مفارقات اجتماعية وأعطاب نفسية في رواية “أكدالوكس” للمغربي يوسف توفيق

مفارقات اجتماعية وأعطاب نفسية في رواية “أكدالوكس” للمغربي يوسف توفيق

أحمد الكبيري 

       سأبدأ قراءة “أكدالوكس” الرواية الأولى للكاتب والروائي المغربي يوسف توفيق، الصادرة في السنة الماضية 2023، عن دار أكورا للنشر والتوزيع، من نهايتها. تلك النهاية المفاجئة والملتبسة، التي لم تكن من وجهة نظري المتواضعة، إلا محاولة من الكاتب نفض يده بسرعة شديدة من أي مسؤولية تقريرية، فيما اقترفته يداه سرديا وتخييليا، من فظائع تشريحية للمجتمع بجميع فئاته وطبقاته، والفساد العظيم الذي ينخر الإدارة والمجتمع وتعرية لواقع الناس الحقيقي وكشف مستورهم، وذلك بتقديم تبريرات وتفسيرات بعيدة عن المنطق والواقع. النهاية جاءت كشهادة متأخرة يدفع بها شاهد زور إلى حاكم ماكر، بين يديه الملف بكل معطياته وحججه وجاهز للمداولة، ويعرف جيدا أن ما يقال له قد يكون حقا، لكنه حق يراد به باطل، لهذا سيكتفي بالاستماع للشهادة فقط، قبل أن يلقي بها جانبا ويدخل الملف للمداولة والنطق بالحكم. لقد جاءت النهاية فعلا كمحاولة لإتلاف معالم كل الجرائم السردية السالفة الحكي لإيهام القارئ، بأن ما جاء في الرواية ما هو إلا هذيان وبوح واستيهامات لرجل مريض نفسيا يخضع لجلسات علاج ودراسة، لا يفقه ولا يدري ما يفعل وما يقول. هذا المريض هو كمال جبرون، السارد والشخصية المحورية التي بنى عليها الكاتب جميع عناصر روايته، وجل أحداثها ووقائعها ووظف من خلالها ما استطاع إليه سبيلا من تقنيات البناء والحبكة والتشويق. ليقول لنا في النهاية: “ما بني على باطل فهو باطل”.

    سأحاول في هذه الورقة تحليل الكيفية التي اشتغل بها الكاتب فنيا على فكرة روايته ليبني خطابا مقنعا تتجلى فيه همومه ومواقفه ورؤاه. وإلى أي حد استطاع أن يوفق في ذلك؟ وما هي الهنات والاختلالات التي قد يكون فاته الانتباه إليها؟  فكتابة الرواية دائما هي كتابة ناقصة ومحفوفة بمخاطر الانزلاق والانزياح. يقول غابرييل غارسيا ماركيز:” إننا لا ننهي كتابة رواية وإنما نتخلص منها”. لهذا سأركز في هذه القراءة التفاعلية التقديمية، على عنصرين أساسيين، بدا لي أنهما مهمان جدا في تشكل هذه الرواية ونمو سرديتها وتشابك وتعالق أحداثها، وهما: شخصية السارد، والفضاءات التي دارت فيها وقائع الرواية وقصصها.

أولا: الشخصية المحورية في الرواية أو شخصية كمال جبرون

    أعجبني أن الرواية لم تقدم لنا هذه الشخصية دفعة واحدة كبورتريه جاهز بملامح الشخصية البدنية والجمالية ومركزها الاجتماعي ومشاكلها وعقدها النفسية، بل جعلنا الكاتب بإشارات ذكية نكتشفها بالتدريج من خلال سيرورة الحكي، ومن خلال بعض المواقف ومن بعض الحوارات، ومن أحاديث الآخرين عنها، مما يجعل القارئ في حالة تشويق وحب استطلاع ومعرفة دائم، ولا يكف، من البداية إلى النهاية، عن طرح السؤال بينه وبين نفسه عمن يكون هذا السارد ولماذا يتصرف على هذا النحو أو ذاك. ليكتشف في النهاية، بأنه أمام شخصية مركبة متناقضة ومعقدة، من قرية صغيرة بشمال المغرب اسمها زايو، حيث ازداد وقضى ربع قرن من الحياة الرتيبة والمملة هنالك:” تمر الأعوام وأنت تكرر الأفعال نفسها، في كل يوم تصحو في نفس الوقت، وتشرب قهوتك في نفس المقهى، وتلتقي نفس الأشخاص، وتعيد نفس القصص” ص 35.

    السارد رجل في الثلاثين من العمر على قدر كبير من الوسامة، “بدوت وسيما وأنا أتملى في صورتي مضببة على صفحة المرآة” ص142. لكنه مع ذلك يعاني الكبت والحرمان، وشخصيته ضعيفة مهزوزة. من حيث الخطاب يظهر كمثقف يحلل الأمور بوعي نقدي كبير إن لم نقل ثوري، لكنه في الآن نفسه لا يعرف كيف يقلب الطاولة ولا حتى كيف يقول كلمة لا، حتى لحارس عمارة معدم.” ظهري يكاد يتقوس من أثر سنوات الكبت العجاف والروبيو الغبي يقول إنها متزوجة” ص121.  ” أنا رجل مسالم غلبان زاده الخيال والكلام العابر في الحكايات العابرة “ص92. اختار لأسباب خاصة، أن يسكن بحي أكدال الراقي في الرباط، بعد أن اشتغل كموظف بخلية الطوارئ بالمديرية العامة لإدارة السجون، وبالضبط في أخطر شعبة هي شعبة الفرار. ص35.

    رجل قارئ، حاول في بداياته كتابة الشعر، وأصبح يحلم أن يكتب رواية،” تعتريني رغبة جامحة في كتابة رواية عن العمارة، بطلها الروبيو وتكون أحداثها عبارة عن جرائم متتالية يرتكبها قاتل متسلسل.  و” لذلك تحديدا اخترت العيش في أكدال، فقصصه لا تنتهي”.

   رجل أعزب بلا علاقة حب حقيقية مع امرأة كمشروع زواج، حشري بامتياز، لا يعيش حياته الخاصة إلا في خياله ومن خلال تتبع عورات الناس ومراقبة حياتهم. بل ويتلذذ بمتابعة أخبارهم ومصائرهم عن طريق الاستخبار والفيسبوك و”نميمة نشيطة” كما يسميها عبد القادر الشاوي، مع حارس العمارة الروبيو.

   وفي الأخير، أي في تلك النهاية العجيبة التي ختم بها الكاتب روايته، يظهر أنه رجل مريض نفسيا، بمرض يصطلح عليه اضطراب الهوية التفارقي، ويخضع للتحليل والدراسة كحالة مرضية استثنائية. “إننا أمام نوع نادر من المرض النفسي، يصطلح عليه في التصنيف الدولي للأمراض النفسية والعقلية باضطراب الهوية التفارقي” ص 194.

ثانيا: الفضاءات

    هنا يمكن أن نشير إلى ثلاث فضاءات أساسية ذات حمولات وأبعاد ودلالات من شأنها أن تشكل إطارا متكاملا لتقديم صورة واضحة عن واقع الحال في المغرب على مستويات شتى. وهي فضاء قرية زايو(المنشأ)، أكدال (السكن) إدارة السجون (العمل). يقول السارد في رواية “عشيقة برولد برشت” لجاك بيار أميت:

” ما يجري أمام أعيننا ليس إطلاقا ما يجري في القلوب”.

    ورواية أكدالوكس، من خلال فضاءاتها وتحرك شخوصها، لا تحاول فقط أن تقول لنا ما يجري في الواقع، بل أن تقول لنا بالضبط ما يجري في القلوب. فحقيقة القلوب ليست هي ما نراه بشكل سطحي في الواقع.

1- فضاء قرية زايو  

    لا تحيل الرواية على فضاء نشأة السارد كنسغ أول وامتداد طبيعي لجذوره ومنشئه وأهله وتربته وتعلمه وتكوينه، بنوع من الحنين والتذكر الجميل لزمن الطفولة البعيد الذي غالبا ما يستطيب الكتاب استرجاع ذكريات الطفولة بكثير من الحب والحنين والنوسطالجيا، بل يسترجعه السارد كهامش للسأم والملل والرتابة والفقر، في مقابل حي أكدال الغني بالعاصمة الرباط حيث “مش هتقدر تغمض عينيك” من كثرة قصصه وحكاياته التي لا تنتهي. “قريتي الصغيرة زايو التي ولدت فيها ونشأت قرابة ربع قرن، نموذج في الرتابة. مثال يحتذى في الملل” ص 35. ففي أكدال محلات ومتاجر لكل شيء، ملابس لماركات عالمية وعطور رفيعة ومطاعم ومكتبات وأكشاك تباع فيها الجرائد وحتى العوازل، بينما في زايو يقول السارد: “متاجرنا في قريتي لا تجد فيها إلا الزيت وقوالب السكر.” ص 38. وعندما يتحدث عن الرقص في إحدى الحانات اللاتينية بالهرهورة، بضواحي الرباط، رفقة جارته الفاسية يتذكر زايو فيقول:” من نشأ في زايو وعاش فيها قسما كبيرا من عمره، لا يمكن أن يتقن إلا رقصة الركادة” ص138.

   بحيث تصبح الإشارة إلى فضاء زايو، نوعا من التقابل المدهش والصادم بين عالمين، عالم الرفاهية والرواج والحياة الرغيدة وعالم الهامش والبؤس المتروك للنسيان، يقاوم نهاره بليله وليله بنهاره في رتابة قاتلة وفراغ سحيق. لدرجة أنه حين تقرر أن يذهب في مهمة إلى سجن أوطيطة بمدينة سيدي قاسم، تذكر زايو قائلا: “من عاش عمرا طويلا في قريتي الصغيرة هناك في المغرب العميق، لا يضيره أين يذهب بعد ذلك، إلى السجن أو إلى جهنم، الكل بعد ذلك يهون”. ص102.

   وربما يتم استرجاع زايو أيضا لتبرير سكن السارد في أكدال كنوع من التعويض النفسي غير الواعي، عن حياة الحرمان والملل السابقة في الريف، حتى ولو كان ذلك السكن على حساب نصف أجرته الشهرية. فعل يعتبره العقلاء سفها ما بعده سفه ويجوز الحجر بقوة القانون على صاحبه.

2 –  فضاء السكن، حي أكدال.

 لا تكتفي الرواية بتقديم حي أكدال كفضاء اختاره كمال جبرون، السارد، للسكن والإقامة والحياة فقط، لكن كمجال لبحث شبه أنتربولوجي وسوسيولوجي، يسلط فيه الكاتب من خلال السارد، الضوء على العديد من المظاهر والسلوكيات والتناقضات والطبقات الاجتماعية المقيمة أو المشتغلة فيه. وعن خبايا الحي وأسراره وتقديم تفاصيل كثيرة ودقيقة حوله بل والانتهاء إلى أحكام وخلاصات في غالب الأحيان لا تجانب الصواب. خلاصات إذا لم تشكل حقيقة بحثية قاطعة، فهي على الأقل تقدم واقعا من زاوية نظر وحقيقة سارد عليم، على بينة ودراية عميقة بما يرويه. بحيث سيخرج القارئ من الرواية بصورة واضحة عن مجال الحي وأزقته وشوارعه كتقسيم جغرافي وعمراني وحضاري داخل العاصمة الرباط. وكذلك سيطلع في سياقات حكائية مختلفة، على تفاصيل كثيرة مما يجري في الظاهر وما يعتمل في النفوس. “هناك قصة جديدة مع مطلع كل شمس، في كل عمارة، وفي كل شقة. في كل سرير، وكل وادي وعلى قمة كل جبل أو حتى في سفحه” ص35.

    وذلك من خلال المراقبة والتتبع والاحتكاك اليومي بشخصيات منتقاة بعناية لتمثيل الشرائح القاطنة والمتواجدة بالحي أو الوافدة عليه. أذكر على سبيل المثال، الطبيب والمهندس وحارس العمارة والرجل الطويل والخادمة والفاسية. وكما يقول آرنست هيمنواي:” الروائي إذا توقف عن المراقبة مات”. والسارد في أكدالوكس، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يطمح أن يكتب رواية، لذا يمكن اعتبار حشريته ونميمته النشيطة، ومراقبته وتتبعه لمصائر الناس وخفاياهم ليست حشرية مرضية فقط، ولكن يمكن تبريرها فنيا برغبة السارد، كمثقف وقارئ نهم، في جمع العديد من التفاصيل والقصص والحكايات كمادة خام لمشروع روايته التي يحلم بكتابتها مستقبلا.

3- فضاء إدارة السجون

    لن ينتهي القارئ من الرواية حتى تكون تشكلت لديه رؤية واضحة عن الفساد الإداري وواقع سجون المغرب، من خلال تسليط الضوء على ما يعتمل داخل هذه المؤسسة، التي يمكن اعتبارها نموذجا مصغرا لما يجري في مؤسسات كثيرة، والمجازفة بتعميم ما جاء فيها من فساد على باقي الإدارات المغربية الأخرى، كالزبونية والمحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ و ضغوط الإدارة ودسائس المتحكمين في خيوط لعبتها، ومشاكل الموظفين التي لا حصر لها.

    سيطلع القارئ بالخصوص، وبشكل دقيق وواضح ومن داخل فضاء السجون، على المعاناة الحقيقية لنزلائه، سواء تلك التي يعيشها السجناء فيما بينهم أو بينهم وبين الموظفين أو تلك المعاناة التي يعيشها الموظفون بين مطرقة واقع مكهرب وضاغط على الدوام، وسندان حياتهم الخاصة ومتطلباتها، ناهيك عن اعتقالهم غير المباشر لساعات طوال داخل المؤسسة إلى جانب سجناء خطرين، وضغوطات العمل والإدارة والفساد العظيم.

    تحكي الرواية قصصا وتفاصيل كثيرة عما يدور في الإدارة وداخل السجن وخارجه وكل ما يدور في فلكه، كمعاناة أهل وأقارب السجناء في زمن القفة، التي تم توقيف العمل بها منذ سنة 2017.

    إذا كان الكاتب على المستوى الموضوعاتي قد نجح في تقديم مجموعة من المعطيات والمعلومات والإشارات المهمة لقارئه المفترض، وفق فكرته وقناعاته ورؤاه، التي تنتصر بشجاعة إلى العدل والحرية والمساواة، فهل نجح كذلك كروائي في تحقيق المتعة الفنية والجمالية في بناء روايته وحبكتها والتحكم في عناصرها بما يجعل القارئ ينتقل مستمتعا بين صفحاتها ومتشوقا للمزيد؟.   

    أعتقد أن قارئ رواية أكدالوكس سيشعر بنفسه كحالم تائه في باص داخل مدينة جميلة، مستمتع لكنه لا يعرف أين يذهب الباص ولا أين ستكون محطته الأخيرة فيواصل الركوب حتى يفاجئه الجابي بضرورة النزول:” إننا في المحطة الأخيرة”.

    وذلك لأن الرواية بنيت على سيرة شخصية محورية (السارد)، استعملها الكاتب كأرجوحة وأردف فوقها  القارئ، وظل يطوح بها، منذ بداية الرواية إلى نهايتها، في اتجاهات شتى، تارة نحو مقر سكن السارد (حي أكدال) وتارة نحو فضاء عمله (إدارة السجون) وبشكل أقل يدفع بها لفضاء النشأة (زايو)، مستعملا تقنيات وحيلا سردية متعددة وذكية في هذه الانتقالات، كالقطع الزمني والفلاش باك والحوار والوصف المبطئ للسرد والسخرية واللعب على المفارقات والأضداد، والمونولوغ الداخلي،  مما جعل الحكي ينساب سلسا ومشوقا دون رتابة أو ملل، معتمدا أسلوبا حكائيا بسيطا مرتبطا في أساسه بواقع الناس ومستواهم وشخصياتهم ومكانتهم الاجتماعية وحالاتهم النفسية وقناعاتهم المبدئية والأخلاقية، مما سهل عليه تمرير انتقادات لاذعة وإشارات ذكية ومهمة  بشكل فني غير مباشر وفي كثير من الأحيان غير متوقعة. وسأكتفي للتدليل على ذلك بذكر إشارة واحدة فقط: في الصفحتين (128و 129) فالكاتب كي يطلعنا بشكل مفصل على واقع الفساد داخل السجون وكيف تسير الأمور داخلها، سيجعل السارد يتحدث في مونولوغ داخلي، يتخيل فيه نفسه يطلب من المدير الكبير، تعيينه مديرا على سجن في الضواحي، طبعا بمقابل، ثم يعرض عليه خطة محكمة وخارطة طريق مفصلة للاغتناء السريع. وهذه الخطة وتفاصيلها، ربما هي واقع الحال وما كان العمل جاريا به في زمن القفة.

 الخلاصة

    يمكن اعتبار رواية “أكدالوكس” من حيث تيماتها وفضاءاتها وزمنها، رواية مغربية خالصة، لولا بعض العبارات المصرية المسكوكة، كـ” مش هتقدر تغمض عينيك”. رواية تسلط الضوء على العديد من الظواهر والمفارقات الاجتماعية والإدارية والقانونية والأعطاب النفسية والقيمية، وقد وفق الكاتب فنيا وحبكة في جعلها رواية مشوقة وممتعة. مع تسجيل بعض الهنات البسيطة من حيث الضبط الزمني أحيانا بين زمن الحكاية وزمن الكتابة وبناء بعض الشخصيات.

Visited 41 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد الكبيري

روائي مغربي