مستقبل الاحتفالية ومستقبل البشرية
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
لقد قالوا للاحتفالي (ما لك لا تمضي؟ لقد قلت كلمتك، وأصبح من واجبك أن تمضي). ولقد قال لهم (أنا ما قلت لحد هذا اليوم إلا شيئا قليلا من كلمتي، وعليه، فإنه لا يمكن أن أمضي).
وقال أيضا، وكيف أمضي، وأنا الكلمة والكلمة أنا، ونحن روحان اثنان حللنا بدنا واحدا، ولقد أكدنا دائما على أن هذه الحياة هي طرق ومسالك بلا عد ولاحصر، وهي وجهات واختيارات متعددة ومتنوعة، ولقد اخترنا نحن طريقنا ومشينا فيه، وقلنا كلمتنا، وكتباناها، وبيناها في البيانات، وأذعناها في الناس، وقلنا لهم هذه هي احتفالية اليوم، وانتظروا الاحتفاليات الأخرى الجديدة القادمة. والتي سوف تأتي مع الاحتفاليين الجدد. وبهذا فقد كان من واجب الحاضر أن يعلم الغائب، وأن يساهم في إبلاغ الكلمة الاحتفالية، والتي لها وجود في الرسالة الاحتفالية.
ولقد وضع ألاحتفالي هذه الكلمة في رسالة، واعتبر نفسه ساعي بريد متطوع، وألزم نفسه أن يكون في خدمة الإنسان والإنسانية وفي خدمة الحياة والحيوية وفي خدمة المدينة والمدنية، وفي خدمة الحق والحقيقة وفي خدمة الجمال والجمالية. ولهذا فهو لم بتوقف عند حد قول هذه الكلمة وكتابتها فقط، ولقد حرص دائما على أن يصونها من التحريف ومن المحرفين ومن المزيفين، ومن قرصان الكلام، ومن قرصان الرسائل، ومن حق هذه الكلمة في التمدد والتجدد والتعدد.
وبحسب د. محمد الوادي. والذي هو أحد المجددين الجادين والصادقين في التيار الاحتفالي المتجدد. فإن ما يميز هذه الاحتفالية هو أنها (لم تقل كل شيء دفعة واحدة، ولم تكشف عن كل أوراقها في أول بيان. أو في أول كتاب، أو في أول مسرحية، ولهذا فقد ظلت تمتلك الجديد، وظل هذا الجديد يثير الدهشة والحيرة والقلق، وظل يؤسس المسائل الحقيقية، ويسطر الأسئلة الجديدة).
وأنا هو ذلك الاحتفالي الذي قلت في كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة – الكتاب الثاني) ما يلي:
(لقد اقتنعت أن فعل البناء يبدأ من الهدم، وأن بناء الإنسان يمر على أنقاض الأصنام والأوثان، وأن بناء العقل والعقلانية يتأسس على تدمير الأوثان وعلى استبعاد الخرافات والأساطير، وعلى مراجعة كل المسلمات وعلى مناقشة كل المقولات، من هذه النقطة يبدأ مسار هذا الكتاب)، ومن نفس هذه النقطة أيضا. يبدأ مسار الاحتفالي، وتبدأ مسيرة الاحتفالية، في الفكر والفن، وفي العلم وفي الصناعات الإبداعية المختلفة.
الاحتفال تغييرات وتلوينات على خرائط الوجود
وفي هذه الحياة اختار هذا الاحتفالي أن يكون متمردا على الثبات والسكون والجمود، وعلى أن يواجه الأمكنة الثابتة بالحركة الجديدة والمتجددة ، وان يكون في هذا الكون كائنا انسانيا يسافر عبر الكلمات وااحالات والمقامات، وهو حين (يقيم) فانه لا يقيم إلا في السفر المتحرك، وهذا هو ما أكدته المقالة السابقة، والتي كانت بعنوان (الاحتفالي مسافر وجهته السحاب).
وداخل هذا السفر الوجودي، هناك قيم ومبادئ مركزية ثابتة تسافر معنا. ونذهب معنا إلى حيث ذهبنا، ويمكن أن تتغير الأمكنة وحدها ولا تتغير هي، ويمكن أن تتغير الأزمنة وتبقي هي كما هي، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي كائنا متجددا في الزمن المتجدد.
وقدر هذا الاحتفالي المسافر أيضا، هو أن لا يسافر وحده، وقدر (الأنا) الضيقة عنده هو أنها مجرد جزء صغير من (النحنية) الإنسانية والكونبية الكبرى، والتي تسع الأجساد والأرواح المسافرة والباحثة عن ذاتها وعن مستقبلها، والباحثة عن فكرها وعن فنها وعن علمها وعن شبابها المتجدد وعن خلودها الممكن.
والأصل في هذا الاحتفالي أنه كائن عاقل، وعلامة عقلانيته أنه لا يتوقف لحظة عن فعل التفكير، في ذاته أولا، وفي شرطه الوجودي والاجتماعي ثانيا، وفي قضايا العالم ثالثا، وهو مؤمن بأنه موجود في التفكير وبالتفكر. وبأنه بدون هذا التفكير الحر لا يمكن أن يكون إنسانا كامل الإنسانية. والأصل في هذا التفكير الاحتفالي هو أنه أخو الحرية، وأنه أخو الحيوية، وأنه أخو الإنسانية، وأنه أخو المدنية، وأنه أخو الاستقلالية، وأنه أخو المسئولية.
وتعقيبا على المقالة السابقة. والتي كانت بعنوان (الاحتفالي (مسافر وجهته السحاب) كتب صديقى المسرحي الاحتفالي الكردستناني العراقي أرسلان درويش ما يلي:
(منحك الباريء الصحة والعمر المديد والعطاء الزاخر، دائما تثاقفنا وتحملنا إلى عوالمك المرصعة بالمعرفة والجمال.. ومبارك هذا الإنجاز الجديد، والذي لا أعلم متى سيصلنا ونبتهج بقراءته، فقد حصلت على كتابكم (زمن الاحتفالية) الصادر منذ سنين في الأمس فقط ضمن معرض أبربل الدولي للكتاب في أربيل.. تحياتي صديقنا الكبير ومعلمنا المسرحي الوقور).
وهذا الاحتفالي المسافر، له ظلال ظلال فكرية حية، وله أيضا ظلال جمالية بكل الأاوان، وما يميز هذه الظلال المتحركة هو أنها أسرع من أجسادها، وقد تسبقها في كثير من الحالات إلى كل مدن العالم، وبهذا تكون الأفكار الاحتفالية أسرع من الاحتفالي، وتكون وجهتها المستقبل، والكتاب الاحتفالي موجود في كل الجغرافيا وفي كل التاريخ، والمسرحية الاحتفالية موجودة في الحاضر طبعا، ولكن وجهتها المستقبل.
الاحتفالية بدء متجدد والمأتمية ختام
في زمن البدء الاحتفالي الأول، كان ما يهم بعض النقاد وبعض المسرحيين وبعض الصحفيين هو السؤال العبثي التالي:
– متى تنتهي هذه الاحتفالية (المزعجة) بفكرها وعلمها وجمالها؟
وكان كل غياب بسيط وعابر ومؤقت، يتم تفسيره بأنه موت غير معلن، وبذلك المنطق العبثي والمزاجي تكون هذه الاحتفالية اليوم قد غابت وانتهت وماتت، وذلك في ضمير كثير من الناس، والذين يناصرون العدم في مقابل الوجود والموجود. والذين ينتصرون للمأتم والمأتمية في مقابل الاحتفال والاحتفالية، والذين يحسنون الحديث ففط عن الغياب وحده، ولا يعرفون أي شيء عن الحضور ، وعن شرف الحضور، وعن جماليات وأخلاقيات الحضور وأدبيات الحضور.
وفي نفس هذا الموضوع سألتني الفنانة والإعلامية بشرى مازيه، وهي تحاورني لحساب برنامجها التلفزيوني(الماهدون)، عن مستقبل هذه الاحتفالية، ولقد أجبتها بأن هذه الاحتفالية، باعتبارها كائنا حيا، فإنه بجري عليها نفس ما يجري على الكائنات الحية كلها، فمن الممكن. أن تمرض، وأن تشيخ، وأن تلحقها الأعطاب، أو أن تموت موتا طبيعيا، أو أن يتم اغتيالها، تماما كما كان يمكن أن يتم وأدها وهي على قيد الحياة، وكل تاريخ هذه الاحتفالية ما هو إلا صراع ملحمي من أجل الوجود ومن أجل البقاء ومن أجل الارتقاء في سلم الوجود، وعليه، فإنه لا يمكن معرفة مستقبل هذه الاحتفالية إلا بمعرفة ماضيها اولا، وهذا هو ما يجعل الاحتفالي يقول لكل من يوجه له مثل هذا السؤال، ويقول له:
— قل لي أنت كبف كنت قبل الآن، حتى أقول لك أنا كيف ستكون أنت بعد الآن.
وهل هذا الواقع الحاضر اليوم هنا، فينا وبنا ومعنا، والممتد باتجاه المستقبل الممكن إلا الوجه الآخر لذلك الماضي الذي كان؟
ولقد سبق أن قلت في كتاب (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) للكتب العراقي عبد الرزاق الربيعي بأن (ما ظهر واختفى لا يمكن أن يعول عليه، ووحدها الأشياء الحقيقية، هي التي تظهر ولا تختفي، وهي التي تتمرد على الفضاء الزمكاني، وهي التي تتجدد مع تجدد الأيام والأعوام),
وهذه الاحتفالية اليوم، والتي عاشت معنا، كما عشنا معها، كل الحالات، واجتازت معنا كل الامتحانات، وعانت معنا كل أنواع المعاناة، وثبتت أمام الرياح والعواصف، والتي قاومت كل عوامل الشك والتشكيك وكل عوامل اليأس والتيئيس والتي ناضلت ضد الغربة والتغريب، هذه الاحتفالية العنيفة والقوية بفكرها وعلمها، لا يمكن أن تقتلها نزلة برد موسمية طارئة.
إن الرهان الاحتفالي. ومنذ البدء، كان رهانا كبيرا وخطيرا، وكان طموحا مشروعا بلا ضفاف وبلا حدود، ولقد تبنت هذه الاحتفالية مشروعا نهضويا موسعا، سواء في الفكر أو في الفن أو في الحياة اليومية.
ولقد اقتنع الاحتفالي، داخل هذه المخاطرة الاحتفالية، بأن الأمر لا يتعلق بنزهة سريعة في حديقة جميلة، وبأن الأمر يتعلق بـ (غابة) هي غابة الأفكار وغابة المعاني وغابة الإشارات وغابة الدلالات وغابة العلامات وغابة الاختيارات وغابة المواجهات، وأن هذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي أهدافها الكبيرة والخطيرة، والتي لم تكن في يوم من الأيام أهدافا بسيطة ولا متواضعة.
ولقد تعود الاحتفالي ألا يكون مع الصمت الجبان. واختار في كل مواقفه أن يجهر بكلمة الحق. وألا يلتزم فعل الصمت، إلا اذا كان صمته صمتا عاقلا، وكان صمتا حكيما، وفي هذا المعنى يقول المفكر مالك بن نبي:
(لا تصمت عن قول الحق. فعندما تضع لجاما على فمك، فسيضعون سرجا على ظهرك). وهذا في أحسن الأحوال. أما في أسوأ هذه الأحوال.، فهم يضعون بردعة على ظهرك، وتفقد إنسانيتك، وتصبح حمارا أو بغلا من حيث تدري أو لا تدري.
المسرح تأريخ للمقموع والممتوع
في حروبنا الصغيرة والكبيرة، قلنا ما كان ينبغي أن نقوله، وكتبنا كل ذلك الذي كان ينبغي أن نكتبه، من غير زيادة ولا نقصان، وحرصنا على أن نكون صادقين وواضحين، وأن نكون نسيما في إبداعنا. وأن نكون عواصف وزوابع في كثير من مواقفنا. وهذا هو حال المسرح، وهذا هو منطقه، فهو تربية وهو موعضة حسنة للإنسان، من أجل أن يكون مواطنا جميلا وحرا في الوطن الجميل والحر، وهذا هو ما أكدت عليه الاحتفالية دائما. والتي قالت في تعريفها لهذا المسرح بأنه التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر وفي المناخ السياسي والاجتماعي الحر.
وإن هذا المسرح، كما نريده نحن، وتريده الاحتفالية، هو أن يكون فاعلا في الحياة، وأن يكون متفاعلا مع الأحداث اليومية، وأن يكون في الحياة تأريخا للحياة في كليتها وشمولتها، من غير أن يكون مسرحا مؤرخا، بمعنى أن ينقل الأحداث كما هي، في شكلياتها وسطحياتها وفي ظاهرها، لأن الأصل في هذا المسرح هو أنه التاريخ البديل. أو أنه التاريخ المقموع،، أو أنه التاريخ الممنوع، وعليه، فإن مهمة هذا المسرح هو أن يؤرخ لما أهمله التاريخ. أو لما نسيه أو سكت عنه التاريخ، أو لكل ما لم تصل إليه عين الصحافي، وعليه فإن المسرح هو التأريخ للوجدان والتاريخ لعقل الإنسان ولما يفكر فيه ولما يخيفه ويرعبه، والأساس هو أن ينتبه هذا المسرح إلى حياتنا الداخلية وإلى عقلنا الباطن، والتي يجب أن يصل إليه المسرح، حتى يكشف لنا الخفي، وحتى يغوص عميقا في أحلامنا وشكوكنا وفي حيرتنا وفي رعبنا، من الحرب.. ومن الجوع ومن الجهل ومن الأمية، ومن الفقر والمرض، ولذلك فقد كان المسرح هو أصدق كلمة الصادقين، وكان أبلغ المعبرين عن حياتنا في معناها الظاهر والخفي.
كل شيء نقتسمه ينقص إلا الفرح
وفي سؤال للأستاذ عبد الرزاق الربيعي في كتابد (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) نقرأ ما يلي:
(إن المتتبع لمساركم الفني تنظيرا وإبداعا وتأليفا، لايسعه إلا أن يقول بأن المسرح هو منارة الحضارات التي استندتم إليها، ومن خلالها جسدتم الفلسفة الفنية والأفكار والقيم الإبداعية التي اقتنعتم بها أولا وآمنتم بها ثانيا، في تمردكم الفكري على القواعد المسرحية التقليدية، ومن خلالها ارتأيتم أن الاحتفالية هي إعطاء الوجه الحقيقي وهويته، واكتساب الأصالة الحقة للمسرح المغربي خاصة والعربي عامة. فإلى أي حد – أستاذ عبد الكريم برشيد – يمكن اعتبار هذه الرؤى، وذاك التصور بديلا مستوفيا لشروط القطيعة التي أعلنها – عبركم ومن خلالكم – الاحتفاليون، ضد كل جمود أوثبوتية في مكان اجتهادي واحد ؟).
هي رؤية للعالم، رؤية مركبة بكل تاكيد هكذا هي الاحتفالية، وهي موقف نقدي وضدي من هذا العالم، و هي حلم حالمين في زمن يصعب فيه الحلم، لأننا نعيش واقعا كثيفا، مرعبا، ومخيفا، فيه التفرقة، والحروب والاضطهاد، والظلم، لهذا فقد كان أحسن الأشياء أن ندعو إلى الحضور وإلى التلاقي وإلى الحوار وإلى المشاركة والاقتسام وإلى التسامح وإلى التعايش، وقدر هذه الاحتفالية الجديدة هو أنها جاءت في وقت الحرب الباردة، عندما كان العالم مقسما إلى قسمين: المعسكر الاشتراكي والمعسكر الليبرالي والاستعماري، وعاش العالم ما كان يسمى بالحرب الباردة. ولقد جاءت هذه الاحتفالية من أجل الحوار وأكدت على الحق في التعدد والاختلاف، وأصرت على أن نختلف بأمانة و صدق، ولقد كنا، في دعوتنا، نسعى من أجل هدف واحد أوحد هو إسعاد البشرية، وأن نصل في النهاية إلى نتيجة واحدة، وهي أن هذا الإنسان الجديد، وفي هذا الزمن المتجدد، يمكن يكون أكثر سعادة وأكثر علما وأكثر غنى وأكثر احتفالا واحتفاء بوجوده وبحياته وبواقعه، ولقد أكدت هذه الاحتفالية على شيء أساسي في مجال الحقوف، والذي هو أسمى حقوق الإنسان في الحياة، والذي هو الحق في الفرح وهو الحق في التعبير عن هذا الفرح، من خلال العيد والتعييد ومن خلال الحفل والاحتفال، فالإنسان ما آتاه الله هذه الحياة ليشقى و إنما ليفرح ويسعد ، لهذا أعطاه كل هذه الخيرات الموجودة في البر والبحر والجمال في الوجود. فالاحتفالية قائمة أساسا على التلاقي والحوار والمشاركة والاقتسام وكما قيل، فإن كل شيء نقتسمه ينقص إلا الفرح، إذا اقتسمناه يكبر، فالمسرحي يعيش الفرح المركب والمضاعف، فهو يجد فرحه وسعادته في اسعاد الآخرين، ولذلك فقد كان أغلى ما يمكن أن نعطيه لهذا المبدع الفنان. والذي يحترق من أجل الناس، هو أن نصفق له في نهاية العرض المسرحي، وأن نقف له احتراما وإجلالا، لأنه فكر فينا وفكر في إسعادنا وأعطانا ساعة من الفرح مثل ذلك المهرج الفنان في السيرك، فكن الممكن جدا أن يكون مريضا وشقيا ولكن لا يكف لحظة عن إضحاك الأطفال وإسعادهم. وكذلك هو المسرحي الصادق، والذي يتحدث عن مشاكل البشرية. ويطرح كل مشاكل الحياة اليومية. كالفقر والتفقير وكالامية الأمية والتجهيل وكالغربة والتغريب، ويطرح قضايا الشعوب والدول في علاقاتها بين الحرب والسلام، وبذلك فقد أكد الاحتفالي على أن ط المسرح هو فن طجميل ونبيل، وإننا في هذا المسرح نشتغل فيه بروح العطاء والسخاء ونحن ندعو في هذه الاحتفالية إلى عالم أكثر جمالا، وإلى نظام عالمي جديد، تنتفي فيه العبودية والعنصرية والفوارق الاجتماعية والفىوية الضيقة، ونصبح كلنا مواطنين حقيقيبن، مؤمنين بأن الإنسان خلق حرا ليعيش حرا. وبأن على هذا الانسان الحر أن يتعلم من الطيور المهاجرة. والتي تبحث عن مناخ آخر يعيش فيه بحرية وأمان، وأن يضمن قوت يومه، وماذا يمكن أن تكون هذه الاحتفالية سوى أنها بحث متجدد عن آفاق اخرى جديدة وحيثما وجد الانسان الاستقرار والسكينة ووجد الحب والأمان، فإن ذلك الوطن هو وطنه الحقيقي، ونحن في هذه الاحتفالية تسعى دائما من أجل إيجاد مسرح يكون مسرحا للجميع، ويكون مسرح الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا المسرح، في أحد معانيه، هو مكان للتلاقي، وهو منبر للحوار والاختلاف، وهو فضاء لاقتسام الأفكار والحالات والإقامات الجميلة والنبيلة.
والمسرح، مثل المسجد والمعبد هو بيت لمن لا بيت له، وهو صوت من لا صوت له، وهو مدرسة من من لا مدرسة له، وذلك ما يفسر أن تكون الاحتفالية قد أكدت على الإنسان والإنسانية، وأكدت على الحياة وعلى الحيوية وعلى للمدينة والمدنية، والتي هي ضد الوحشية، وضد قانون الغاب، وهذا المسرح الفن وهذه الاحتفالية الفكر يمكن أن يكونا مسرح اليوم والغد وما بعد الغد. وأن يكونا فلسفة العيد والتعييد في كل زمان ومكان.
من أجل أن نلتقي، فالمسرح هو شعيرة و طقس مثله مثل الطقس الديني، فلا يمكن ولا يعقل أن تصلي مع الهاتف النقال، أو أن تصلي مع التلفزيون، فالصلاة تستوجب الحضور الآن هنا… تستوجب هذه الحالة الشعورية والوجدانية، لذلك فالمسرح له هذه الخاصية الخطيرة جدا التي لا يمكننا شرك فيها أي صيغة تواصلية.
طموح الاحتفالي وطموح الاحتفالية
الرهان الاحتفالي. ومنذ البدء، كان رهانا كبيرا وخطيرا، وكان طموحه بلا حدود، ولقد تبنت هذه الاحتفالية مشروعا نهضويا موسعا، سواء في الفكر أو في الفن أو في الحياة اليومية، وأكدت دائما على مقولة (الخير أمام) وأن الآتي الذي سوف يأتي هو الأجمل وهو الأفضل وهو الأنبل، وعلى أنه (ليس في الإمكان أحسن ولا أجمل ولا أصدق مما سوف يكون).
ولقد اقتنع المفكر الاحتفالي، داخل هذه المخاطرة الاحتفالية، بأن الأمر لا يتعلق بنزهة سريعة في حديقة جميلة، في صبيحة يوم جميل، في فصل ربيعي جميل، وبان الأمر يتعلق بـ (غابة) مخيفة ومرعبة كما أسلفت، من يدخلها مفقود، ومن يخرج منها مولود، وهذه الغابة هي غابة الأفكار الجديدة وغابة المعاني، وهذه الأفكار الجديدة والسعيدة والعنيدة، هي التي صنعت ماضي وحاضر ومستقبل هذه الحركة الاحتفالية في التاريخ وفي الجغرافيا.
وبخصوص هذه الغابة الفكرية والجمالية والأخلاقية، والتي اختارها الاحتفالي واختارته، وهي بالتأكيد غابة الإشارات والعلامات، وهي غابة الاختيارات والرهانات، وهي غابة الأسئلة والتساؤلات، وهي غابة المواجهات والصراعات، وهي غابة الشك واليقين، وهي غابة النحت في الصخر، بحثا عن قيم إنسانية جملة ونبيلة.
وهذه الاحتفالية ليست مجرد مسرحية، يمكن أن تراها اليوم وتنساها غدا، لأنها الحياة – حياتنا، وهي الوجود – وجودنا، وقبل أن تكون تقنيات وآليات ومنهجيات، فهي اختيارات وجودية قبل كل شيء، وحقيقتها الكامنة فبها هي أساسا أهدافها الأساسية، والتي هي روحها وجوهرها وهي خليتها الأولية، ونمن واجبنا أن نعترف أمامكم وأمام التاريخ بان هذه الأهداف لم تكن في يوم من الأيام أهدافا متواضعة، والتواضع الكاذب لا يليق بالنفوس الكبرى ولا بالأرواح الكبرى ولا بالحالمين المجانين، ولعل هذا هو ما عبر عنه الاحتفالي عندما قال (طموح الاحتفالية كان وما يزال، وسوف يبقى، طموحا بلا حدود، ولولا هذا الطموح المشروع ما كان لها وجود في الوجود، وهو طموح أكبر وأخطر من تقديم نصوص مسرحية، ومن إقامة لقاءات فنية محدودة في الزمان والمكان، لأن الأساس هو إيجاد مجتمع عربي أخر، مجتمع إنساني ومدني يكون أكثر حقيقة، ويكون أكثر حيوية، ويكون أكثر صدقا ومصداقية، ويكون أكثر حرية وتحررا، وأن يكون الإنسان فيه مواطنا حقيقيا، وأن يكون فاعلا في المسرح وبالمسرح، ومتفاعلا فيه، وأن يحرر بهذا الفن المجتمع، وأن يتحرر به وفيه أيضا، وأن يعيش بهذا المسرح حياة أكثر حياة وأكثر حيوية وأكثر جمالا وأكثر نظاما وأكثر إقناعا، وأكثر امتاعا، وأن يعيش التحرر الحقيقي من كل القيود المادية والمعنوية، وأن يتحرر من كل الزوائد الدودية والمرضية، وأن يتحرر من كل الأوهام ومن المعتقدات الخرافية والأسطورية، والتي يمكن أن تكبله، وأن تربطه إلى الأرض، وأن تشده إلى الماضي، بدل أن تدعه ينفتح على الحاضر والمستقبل، كما تهدف هذه الاحتفالية أيضا إلى إيجاد مدينة أخرى فاضلة، يعيش فيها الإنسان مع الإنسان، وتتعايس فيها كل الكائنات والمخلوقات، وتكون هذه المدينة بعيدة جدا عن (ثقافة) الغاب، وعن شريعة الغاب، وأن تكون ممتدة بأغصانها الفكرية والجمالية نحو السماء العالية، وأن تكون ضاربة بجذورها الروحية والوجدانية في عمق الأرض، مدينة حقيقية يتعايش فيها الإنسان مع النبات، وتختفي فيها الغابات الإسمنتية القاتلة).
خاتمة الكلام
وفي ختام هذا النفس الجديد، من هذه الكتابة الجديدة والمجددة، وفي مجال تعريفه بهذا الفكر والمبدع الاحتفالي المؤسس والمشرع والمهندس. لابد أن نقف لحظة عند شهادة فنان وناقد ومؤرخ للفعل المسرحي بالمغرب. والذي هو الدكتور نذير عبد اللطيف.وهو في تقديمه لكناب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة- الكتاب الثاني) نجده يقول ما يلي (إن عبد الكريم برشيد بعوالمه المفتوحة على الإبداع والنقد والتنظير بكون من المسرحيين العرب القلائل الذين شيدوا للأجيال المستقبلية خريطة الطريق لأبي الفنون، بتنظير وممارسة، بعلم ومعرفة، وحكمة وتبصر، سلاحه في ذلك خلخلة كل مالوف، والبحث داخل كل الأنساق الثابتة والجامعة عن حركية متحركة، يمتح منها دفء الوجود، ليتجدد في أمكنته المحتملة وأزمنته الممكنة.و داخل سياق تفاعلي، يراعي شروط الغرض والطلب ويتناسب وطموح الجامع – حد الغواية، ليصبح هذا العالم قرية مسرحية بامتياز).
Visited 66 times, 1 visit(s) today