الاحتفالية.. الدر المكنون في الآداب والفنون

الاحتفالية.. الدر المكنون في الآداب والفنون

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

       في مشروعه النقدي حول الاحتفالي والاحتفالية، وحول المسرح الاحتفالي، وفي آخر مقالة له تحمل عنوان (مسرح د. عبد الكريم برشيد) يتساءل د. بوعلي لغزيوي (ما السمات الأساسية التي جعلت مسرحيات عبد الكريم برشيد تأخذ أبعادا دلالية ومسرحية جديدة؟).

هو سؤال واحد، من بين مئات أو من بين آلاف الأسئلة التي طرحها الإبداع المسرحي الاحتفالي، والتي مازالت تنتظر الإجابة عنها. وهذا الاهتمام بالاحتفالية، فكرا وعلما ومسرحا. هو الذي جعل الدكتور. نذير عبد اللطيف يتتبع مسارها ومسيرتها. وإنجازاتها، ويعمل على توثيقها أولا. ومحاورتها ومجادلتها علميا بعد ذلك، تولقد وصلتني منه الرسالة القصيرة التالية:

(العزيز والصديق سيدي عبدالكريم، سلام الله عليكم

يسعدني أن أبعث لكم بجرد تاريخي بيبليوغرافي لكل ما قدمتموه من إبداع ونقد وحضور متميز في المشهد الثقافي والمسرحي.

للإشارة فقط، سأعمل بعد عملية الجمع والجرد تحليل المعطيات والوقوف عند أهم المحطات في تاريخكم المسرحي.

لك مني أزكى عبارات المحبة والتقدير./ أخوك ندير).

عن المسرحية التي رفضت أن تكون مسرحية

     ولعل أهم ما يميز هذه المسرحية الاحتفالية، والتي شغلت البلد والعباد على امتداد نصف قرن، هو أنها غير مدرسية. وأنها غير متقولبة في قالب ثابت. وأن منهجيتها في الكتابة هو اللامنهج، وهو العفوية والتلقائية، وهو الحيوية والشفافية، وهو الصدق والمصداقية، وهي في بنيتها وفي خطابها الفكري لا تكرر غيرها من المسرحيات. بل ولا تكرر حتى إبداعاتها السابقة، وهذا هو سر حياتها وهو سر حيويتها، وهو سر تجددها، وهو سر تمددها في الأماكن الجغرافية المتعددة وفي الأزمنة التاريخية المتتابعة.

    والأصل في هذه المسرحية الاحتفالية هو أنها تشبه الحياة في حيويتها، وتشبه الواقع في واقعيته، وتشبه السحر في عجائبيته، وتشبه التاريخ في مكره السيء والجميل معا، وبهذا فهي لبست نموذجا مسرحيا واحدا، حتى يمكن أن نصدر في حقها رأيا واحدا أو حكما واحدا، ولكنها حيوات مسرحية متعددة ومتنوعة ومتجددة ومتمددة في كل الجهات، وهي أعمار يتبع بعضها البعض. وهي شهادات ومشاهدات، وهي حالات ومقامات، وهي أجساد وأرواح تفيض حياة وحيوية،

    والأصل في هذه (المسرحية) الاحتفالية هو أنها ليست مسرحية، بالمعنى المدرسي، ولكنها مجرد اقتراح، أو مجرد وعد بأنها من الممكن أن تصبح مسرحية، ونعرف أن كل هذه الاقتراحات المسرحية، لدى الكتاب الاحتفاليين من أمثال رضوان احدادو ود. محمد فراح ود محمد الوادي والشاعر الغنائي محمد الباتولي والطيب الوزاني، وعند غيرهم كثير، وما يعرفه الجميع عن هذه الكتابة الإبداعية هو أنها لا تحمل في الغلاف اسم (نص مسرحي)، وكل كتابة مسرحية من هذه الكتابات تكتفي بأن تقدم نفسها للمخرجين وللقراء على أنها مجرد (احتفال مسرحي) فقط. وهي احتفال نعم، ليس باعتبار ما هو كائن في الكتابة. ولكن باعتبار ما يمكن أن يكون في الحفل المسرحي المقترح، والذي هو أساسا موعد، وهو حضور في الموعد. وهو فعل وفاعلية، وهو تفاعل وانفعال ، وهو أساسا لقاء في مكان محدد وفي زمن محدد، لإحياء لحظة احتفالية وعيدية متكاملة، لحظة يؤثثها الفن والأدب والفكر العلم والصناعات أيضا، والتي تؤثثها السينوغرافيا، حتى يكون للتلاقي الاحتفالي إطاره الجمالي الذي يشبهه. ويتم هذا التلاقي الاحتفالي في اليوم العيدي الجديد والمتجدد، والذي هو اليوم الثامن في الأسبوع، وهذا الاحتفال الاستثنائي، في يومه الاستثنائي، وفي لحظته العيدية الاستثنائية، لا يمكن أن يكون فعلا مرتجلا وابن لحظته وساعته، وهو فعل مركب ومرتب، يسبقه مخطط عام وشامل ومتكامل. فعل يقترحه كاتب لا يعرف تحديدا كيف سيصبح اقتراحه بعد القراءة وبعد التفسير وبعد التأويل وبعد ترجمة المكتوب إلى بنية جمالية وفكرية متكاملة ومتناغمة.

    وهذا الكاتب، باعتباره صاحب الدعوة الى هذا التلاقي الاحتفالي، هو من يقترح زمن الحفل، وهو من يقترح مكانه، وهو من يقترح فواعله. وهو من يقترح ضيوفه، وهو من يقترح موضوعه. وهو من يقترح مضمونه. ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يقول بأن الاحتفال المسرحي ليس هو ما يقترحه الكاتب والمخرج فقط. وليس هو ما يفهمه ويتفاعل معه الجمهور فقط. وليس هو ما قد يوحي به مكان الاحتفال أو مناخه أو طقسه العيدي والاحتفالي، ولكن هو تلك التركيبة الكيماوية والوجدانية السحرية، والتي تصنعها في صيغتها المؤقتة. كل هذه العناصر المتعددة والمتنووعة. ولعل هذا هو ما جعل د. بوعلي لغزيوي يقول (والمسرح في رأي عبد الكريم برشيد ليس شيئا تام الخلق. لأنه بالأساس مجرد تخطيط ومشروع، إنه ورش يقوم على أساس التجريب الميداني وعلى التطوع الإبداعي).

جماليات الكتابة الاحتفالية

    وبخصوص هذه الكتابة الإبداعية الاحتفالية، نتساءل، مرة اخرى مع د. بوعلي لغزيوي، ونقول معه:

— (مالذي يؤسس جماليات النص المسرحي الاحتفالي؟)

وهل في الأمر سر من الأسرار؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل نقول ما يلي:

قد يكون بهذا (النص المسرحي) سحر حلال، وقد يكون بهذا السحر غموض ممتع، جماليا ومقنع فكريا،

ونتساءل، مرة أخرئ. وهل هناك سحر بلا غموض وبلا عجائية وبلا غرائبية وبلا إدهاش؟

ولو أن هذه المسرحية الاحتفالية كانت خبرا في جريدة يومية. لقرئت في يومها وفهمت في حينها. ولانتهت إلى النسيان، وهذا ما لم يحدث مع المسرحية، ويمكن أن نشيخ نحن ولا تشيخ هي، وأن تظل محافظة على جدتها وحيوتها وراهنيتها.

    وفي إجابته على هذا التساؤل يقول د. بوعلي لغزيوي (لأن المسرح عند عبد الكريم برشيد مفتوح بلا ستائر ولا دقات تقليدية، كل شيء يركب أمام الجمهور وبمشاركته، من هنا حاول برشيد أن يجدد علاقة الشخصية بالزمن).

    وليس علاقة هذه الشخصية بالزمن فقط. ولكن بالمكان أيضا. وبالآخر كذلك، سواء أكان هذا الآخر ممثلا على الخشبة، أو كان ضيفا مشاركا في الصالة. وعلاقته بالمناخ المسرحي كذلك، وبالإيقاع الاحتفالي. وبزواج اليقظة والمنام وبتكامل الواقع والأحلام وأيضا بالحس الجماعي الذي تخلقه المسرحية الاحتفالية في مختلف أعمارها وفي تعدد قراءاتها.

شاهد على العصر اسمه الكتاب المسرحي

    والكتابة الاحتفالية هي شهادة شاهد من أهل وأحباب وعشاق هذه الحياة، والاحتفالي الكاتب يكتب كما يتنفس، ولهذا فقد أعطى (فقرات) كتابته الحيوية اسم أنفاس، وخبا في هذه الأنفاس لحظات حية من وجوده ومن وجود أفكاره ومن حياته اليومية، وبخصوص طبيعة هذه الكتابة يقول الاحتفالي في مقدمة كتاب (الاحتفالي مسافر وجهته السحاب) ما يلي:

    (في هذا الكتاب إذن، تماما كما في كل كتبي السابقة، أجد نفسي ملتزما بروح الكتابة الاحتفالية، أي بروح الخفي قبل رسمها الظاهر، وهذه الكتابة الروح، هي أساسا كتابة حيوية شفافة، وإنني في هذه المخاطرة الجديدة لا أمارس إلا الكتابة الحرة والمتحررة والمحرضة على الحرية، ولمن يسأل عن جنس هذه الكتابة فإنني أقول له ما يلي، إن ما أكتبه الآن هنا لا يمكن تصنيفه في أي صنف، ولا يمكن قولبته في أي قالب، ولا يمكن رسمه في أية جهة من الجهات، وهو أكبر وأخطر وأبلغ من كل اللغات، وهو عندي وعند نفسه أيضا، كتابة فقط، فيها بوح ومكاشفة، وفيها إقرار واعتراف، وفيها وقوف أمام مرآة الذات وأمام مرآة الحياة، وأمام مرآة التاريخ. وفيها حوار ومناجاة أيضا، وفيها مشاهدات وتوقعات ونبوءات واعترافات واختيارات، وفيها إحساس بالفرحة مرة، وفيها شعور بالخيبة مرات ومرات، وفيها انتصار وانكسارات، وفيها مواقف واختيارات، وفيها شيء قليل من اليقين، وفيها أشياء كثيرة من الشك ومن الدهشة ومن الحيرة ومن التيه، وفيها أسئلة ومسائل وتساؤلات، بعدد لا يعد ولا يحصى، وفيها أحلام مؤثثة بالصور وبالمشاهد وبالحالات والمقامات وبالحروف وبالكلمات وبالعبارات وبالإشارات وبالصمت وبالفراغات وبالبياضات الكثيرة جدا.

    وهذا الكاتب الاحتفالي لا يكتب لقارئ محدد، له وجود في مكان محدد ومحدود وفي زمن محدد، وقد يكون لقارئه الحقيقي وجود ،الآن هنا، أو قد لا يكون. وهل كان الكتاب الكبار، في الأزمان الأخرى، وفي الجغرافيات الأخرى، يعرفوننا، ويعرفون أسئلتنا ومسائلنا؟

    لقد كانت وجهتهم الجمال، وهذا الجمال موجود في كل مكان وزمان، وكانت وجهتهم الحقيقة. وهذه الحقيقية موجودة في كل الأزمنة والأمكنة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي بأن الحقيقة لا تشيخ. وبأن الأسئلة الصادقة والحقيقية لا تبطل ولا تسقط بالتقادم. وكثير من الأسئلة التي طرحتها الاحتفالية لم يتمكن المسرح المغربي والعربي، ولحد هذا اليوم، من الإجابة عليها. والتي استعان عليها اليوم بالصمت أو بالتشكيك أو باللامبالاة، ويبقى أن نشير إلى أن أخطر كل الأسئلة هو السؤال التالي:

ما طبيعة الاختلاف مع هذه الاحتفالية؟

وهل هو اختلاف فكري فلسفي أم هو اختلاف تقني أو منهجي؟ — أم هو مجرد اختلاف لغوي يتعلق بقاموس هذه الاحتفالية. والتي أوجدت مصطلحات جديدة غير موجودة في قواميس المسرح المعتمدة؟

وقد يكون هذا الخلاف الاختلاف اختلافا في الشكل فقط. أو يكون اختلافا في المضمون؟

    في السبعينات من القرن الماضي، ظهر هذا الخلاف – الاختلاف وهو في زي وفي قناع الإيديولوجيا، وكان عنوانه الأبرز هو الرفض،وذلك بحجة أن هذا المسرح الاحتفالي لا يستجيب لتطلعات الجماهير الشعبية، وأنه بهذا لا يخاصم ولا يقاوم ولا يحرض ولا يتهم، وهو لا يرفع شعارات المرحلة، ولا يخاصم بعض الأفراد وبعض الجهات، وأنه أيضا. لا يجيب على أسئلة المرحلة التاريخية، والتي كانت مرحلة سياسية وايديولجية بامتياز، ومن الممكن جدا أن يكون هذا الخلاف – الاختلاف شكليا ومدرسيا، وأن يكون المشكل قائمت في كون ان هذا المسرح الاحتفالي لم يلتزم بعمود المسرح العالمي. وأنه قد جدد في (الثوابت) المقدسة للمسرح العالمي، وبهذا يكون هذا الاختلاف مجرد اختلاف تقني، له علاقة ببنية المسرحية الاحتفالية، والتي لم تلتزم بلزوميات المسرحية الغربية – الأوربية، المتوارثة عن المسرح اليوناني القديم. وبهذا تكون كل الثورة التي قام بها المسرح الاحتفالي هي مجرد انحراف ومجرد تحريف. ومجرد عصيان مسرحي.

شعرية الحياة أولا وشعرية الإبداع ثانيا

    وهذه الحياة. كما يراها ويحياها الاحتفالي، في اليومي وفي ما وراء اليومي، هي أساسا قصيدة شعر. فيها صور وألوان وخيال وجمال، وبها إبداع إيقاعات نفسية ووجدانية وروحية، وبها ميزان موسيقى خال من النشاز، ويوم يختل هذا الميزان، في الحياة ولدى الأحياء. يختل نظام هذا الكون، وينتهي كل شيء فيه، ينتهي النظام، وينتهي التناغم والتفاهم، والأصل في شعرية هذه الحياة، هو أنها كتابة بالأجساد وبالنفوس وبالأرواح، وبهذا فقد كانت أكبر وأخطر وأهم من شعرية الأبيات الشعرية المكتوبة على الأوراق والتي هي مجرد حروف وكلمات وعبارات مرسومة.

    وفي مسرح هذه الحياة. وفي حياة مسرحها، فإن التمثل الحيوي والتلقائي هو أصدق وأبلغ من التمثيل الكاذب، ومن لا يمكن أن بتمثل هذه الحياة، وأن يتمثل الأحياء فيها. فإنه لايمكن أن يكون ممثلا حقيقيا، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أن يكون صوتا واحدا في جوقة مسرحية واحدة متعددة الأصوات، والفرق بين التمثل والتمثيل. هو أن التمثل فعل وفاعلية. وأن التمثيل هو مجرد انفعال وافتعال كاذب.

    وكل شيء وكل فعل أو كلام أو انفعال، إلا وله حدوده وله ضوابطه، وله وزنه وميزانه. وبغير هذا فإنه يصبح فعلا مختلا ويكون مضرا، وكل شيء نتناوله بجرعة زائدة، فانه لا يمكن يفيد في شيء، ولا يمكن أن يكون له معنى الجديد ومعنى التجديد، وقد تكون له نتائج عكسية في أغلب الحالات، وعليه، فإن الفرح بجرعة زائدة يمكن أن يقتل، وكل شيء يزيد عن حده يصبح في النهاية ضد ذاته. وقديما قال العرب الزيادة في الشيء نقصان، وأن التجريب المسرحي. بجرعة زائدة أيضا، ويمكن أن يقتل أيضا.

    والاحتفالية تكره الكذب، وإلا في الفن والإبداع الجمالي، والذي قد يصل بالخيال والمتخيل إلى أعلى الدرجات، ولعل أسوأ كل انواع الكذب، هو أن يكذب الإنسان على نفسه. وأن يصدق نفسه، وفي التجريب المسرحي العربي، يوجد هذا الكاذب الذي يكذب على نفسه ويصدق نفسه، والذي قد يروج للقديم على أنه جديد.

    ويؤمن الاحتفالي بأنه لا عنصرية في الفن، وبانه لا شعوببة في الفكر، وبأنه لا رهبانية في المسرح، وبأنه لا تراتبية إدارية أو حزبية أو عسكرية في صفوفه، والمسرح عالم واحد، يستظل بظله الجميع.

    وهذا الاختلاف – الخلاف مع الاحتفالية لم يزدها إلا انتشارا واشعاعا، ولعل هذا هو ما جعل د. نذير عبد اللطيف يقول (لقد أصبح المشروع الاحتفالي – اليوم – إطارا فنيا كبيرا ومرجعا مسرحيا موسعا، بعدما تبنته تجارب مسرحية متعددة من جل اقطارنا العربية، واستطاع أن يستقطب روادا جددا (مخرجين ومؤلفين ونقادا وجمهورا..) بفعل تفاعل كل هؤلاء مع مسرحيات عبد الكريم برشيد وربطها بما يقدم من بيانات نظيرية تؤسس لفعل متجدد فكر يا ومرجعية واضحة تستجيب لخصوصياتنا الذاتية وتنفتح على الآخر دون أدنى إحساس بالنقص، داخل سياقات تواصليية متفاعلة).

    وفي مجال آخر يقول الفنان حسن هنون، و الذي هو أحد رفاق المرحوم المسرحي الكبير عبد القادر اعبابو في مدينة أكادير. وذلك في أحد تعليقاته الذكية على الكتابات الاحتفالية الجديدة ما يلي (حينما تقرأ أو تشاهد نفسا مسرحيا يحتفي بإنسانية الإنسان، و يزيل شوائب الفلكرة الزائفة عن الاحتفال، و ينفذ لعمق وجدان وفكر الإنسان، باسطا على الركح كل تناقضاته الكائنة، وأحلامه الممكنة، فاعلم أن وراء ذلك، الشامخ والكبير الدكتور عبد الكريم برشيدحفظك الله مبدعنا العزيز، ومفخرة كل العرب، ومتعك بموفور الصحة والعافية).

مغارة الإبداع وكلمة السر

    ومغارة علي بابا كانت تنفتح له عندما ينطق كلمة السر. وأمام كل الأبواب المغلقة، في الكتابة المسرحية، نحتاج اليوم وغدا إلى مفتاح أو إلى مفاتيح متعددة. والكتابة الاحتفالية لها أبوابها ولها نوافذها ولها شرفانها، والتي تطل منها على الحياة وعلى العالم وعلى الفن وعلى الواقع وعلى الحكاية وعلى الخرافة وعلى الأسطورة وعلى التاريخ وعلى الحلم وعلى الحاضر وعلى الغيب وعلى اليومي وعلى ما وراء اليومي وعلى الطبيعة، وعلى ما وراء الطبيعة.

    وفي هذا النص المسرحي الاحتفالي جمال لا يمكن أن تخطئه العين. ولا يمكن أن تخطئه الأرواح والنفوس والقلوب الجميلة. ومن طبيعة القلب الجميل أن يعشق كل شيء جميل. سواء في اللغة أو في الخيال أو في العلاقة الموجودة بين كل عناصر الكلمات والعبارات والصور والمشاهدات.

    وفي هذه الكتابة الجديدة إذن، تماما كما في كل كتاباتي السابقة، فإنني أجد نفسي ملتزما بروح الكتابة الاحتفالية، أي بروحها الخفي قبل رسمها الظاهر، ولمضمونها الفكري والفلسفي قبل كل شيء.

    وكما سبف قلت من قبل، وكما كتبت في كل بياناتي الاحتفالية، فإنني لا أحرص سوى على أن أعبر بصدق، وعلى أن أكون المواطن الحر، وعلى أن أمارس التعبير الحر في الوطن الحر، وفي هذه الكتابة أستعيد زمني الضائع، وأعيد اكتشاف ذاتي الجديدة والمجددة والمتجددة. وأعيد اكتشاف الوجود والموجودات، وأعيد اكتشاف الحياة والأحياء وروح الحياة.

    وهذا الاختلاف مع الاحتفالية والاحتفاليين، والذي هو اختلاف منطقي وطبيعي وعادى جدا، والذي أكدنا دائما على أنه كان من الممكن أن يتم تدبيره، عقليا وعلميا وحضاريا، بشكل هادئ ورصين، وألا يصل إلى ما وصل إليه. وأن يتحول إلى حرب شرسة على الاحتفالية، أدبا وفنا وفكرا وعلما، وعلى الاحتفاليين أيضا،. وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي الكاتب، في مقدمة احتفالية (عبد السميع يعود غدا) والتي هي الجزء الثاني من ثلاثية مسرحية هي (اسمع يا عبد السميع)، و(عبد السميع يعود غدا)، و(النمرود في هوليود)، ولقد صدرت احتفالية (عبد السميع يعود غدا) بمدينة ابركان عن مطبعة تريفة سنة 2010، وفي ذلك التقديم يقول الكاتب الاحتفالي ما يلي (وفي جبهات هذه الكتابة، خضت حروبا دنكشوتية كثيرة، وقد خضتها دفاعا عن أفكار ومبادئ وقيم أبدية، وليس دفاعا عن مصالح أو مكاسب أو غنائم مادية عابرة. ولم يكن معي في تلك المعارك غير هذا القلم العاشق والمشاكس والمشاغب، وإذا كنت مازلت على قيد الحياة الإبداعية والفكرية، فما ذلك إلا بفضل هذا القلم، وهذا – طبعا- بعد فضل الله علي وعلى كل الذين يدافعون عن الحق والحقيقة، والذين يدافعون عن الجمال والاكتمال، ويدافعون عن الحرية والكرامة، واليوم، وقد تغيرت بعض الخرائط القديمة، وهدات كثير من النفوس الهائجة والمائجة بلا معنى، فإنني لا أريد من هذا القلم الوفي، سوى أن يكون رسولي إليكم، تماما كما كان دائما، فهل يمكن أن تقبلوه، وأن ترجبوا به، وأن تحاولوا فهم شطحاته الغريبة والعجيبة؟).

    أقول هذا ولا أزيد. وأدعوكم فقط أن لا تنسوا هذه الحقيقة البسيطة. والتي هي أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، ويجوز للفنان الصاق ما لا يجوز لغيره.

Visited 21 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي