وليس ذاك دفين “القصر الكبير” فلماذا مسرحنا لا يمتلك على “أمين إبداع” ولا على “وليِّ “نتبرك به سنويا؟ فـ”الديونيسوس” ليس [وَلـِيّا ] بل إله طرقي؟ ولا نحتفل بعادة “ديونيسيا” كاحتفال ما كان في “أثينا” ولا زال الإغريقيون الجُـدد يحتفلون به.
ربما ممن سيقرأ هاته السطور، سيعلن سرا أو علانية ، بأن هذا المخلوق الذي هو [أنا] يهذي، وقريب من شعْـرة الجنون؟ هكذا قالوا عـن “أحمد جواد”؟ فحتى “حجام” (ابن هشَام) وجَـده ” يهذي” أي: ذاك (المزين) الذي لم يختره غلامه، بل اختاره شخص آخر، ولكن قال عيسى بن هشَام في حقه: فـبَقيْتُ مُتحـيِّراً مِنْ بـيَانِه، في هَـذيـانـهِ، وَخَـشـِيتُ أَنْ يَطول مَجْـلِسَه، فـقـلتُ: إِلى غـدٍ إِنْ شَاءَ اللهُ) إنها الأخلاقيات. أخلاقيات سامية جدا. فلو كانت أو بقيت هنالك قيم إنسانية، لما اتهم الذي حرق نفسه بالحمق والجنون؟ فلو كانت هنالك أخلاقيات، لما تركته الجموع يحترق، وبعضهم يلتقط بنشوة صورا لجسد يحترق… مهزلة… هكذا أصبحنا! ألم نـَرعبر “فيديوهات” مواطنين يغرقون في مياه جارفة، والبقية تلتقط صورا وفيديوهات، إما للتفكه أو للتجارة بها عبر تفاهة “تيكتوك ” وقباحة “وإنستغرام”؟ فكل شيء أمسى مستباحا، مستباحا! إلا استرجاع الذاكرة؟ الذاكرة الدينامية / الحية: لاستنطاق روح أحبتنا وأصدقائنا ورفاق درب الكفاح الفني! فما حسبنا يوما أننا سنرقص طربا على أرواح أحبتنا! رغم الاختلاف؟ والصراع؟ والجفاء في بعض الأحيان؟ ففي نهاية المطاف كلنا إخوة وأحبَّة في الله و في المشهد الإبداعي والفني.
فإذا كان المسرح فن زائل وعابر ووقتي، حسب تعبير “بيتر بروك” فكينونة الإنسان ليست عابرة ولا زائلة، وبالتالي فـ(أحمد جواد) كينونة، رغم رحيله الاضطراري، ستبقى روحه كينونة مطلة؛ ومشرئبة؛ ومنتشرة؛ على الفضاء الذي ولد فيه، ومارس المسرح فيه (الجديدة) فمن تربتها حمل زنبقة “الياسمين” لتفوح روائحها العبقة، هنا وهناك. أو في فضاء عمله (الرباط) التي غـرس فيها بذرة الياسمين، لتنمو حَـسب رؤيته. لأن زنبقـة الياسمين تساهم في تخفيف الكآبة. ويعتقد العطريون (أي) المعالجون بالزيوت: بأن الياسمين زهرة فعالة خصوصاً للناس الذين يعانون من الصداع وآلام المفاصل والاضطرابات النفسية… أليست زنبقة الياسمين تستغل في مستحضرات التجميل؟ لكن مهما حاولنا أن نجمل ذاكرتنا التي هي بمثابة ذاكرة “سمك” فمن الصعب ممارسة “المحو” لاسم كان اسمه” أحمد جواد” لأن الفعل الذي أقـدم عليه أمام البوابة التي كان يشتغل فيها “فمن الصعب محْـوه من الذاكرة، رغم أن العَـديد يحاولون ذلك، هاته هي الحقيقة، فلماذا دائما نخفي باللغة، المفارقات؟ لأن اللغة في تركيبتها وخطابها “زئبقية” وَلساننا حربائي/ زئبقي! وخاصة أولئك الذين تعامل معهم، وتعاملوا معه وكافح بعقله وجسده معهم؟ في تنظيم بعض مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب، بحكم علاقته بـ(المثقفين) الذين كانوا ينشطون في [نادي الأسرة] الذي أسسه ببهو مسرح محمد الخامس. ومن “كواليسه” حققوا مكاسب وعلائق زمن الملاحق (الثقافية)! وكم تم استغلاله، وهضم حقوقه المالية والأدبية! دون أن يبدي آهات معلنة، إلا في السنوات الأخيرة، قبل حَـرق ذاته العلوية، لتلتحق بالسماوات العلا. آهات حينما تضاعفت مصاريف الحياة، ورغم ذلك لم يسلم من الدعاوي القضائية، هنا وهناك، ومن الذعائر التي نطقت بها مقتضيات الأحكام القضائية: هل كان مذنبا أم لا؟ هذا موضوع كان في أدراج المحاكم.
وبمناسبة اليوم العالمي للمسرح، ففي أحَـد دورات أيام المسرح التي كانت تنظمه جمعية “أبينوم” بمدينة شفشاون، ولنتأسف في هـذا اليوم الذي يطل علينا [عالميا] (تحديدا) عن ضياع تلك الآيام والملتقيات والمهرجانات المسرحية، ذات طابع صادق إبداعيا وثقافيا… ليس بالمطلق طبعا.
حضر الراحل كـ(تقني) رفقة أحَـد المسرحيين، ففي صبيحة الغـد (سافر) ذاك المسرحي، إلى وجهة أخرى وترك “أحمد جواد” تائها، بدون اعتمادات مادية، كما تم الاتفاق عليه. فلولا بعض الإخوة في الجمعية وغيرهم، لما رجع لعمله. وللعلم فهؤلاء الإخوة كلهم لازالوا أحياء، وحتى ذاك المسرحي، وإن كنا نعلم مسبقا أنه لن يقرأ هَـذا! لأنه لا يقـرأ؟ تلك هي وضعية أغلب (المسرحيين) عندنا!! لله في خلقه شؤون.
فلو كان للمسرح في المغرب حلاقـون / مزينون، مهرة، ولنتذكر أيها القارئ المفترض، مسرحية (الرأس والشعكوكة) تألي: سعيد الصديقي إخراج: الطيب الصديقي، والتي قدمت في سنة 1970 لكان [الرأس] إلى حـد ما، نظيفا من الخزعبلات والترهات ومن أفعال العصابات، التي تهدم نفسها بهدم مسار رفاقها وخلانها في مشهد “فـن الآداء”، كنا نتمنى أن يكون لدينا حجامون؟ ليسوا – كـ”حلاق بغـداد” في ألف ليلة وليلة، بل – كـ”حلاق الإمبراطور” لكاتبها [ألبير مطلق] والتي استغلها سعد الله ونوس في إحدى مسرحياته؟ لا يهمنا الموضوع هاهنا، لأننا أمام استذكار خاص. أمام من حمل باقة الرياحين والياسمين: في كل يوم عالمي للمسرح وفي كل يوم عيد الحب!، نحن اليوم أمام من وقف ضد هَـدم مسرح البلدي الذي أمسى اسمه مسرح “عفيفي” طبعا لن نجعله بطلا أو أسطورة زمانه، بل هو واحد منا، على الأقل نضعه في ذاكرتنا كشرط وجوب. ومعيارا لما آل إليه مسرحنا، من انهيار وشبه شلل في المخيلة والتخييل والإبداعية؟ ومن خلال فعله (الحرق) الذي اعتبره البعض جرما وجريمة في (حقه) فكيف السبيل لإعادة قوام مسرحنا واسترجاع قوته ووهجه الذي كان، هذا إن كانت لدينا نوايا بنائه فعلا؟ وتصحيح مساره حقيقة؟
لنحمل جميعنا زنبقة الياسمين لكي تفوح منها نسائم ربيعية، ورقصات ديونيزوسية وطيب عاطر فواح… فرحمه الله في هاته الليلة المباركة. وفي هذا الشهر المبارك والفضيل.