الاحتفالي “مسافر وجهته السحاب”

الاحتفالي “مسافر وجهته السحاب”

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام
       هو كتاب آخر جديد، أهداني إياه شهر رمضان الكريم، ولقد تعودت أن أفكر في هذا الشهر أكثر، وأن أكتب أكثر، وأن أحلم أكثر، وأن أحيا أكثر، وأغلب مسرحياتي كتبتها في ليالي رمضان، وكان الحس الصوفي دائما حاضرا فيها، وكان صفاء روحي محلقا فيها،
وإن هذا الكتاب الجديد، في عمري الجديد، قد أعطيته أنا، أو أعطى هو نفسه العنوان التالي: (مسافر وجهته السحاب).
وهو فعلا سفر أو أسفار بدرجة أعمار متعددة في حياة إنسانية حياة واحدة، وهي أسفار رمزية داخل جغرافية عقلي وداخل خرائط أفكاري وداخل أدغال نفسي، وداخل فراديس روحي ووجداني، وأنا في هذا الوجود مجرد مسافر وجودي، وإنني أطوي الأمكنة والأزمنة وأمشي في طريق تخيلته ورسمته في خيالي. ثم من بعد مشيت فيه، ولقد بنيته في الحلم أولا، ثم سرت فيه في الواقع، ولقد أقنعت نفسي دائما بأن الطريق الحق هو الذي يصعد إلى الأعلى، وهو يتجه إلى الأسمى، وعليه،فإن أسوأ كل الطرق هي التي تأخذنا، من حيث ندري أو لا ندري، إلى الدرك الأسفل، ولهذا فقد قلت مع المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
    وأنا في هذا الكتاب، وقبله في كل هذه المسيرة التي اختارتني، وفي كل هذا هذا المسار الذي اخترت، أقول اليوم وغدا نفس قوله تقريبا، وأقول أيضا لكل السائرين والمسافرين في الأسفار الفكرية ما يلي:
إذا غامرت في سفر مروم
فلا تقنع بما دون السحاب
وعليه، فإن كل سفر قريب، بمسافة قصيرة ومحدودة، هو مجرد نزهة وسياحية، وإن كل سفر لا يروم الأبعد والأعلى والأسمى، ولا يسبر باتجاه المدن السحرية البعيدة والغريبة والعجيبة فإنه ليس سفرا حقيقيا، وأتذكر أبا المعري الذي لم تمنعه سجونه بأن يسافر بخياله إلى يوم القيامة، وأن يرى بقلبه وبوجدانه وخياله كل ذلك الذي يصعب ويستحيل على العين المجردة أن تراه.
 
المسافر الاحتفالي في الطريق الاحتفالي
    أما لماذا أعطيت هذا الكتاب اسم (مسافر وجهته السحاب) فإنني أقول ما يلي، لأنه سفر ليس ككل الأسفار العادية، وذلك لأنه لا يسير في اتجاه أفقي على الأرض المستوية والسطحة، ولكنه يصعد إلى الأعلى في اتجاه عمودي، وهو بهذا لا يتغيا الممكن القريب، ولكنه يسعى باتجاه ما هو بعيد جدا، والذي هو ذلك السحاب الذي يستوطن السماء، زالذي يمطر أفكارا، ويمطر صورا ويمطر حالات ومقامات، ويمطر حياة صادقة، وذلك في عالم جديد ينبغي أن يكون عالما صادقا.
    وإن هذا الطريق الذي سرت فيه، ومازلت أمشي فيه، هو بالتأكيد طريق احتفالي وعيدي، وهو طريق يعد بكل شيء جميل ونبيل، فهو يعد باللقاء وبالتلاقي، ويعد بالفرح أيضا، وما يميز هذا الطريق الفردوسي هو أنه ليس ككل الطرق التي نعرفها وتعرفنا، والتي لها وجود على الأرض، لأنه طريق روحي موجود في السماء العالية، ولأن السير فيه لا يحتاج إلى الأقدام، أو للعجلات، ولكن يحتاج إلى الأجنحة المحلقة، والتي لا تراها العيون المجردة.
    والأصل في هذه الاحتفالية التي أصعد اليها، والتي لا يمكن أن تنزل الي، هو أنها الطريق وهي روح الطريق في نفس الوقت، وهي متعة السير والسفر في هذا الطريق أيضا، ولعل أجمل ما يمكن أن يكون موجودا في هذا السفر الجميل هو الصحبة الجميلة، مع كل رفاق الطريق، ومع إنني كتبت مسرحية (يا مسافر وحدك) والتي قدمها مسرح الأوركيد بمدينة ببني ملال، وأخرجها المخرج الاحتفالي عبد المجيد فنيش، فإني مؤمن بأن الإنسان لا يسافر وحده إلا في حالة واحدة، والتي تمثلها سفرة الرجوع إلى رب الوجود ورب الموجودات.
    ولقد اعتبرت هذه الاحتفالية، بفكرها وفنها وعلمها وأخلاقها (منطلقا لوجودي، ولفلسفتي في الوجود، ولقد انطلقت من اعتبار أن هذه الاحتفالية هي منظومة من القيم أولا، وأنها بحث في التاريخ الحديث ثانيا، وأنها ظاهرة من ظواهره المتعددة ثالثا، وأنها هزة من هزاته العنيفة والقوية رابعا).
    وفي جغرافيا الروح، تماما كما في جغرافيا المكان والزمان، توجد طرق ومسالك كثيرة، وفيها أيضا مدن نحاسية ومدن أخرى طينية، وفيها مدن ظالمة ومظلمة. وفيها مدن أخرى زجاجية وشفافة، يأتيها النور من جميع الجهات، وفيها مدن سحرية لا يصلها إلا الشعراء والحكماء الحالمون، وفي مسالك الروح هاته، توجد (أحوال يعبرها العابرون، وفيها مقامات لا يمكن أن يقيم فيها المقيمون إلا مؤقتا، وفيها محطات بعيدة جدا، وفيها علامات تحتاج لمن يقرأ رموزها، وفيها منعطفات كثيرة، مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، ومرة إلى الأسفل ومرة إلى الأعلى، ومرة إلى الأدنى ومرة الى الأبعد والاقصى، ورغم أن المسرح، والذي هو أساس الفكر الاحتفالي، هو أحوال نفسية ووجدانية قبل كل شيء، فإننا نؤكد على استحالة القبض على هذه الحالات، وذلك لأن من طبيعة الحال- كما يقول أبو حيان التوحيدي – إنه (كيفية سريعة الزوال) وقد نمضي نحن، ونعبر هذا الطريق، ولكن آثار أقدامنا وآثار أيدينا وآثار عقولنا وآثار نفوسنا تبقى من بعدنا. وهل يكون هذا الكتاب إلا آثار خطوات مشيتها فيى هذه الحياة؟
 
عن المسافر الذي لم يكن وحده
    هذا الكتاب يتصدره إهـداء لأسماء مشت معي في نفس الطريق، واقتسمت معي السفر ووجهة السفر، واقتسمت معي الأفكار والاختبارات والقناعات، وفي هذا الإهداء أقول الكلمة التالية:
إلى الخمسة الكبار في المسيرة الاحتفالية:
الطيب الصديقي الذي عرف الاحتفالية قبل التنظير الاحتفالي
والشيخ المؤسس، السوداني علي مهدي رائد الاحتفالية الأفريقية
وإلى الرائد الاحتفالي الكردستاني أحمد سلار في مدينة أربيل، مؤسس الاحتفالية الكردستانية في كردستان العراق
وإلى الاحتفالي التونسي المرحوم عبد الغني بن طارة، أول من قدم مسرحية ( اسمع يا عبد السميع)، ومؤسس بيت الاحتفال في مدينة تونس، وأحد مؤسسي المسرح الوطني ومهرجان قرطاج بتونس
إلى د. حميد صابر، المفكر والمسرحي والأستاذ بمدينة البصرة بالعراق
وإلى كل المسافرين الاحتفاليين الذين اتخذوا السحاب وجهتهم
أهدي هذه الكتاب..
    وإنني في هذا الكتاب، تماما كما في كل كتبي الأخرى، أتحدث عن كل الاحتفاليين في العالم، والذين الذين أوجدوا في هذا العالم القديم طريقا فكريا وجماليا وأخلاقيا جديدا.
   وفي مقدمة هذا الكتاب أقول ما يلي (إنني أنا الكاتب عبد الكريم برشيد، سواء في هذا الكتاب، أو في غير هذا الكتاب، لا أدعي في العلم فلسفة، ولا أقول بأنني أحيط بكل شيء علما وفهما، وأعرف بأنني لا أعرف إلا ما قدرت على معرفته، ولو أنني كنت أعرف كل شيء، في عالم الناس وفي فقه الأشياء، ما قضيت العمر كله في السفر والرحيل، وفي التأمل والنظر، وفي النبش والحفر، وفي القراءة والكتابة، وفي الهدم والبناء، وفي الحفظ والاستظهار، وفي الكتابة والمحو، وفي الشك واليقين، وفي البحث والسؤال، وفي طرق الأبواب الموصدة، وفي اقتفاء آثار العلماء والعارفين والسالكين في دروب المعرفة والحكمة، ولهذا فقد كنت دائما على علم بحجم (علمي) و(معرفتي) ولهذا فقد قلت في كتابي الذي أعطيته اسم (غابة الإشارات) (المعرفة لا أعرفها، والحكمة ما حكمها؟ والعلم لا علم لي به، والفهم يصعب علي فهمه، وإنني ـ مثل كثير من الناس ـ طالب علم وفهم، وذلك في مدرسة الأيام الابتدائية، وقد أكون مازلت في روضها وكتابها وأنا لا أدري).
    ونحن في هذه الاحتفالية طلاب علم وفهم فقط، ونحن بالتأكيد لسنا حكماء، وهذا لا يمنعنا من أن نعشق الحكمة، وأن نحب الجمال، حيثما كانت هذه الحكمة وهذا الجمال، سواء في الشرق أو الغرب، وفي الأرض أو في السماء.
   وفي هذا الكتاب (الجديد) ـ مؤقتا ـ حتى يصبح قديما في يوم من الأيام، في هذا الكتاب أواصل ما بدأته من عقود طويلة جدا، ويسعدني اليوم أن أظل وفيا لفلسفتي في الحياة، وأن أظل وفيا لمساري في الفن والفكر والعلم، والتي ليس لي غيرها، وأن أبقى مقتنعا بأنني في رحلتي الوجودية لا أبتغي في هذا الوجود سوى أن أكون موجودا أولا، وأن أكون عارفا معرفة حقيقية.
    ثانيا، وأن أكون فرحا ومحرضا على الفرح ثالثا، وأن أكون مواطنا حرا في الوطن الحر رابعا، وأن أقتسم مع كل الناس أحلامي وأوهامي، وأن أعيش معم بعض أفكاري وبعض صوري وبعض مشاهداتي وشهاداتي.
 
السفر في المسرح سفر عجائبي
    يقول يحيى مخاطبا حياة في مسرحية (يا مسافر وحدك)
(هكذا أنا يا مولاتي، إنسان متصالح مع اسمه ومع نفسه ومع وطنه ومع عالمه وكونه ومع ربه. إنني لا اسب القدر، ولا أشكو الظروف، ولا ألعن الأيام، ولا أجرم الشيطان وأبرئ نفسي، ولا أكفر أحدا من الناس، ولا أتهم إلا نفسي إن أصبت أو أخطأت.. إنني سعيد بالذي أتى وغير آسف على الذي لم يأت).
    وعظمة الوطن المسرحي تكمن أساسا فيه أنه يجعل من هذا الاحتفال في المسرح كيفية غير قابلة للزوال، وبهذا يصبح هذا المسرح فعلا خالدا، من خلال استعادة لحظاته العيدية الهاربة، ومن خلال جعلها تحضر بعد غياب، وتعود بعد ذهاب وتبحث حية بعد موت. أو بعد ما قد يشبه الموت.
    وهذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي أساسا فعل ووفاعلية، وهي حركة وتحرك، والمسافر في جغرافيتها هو أساسا كائن متحرك ومسافر بشكل دائم ومتجدد، وهو يسافر من الهنا إلى الهناك، لأن هذه الأمكنة محددة ومحدودة، وقد تضيق بنا في كثير من الأحيان، فتسع أجسادنا وحدها، ولا تسع أفكارنا ولا تسع أحلامنا، ولا تسع طموحنا، ولاتسع هذياننا وجنوننا وشطحاتنا، ولأن هذه الاحتفالية حركة وطاقة وجدانية محركة، فهي تعادي السكون والثبات والجمود، وهي بذلك تمتلك – مثلها مثل كل هزات العصر الحديث- القدرة على التغيير والتغير، وعلى التجديد والتجدد، وعلى الفعل والانفعال، فهي نظام وليست فوضى، وهي فعل مركب متجذر في تربة الأيام والليالي والأعوام، ومنغرسة في تربةالثقافة الكونية المعاصرة، وذلك بكل روافدها ومكوناتها المختافة والمتنوعة، ولأنها منجذبة إلى المستقبل والممكن، فهي حركة مستقبلية بالضرورة، ولأنها تتجاوز الواقع الظاهر إلى الحقيقة المضمرة، فهي حركة سوريالية بالضرورة، وذلك في جانب من جوانبها المتعددة والمتنوعة، ولأنها مرتبطة – نفسيا وذهنبديا وروحيا – بالمتعالي،وبالمقدس،وفهي حركة صوقية او شبه صوفية).
    وأنا الاحتفالي، مثل كل أهلي وصحبي ورفاقي الاحتفاليين أجمعين، نحسن التفكير وحده، أما فعل التدبير، فله مدبر حكيم وله مدبر عليم، وله مدبر رحيم، ولقد فوضنا أمرنا إلى خالقنا، حتى يدبر أمرنا.
    وفي كتاب مخطوط عنوانه (الرؤية الاحتفالية ببن العيدية والمأتمية) أقول ما يلي: (وبالتأكيد فإنه لا وجود لرحلة بغير طريق، ولقد اختار هذا الاحتفالي أن يكون صاحب طريق، من غير أن يكون صاحب طريقة بالضرورة، واختار أن يقتسم متعة السفر مع أهله وصحبه ورفاقه في الطريق، ولقد اقتنعوا جميعهم بأنه لا شيء يفسد متعة السفر، ويفسد متعة الرحيل أكثر من وجود قطاع الطريق في الطريق، ولقد كان لهذه الاحتفالية نصيب محترم من هذه الفئة البشرية، والتي لا تفعل أي شيء، والتي لا تضيف للأشياء والأفكار الموجودة شيئاجديدا، والتي يغضبها فعل السير باتجاه أي شيء، ولعل هذا هو ما جعل هذه الرحلة الاحتفالية، والتي هي أساسا رحلة أرواح ورحلة نفوس ورحلة عقول (محفوفة بالمخاطر، ومسيجة بالشك، ومحاصرة بسوء الفهم وبسوء التأويل مرة أخرى، وبسوء النية في أغلب المرات).
    وقد يتساءل من يحسن فعل التساؤل العلمي البريء، ويقول:
هذا المسافر الوجودي، صاحب هذه الشهادة، أو هذا البوح، هل ضاق به هذا المكان، حتى سعته، حتى راح يبحث عن الأمكنة الأخرى، والتي قد يكون لها وجود أو قد لا يكون؟
وهل ضاقت به هذه الأيام حتى راح يبحث عن الأيام الأخرى، في الأزمنة الأخرى؟
وهل هناك أمكنة أخرى، مهربة ينبغي أن نستردها؟
وهل هناك أيام أخرى، غير هذه الأيام التي يشبه بعضها البعض، والتي لا جديد فيها ولا جمال فيها ولا سحر فيها؟
    وردا على كلمة الفارس الاحتفالي جناح التامي قلت له مرة:
(دائما في الموعد أخي وصديقي ورفيقي جناح التامي، الفنان السخي والفنان المفكر والفنان الحالم، والفنان المسافر بحثا عن اليوم الثامن في الأسبوع، وبحثا عن الأسبوع الخامس في الشهر، والباحث عن الشهر الثالث عشر في السنة).
وهل هناك يوم ثامن في الأسبوع؟
    نحن في الاحتفالية نقول نعم، ومن حق أي واحد أن يسألنا، وما اسم هذا اليوم الاستثنائي في الزمن الاستثنائي؟ وأقول له، اسمه يوم العيد، يا صاحبي، والذي هو سلطان كل الأيام، لأنه مؤثث بالبهجة والفرح، ولأنه لا يأتي أبدا إلا ومعه الجديد والمفيد،
وعندما كتبت مسرحية (الصعلوك) قدمتها للقراء بعنوان طويل جدا، والذي هو (مشاهدات صعلوك متشرد في اليوم الثامن من الأسبوع الخامس من الشهر الثالث عشر).
ويومها قال القائلون بأن الأصل في هذا العنوان هو أنه فذلكة أو هو هرطقة، في حين كان تعبيرا عن إنسان يبحث عالم آخر; بساعات أخرى وبأيام أخرى وبشهور أخرى وبأعوام أخرى. وقد لا يكون هذا المطلب ممكنا، ولكنه في اليوتوب الاحتفالية ممكن جدا.
 
البحث عن الناس والهروب من الحجارة
    في كتاب (الرؤية الاحتفالية بين العيدية والمأتمية)، والذي هو كتاب مخطوط، يقول الاحتفالي:
(وعندما تكون احتفالي الرؤية، فإنه لا يمكن أن ترى نصف الكأس فقط، نصفه الفراغ أو نصفه الممتلئ، ولا يمكن أن تكون أحادي العين، ولا أحادي الحكم، ولا يمكن أن تكون إلا صادقا وموضوعيا ومحايدا، وأن تكون عاشقا لما تراه وتعيشه، وأن تتذوقه قبل أن تلمسه).
    وهل تذكرون ذلك السجين الأبدي في سجن الوجود، وذلك في تلك الاحتفالية المسرحية التي أعطت نفسها عنوان (الناس والحجارة)؟
مأساة ذلك السجين هو أنه ممنوع من السفر. وممنوع من التلاقي وممنوع من الحوار وممنوع من الاحتفال والتعييد، وفي كلمة واحدة، هو الحي الممنوع من الحياة.
    وبالنسبة للاحتفالي، فإن كل نهاية هي بداية أخرى داخل دائرة الوجود، والتي هي بدء جديد ومتجدد، بحثا عن الكمال والاكتمال، فالحياة تكتمل بالموت، والواقع يكتمل بالحلم ، والنهار يكتمل بالليل، والرجل يكتمل بالمراة، والدورة تكتمل بالوجود الذي يعيد ويستعيد نقطة البدء.
    عندما (قامرت) وغامرت، أنا الكاتب، وأصدرت البيان الاحتفالي، والذي هو كتابة كاتب، ولا شيء أكثر من ذلك، قامت القيامة، وبقيت قائمة إلى حدود هذا اليوم، ولقد صادفتني مواقف غريبة وعجيبة لم أتوقعها، مع أن كل ما فعلته هو أنني فقط بينت أفكاري في بيانات، وسرت في طريق وقلت هذا طريقي،
    ولقد وجدت نفسي في أمتي التي أنتمي إليها (كصالح في ثمود)، ولقد أغضبت هذه الكتابة كثيرا من المسرحيين، وقالوا في الاحتفالية وأصحابها ما لم يقله مالك في الخمرة، مع أنني ما فعلت شيئا سوى انني أعطيت القارئ شيئا من المتعة الجمالية إلى جانب المعرفة العلمية الصادقة.
    وهذه الاحتفالية هي أساسا حركة فكرية داخل حركة التاريخ الحديث والمعاصر، ولقد كانت (جزءا أساسيا وحيويا في بنية التحول المجتمعي والتغير التاريخي والتجدد الفني والإبداعي، وكانت هذه الاحتفالية- من حيث تدري أو لا تدري- ذاتا حقيقية؛ فاعلة ومنفعلة بالضرورة، وذلك في خرائط الأيام والليالي، وفي خرائط التفكير والتخيل، وفي خرائط الإبداع المسرحي، وفي خرائط كل الفنون التي تنتسب لهذا المسرح – الأب – وتنتمي إليه بالضرورة، أو ينتمي إليها- لا يهم- ) هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب (الاحتفالية وهزات العصر).
 
عنوان مؤقت
    وأنا المسافر، في الحلم واليقظة، وفي الواقع وفي ما وراء الواقع. قادتني أسفاري ورحلاتي لأن ألتقي بكثير من الشعراء والحكماء. والذين تتلمذت عليه، ومن بينهم ذلك الحكيم الذي سألته وأجابني، والذي قال لي، عندما التقيته في تلك الرحلة الافتراضية في العوالم الافنتراضية، والتي أعطيتها عنوان (الرحلة البرشيدية)، لقد قال لي عندما سألته عن المسرح ما يلي:
(المسرح هندسة قبل كل شيء، هو هندسة في الفراغ قبل أن يكون هندسة في الامتلاء، وهو هندسة رمزية قبل أن يكون هندسة مادية، إنه هندسة فكرية ووجدانية وروحية يا ولدي، والخفي فيه أخطر من الجلي، والغامض أبلغ من الواضح، والبعيد اصدق من القريب،والرمز أوسع من الطبيعي، والتاريخي أرحب من اليومي، والحلمي أسرع من الواقعي).
    وفي هذا المسرح يمكن أن نتحدث عن أعمالنا بشكل جيد. ولكل أعمالنا الجميلة تتحدث عنا أحسن منا.
ويخطئ من يظن أننا نحن من دافعنا عن هذه الاحتفالية. والحقيقة هي أنها هي من دافعت عن نفسها بنفسها، ودافعت بالأفكار المقنعة وبالابداعات الممتعة، وبالحجج الدامغة.
وفي التقديم لهذا الكتاب أقول ما يلي:
(في احتفالية (يا مسافر وحدك) يقول الكاتب الاحتفالي في تقديمه للمسرحية ما يلي:
في هذه (الاحتفالية المسرحية يختبئ المعنى التالي، وهو أن ما هو بعيد هو الذي يظهر دائما للعين أحسن، وأن هذا الواقع ـ بكل وقائعه المألوفة والمعروفة ـ لا يمكن أن يدرك جوهر الحقيقة، إلا عندما تصل فيه المظاهر والظواهر والحالات والمشاهدات، أقصى درجاتها الممكنة، وأن يكون من حقنا أن نقول عنها (هي أغرب من الخيال).
    وأنا اليوم في هذا السفر الفكري والجمالي (الجديد) لا أفعل شيئا جديدا سوى أنني أحاول فقط، وأن أسعى لكي أنال شرف المحاولة، وأن أقرأ في مسيرتي ومساري السطور وما بين السطور، وأن أعيد للحروف نقاطها الضائعة والتائهة والمهربة، وأن أعيد لعالم الكتابة والإبداع في تجربتي شيئا من النظام، وأن أعيد ترتيب كثير من الأفكار الواردة الشاردة والمتمردة).
   وهل هذا شىء سهل؟ بالتاكيد لا ..
   وأنا في هذا الكتاب (الجديد) (لا أعد القارئ بأنني سآتيه بـ (المعجزات الصحاح)، ولكنني فقط أعرض عليه صحبتي في رحلتي، وأن آخذه معي في أسفاري السندبادية والحلاجية والسييزيفية إلى المواطن البعيدة والغريبة والعجيبة، والتي لها بالتأكيد وجود في خرائط الوجدان وفي خرائط العقل وفي خرائط الروح، والتي أتمنى أن تكون مقنعة فكريا، وأن تكون ممتعة جماليا).
 
خاتمة الكلام
    وأنا (المقيم) في السفر، قد يسألني سائل من الناس ويقول لي:
أنت المسافر الذي وجهته السحاب، والذي سافر باتجاه السحاب، ماذا وجدت هناك؟
   وأقول له وجدت ذاتي الأخرى، ووجدت احتفاليات أخرى، والتي هي بالتأكيد أعلى وأسمى، وهي أغلى وأغنى، وهي أوسع وأرحب من كل الاحتفاليات التي أسستها وعشتها على امتداد نصف قرن.
    فعلا، كتاباتي شبه اليومية غابت طيلة شهر رمضان، ولكنني أنا لم أغب، لأنني ممنوع من الغياب، ولأن فعل الغياب لا يليق بي، ولأن مهنتي التي لا أحسن غيرها هي الحضور بعد الحضور بعد الحضور، ولأنني لم أكن هنا، فقد كان ضروريا أن أكون هناك، وفي ذلك الهناك، القريب البعيد أقمت شهرا كاملا، كنت فيه بصحبة التأمل والتفكير، وكنت بصحبة الخيال والاحتفال، وكنت بصحبة السؤال والمسألة.
    وفي هذا السفر الوجودي والوجداني تجددت، وبماء السحاب فيه اغتسلت وتطهرت، وإنني أعود اليوم من السماء إلى الأرض، وأنا أخف وزنا، وأنا أكثر قيمة، وأنا أطول قامة مما كنت، وأجد أنني قد أصبحت أكثر معرفة بذاتي وبذات الاحتفالية، وأكثر علما بهذا العالم.
Visited 38 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي