غاستون باشلار: طائر العنقاء (الحلقة 1)

غاستون باشلار: طائر العنقاء (الحلقة 1)

ترجمة:  سعيد بوخليط

       ”تتجاوز اللَّفظة كل كائن بل تتجاوز نفسها. ترتجف رعبا، ثم تحلِّق،

لا يمكننا قط في كثير من الأحيان بلوغها بعد انطلاقتها”

(بيير جان جوف، أعمال نثرية، 1960، ص 14).

        قد تكون صورة طائر العنقاء- صورة مهووسة- بسيطة ومختصرة بالنسبة لمبحث الأساطير، لكنها تتيح المجال لموضوعة عندما نتحوَّل إلى مجال ظاهراتية الخيال؟ إنّه الإشكال الذي تردَّدنا غالبا بخصوصه.

    قصد دراسة فعل الخيال المبدع، سيكون حتما، مناسبا أكثر التوجُّه إلى صور دون ماض، صور تنبثق من رؤانا الحالمة الخاصة، بقدر ماتوجب على الظاهراتي تلك الطموحات صوب اختبار من هذا القبيل للصور، أن يتمثَّل داخل ذاته مرة أخرى الظواهر النفسية التي يتوخَّى توضيحها.

    لذلك، إذا أمكن البرهنة على أنَّ صورة مذهلة تتجلَّى عادة حينما نتَّبع محور رؤى حالمة، وإظهار بأنَّ صورة طائر العنقاء تحيا داخل اللغة دون عناء، ثم إمكانية استحضار أمثلة دقيقة نرى معها طائر العنقاء أو الفنقس يحتفظ على وجود شعري، يتناوله أو يكتشفه – انتصار لغة متسامية- سنكون حينها بصدد حالة صعبة، ميئوس منها، تقدم دليلا على أنَّ الظاهراتية تسمح لنا كي نلامس أيضا مع صور التقليد، بداية جديدة.

    بداية، من اللافت للنظر، أنَّ الاستثنائي مع الصورة القديمة، شكَّل قاعدة. هكذا، يجد الخيال، ميزة كائن مدهش. أيضا، طائر العنقاء كائن خرافة ثنائية: يحترق بنيرانه الذاتية؛ ثم ينبثق مرة أخرى من رماده. يلزمني السعي صوب اختبار هذه المعجزة الثنائية، أنا من يعتقد أكثر بخصوص ما أتخيَّله. مادام إيماني بطائر العنقاء قائما، فيلزمني الإيمان بذلك قليلا بغية اكتشافه مثلما تمَّت معرفته.

    باعتباري ظاهراتيا، يقتضي ذلك الاعتقاد بصورة مذهلة دون وصلها بالسذاجة. يساعدنا الشعراء، من خلال تغيُّرات دقيقة للصور، كي نضفي حياة على الطائر الأسطوري. تحديدا عبر الامتثال إلى الكائن الشعري للصورة يمكن تحقيق الانصهار بين الحماس ثم الحذر. هكذا، يصبح الإعجاب بديلا عن الاعتقاد، بحيث لايتجه  التصور نحو كائن حقيقي، بل كائن لغوي، سخاء اللغة، ثم كائن شعري. بالتالي، انتقلنا مع طائر العنقاء المتخيَّل بواسطة الشاعر، صوب محض سيادة للشعري.

    يلزم التدليل على أنَّ صورة العنقاء، أساسا صورة أضحت لفظة، تبعث مجازات عدَّة. بوسع الفنان التشكيلي فعلا، مثلما يصنع ألبرتو مارتيني، منح لوحته التي تصور طائر العنقاء ملتهبا في عشِّ ناره، عنوان”الحب”. ينطوي العنوان على معطيات كثيرة بالنسبة لطائر يحترق. تعبِّر مجازات الرسَّامين بشكل سريع جدا عن أفكار انتقالية. يساعدنا الشعراء كي نتخيَّل بامتياز.

    تأخذ الوظيفة المتخيَّلة جلَّ امتدادها بواسطة الكلام. يتحتَّم  الإخبار عن صورة مذهلة والحديث بخصوصها مرة أخرى. يقتضي بهذا الخصوص كل قول جديد الانطواء على سمة مغايرة. الصورة المرئية لحظية. الخرافة الحقيقية، تتكلَّم، ولاتتلى، تصرخ في إطار حقيقة الحماس وليس الإنشاد. باختصار، تنتمي الوظيفة الخيالية إلى نفوذ الشعري، تتجاوز الصور التي تحققت.

    ينفجر طائر العنقاء لدى الشعراء عبر أقوال ملتهِبة وملهِبة. إنَّه يكمن في عمق حقل مجازات لامتناهية. يستحيل بالنسبة لصورة من هذا النوع أن تترك الخيال هادئا. لا تتوقف أبدا عن الانبثاق ثانية من تعابيره العتيقة، وتزعزع باستمرار الظاهراتي الكسول.

    لو كنتُ مختصَّا نفسيا مستقصيا، وامتلكتُ حظَّ لقاء نفسيات متعدِّدة كي أحاورها بغتة، سأنزع نحو تهيئ، مثلما يقول أهل التجارب، بطارية اختبارات للخيال. سيكون أحد اختبارات خيال النار، هجوما بالكلمات، من خلال هذا التقارب بين كلمتين: طائر النار. لا أحد يحتاج إلى أسئلة مفهومية. من غير المجدي إضافة: إنَّك توحي بهذا التعبير؟ ترتجُّ اللفظة كلما تجابهت كلمتان كبيرتان. بالتالي، فالحديث غير مشروط يتحرَّر من عادات تتمِّم جملا، لكن دون الاستمتاع حقا باندفاعات أن تتكلَّم.

    يقتضي الوضع من اختبار الخيال أن يكون محرِّرا. هنا يكمن تحرير صعب التحقُّق مادامت لغة الدلالة في تزايد جراء كل تواصل. نسائل ”المعنى” حتى عندما نستسيغ تقبُّل دلالات غير متجانسة، بل متحمِّسة لفوضى الأجوبة. يدرك حقا المحلِّلون النفسانيون التأثير الذي يمكن أن تعرفه كلمة داخل أعماق النفسية. يوظفون هذه الصدمة الإجرائية قصد إماطة اللثام عن ذكريات مكبوتة. لكن طموح فاحصي الخيال يبدو أكبر، حتما مفرط في الكبر (ماجدوى الطموح إذا لم يكن  أكثر مما ينبغي؟): ينبغي على اختبار الخيال التأثير وجهة الأمام، وليس نحو الوراء؛ ورصده القوى المتخيِّلة، التي تتخيَّل باستفاضة، نفسيات تؤمن بجمال – إذن واقعية- طيور النار. وحده الخيال يعلِّم اللغة كيفية تجاوز ذاتها.

    تتآلف حقائق عدَّة، عند نواة هاتين الكلمتين اللتين تستمدان قيمتهما نتيجة وحدتهما حيث يولد طائر النار: شعلة محلِّقة، جناح وميض يعبر السماء السوداء خلال ليلة عاصفة، بعض الطيور ذات الألوان المزركشة، تسطع في سماء صيفية.

    غير أنَّ مختلف هذه الصور التي أرغب في اختبارها قبل النظر إلى صور مرتبطة تماما بالصورة التقليدية لطائر العنقاء، تعدُّ صورا ديناميكية. ليست فعليا بصور لعنصر النار،  بل صور السرعة. طيور النار هي سمات للنار.  

    حينما تباغتني خلال تأملي، سمات النار تلك، مضيئة أو محلِّقة، ستتجلى أمام بصري بمثابة لحظات عرفت تضخيما، إنها لحظات للكون. لا تنتمي إلي، بل حظيت بها. تعود ثانية هاته اللحظات التي ميزت الذاكرة، بين طيات التأمل الشارد، تحافظ على ديناميكيتها الخيالية. يمكنني حقا تسميتها بطيور عنقاء التأمل الشارد.

    قبل دراسة الصورة الجذرية، سأتعقب من خلال الحقيقة الواقعية عن مابوسعه أن يشكل مبرِّرا قصد التخيُّل وتحويل إلى النمط الشخصي  بعض الصور التي تُعاش فعليا.

    رأيت أول طائر للنار، يغوص في تأملي الشارد. كان يوما مشمسا مشهودا، تبنَّى خلاله النهر اسما موصولا بالفجر، نهر يكبر بالطفولة، هادئا وأزرق تماما كالسماء. ينبعث طائر النار، كأنَّه سهم منطلق صوب أعالي السماء. مامصدر، الصرخة الحادَّة؟ هل طائر الضوء أو الطفل المندهش، المنعزل؟ سريعا جدا، يحدِث الطائر اهتزازا في المِرآة، يعرض لآلئ مائية تشكِّل ربما غنيمته الوحيدة، منطلقا صوب السماء. لقد كان طائر السنونو، أزرق مثل حديد ساخن. يتوارى الطائر عن الأنظار، تندلع الأحلام. يأتي من أعلى السماء، كي يحطَّ فوق الأشجار!

    لكن أين طائر النار، عشه في سماء شهر يونيو؟ أيُّ إزعاج، وذنب في حقِّ ماء هادئ جدا! آثم في الطبيعة، كل من يسير سريعا. لماذا لاتأتى هذه الشعلة المنحدرة من السماء، كي تتأمل شكلها بحنوٍّ عبر مرآة المياه؟ كيف لكائن في غاية الجمال أن يكون شرِها جدا؟ ما الارتباط الدرامي بين طائر السنونو-المحتال وكذا السمك الأبيض الفضِّي؟ هل يمكن لكل قسوة هذا الأزرق تحفيز فلسفة طفل؟

    أليست حادثة صغيرة في حياة طفل، بمثابة حادثة ضمن عالمه، بالتالي حادثة العالم. ذكرى من هذا القبيل ضمن نطاق وحدتها، تعتبر دراما- كونية طبيعية. حينما ترتقي ذكرى معينة إلى دراما-كونية، فلن نعرف جيدا إذا كانت نقطة تاريخ أو نقطة انطلاق أسطورة.طائر السنونو لديَّ، هو طائر العنقاء داخل بلدة ذاكرتي.

    حينما يستعيد العدم هذا الساحر، يصير الانذهال كآبة. مرة أخرى، لم أعد حينها طفلا، رأيت طائر السنونو عند نفس النهر. تواجدنا معا ذات يوم ميَّزته شمس صيفية! اختبرت  سعادة مضاعفة الصور من خلال ربطها بالأساطير المقروءة بين صفحات الكتب.تتيح الأساطير إمكانية التعبير عن جماليات العالم، ينبغي العثور عليها ثانية حين تأمل صورة مدهشة. الطائر المبهر بمثابة صورة أصيلة عن طائر العنقاء.

    طيور العنقاء الكبيرة التي أحببتُ وضعها الاعتباري في تاريخ الأساطير، تعيش سنة، مائة سنة. بينما طائري، يمكث فقط لحظة. لكن أيّ لحظة تلك بتجسيدها ذروة السعادة!

    لم يعد قط إلى حياتي، طائر العنقاء-السنونو. جوهريا، نادرا مانرى أشياء كبيرة خلال يومياتنا. هل أمكن شخص ضمن مائة، رؤية طائر السنونو؟ربما يستهدف بعض القنَّاصين  جلّ مايطير؟ لكن هل يرى حقا، حين التصويب جيدا؟هل بوسع الصيَّاد، وقد وضع الفريسة داخل كيسه، تذكُّر سماء فصل الصيف، وكذا النهر المرتعش؟ كيف يبلغ فكرا وأحلاما، من خلال طائر صادف الموت ضمن إفراط مجده؟ هل يستحضر الإنسان-الصياد، بانتقاله من الرائع إلى المفيد، بديهية الجشعين: ”يخفي الريش الجميل لحما رديئا”.

    مرة أخرى، يمكن الاقتناع بأنَّ الرؤية عن قرب تعني حيلولة دون الحلم بعيدا. يرى الحالم عبر نسبة توسع نظرته، عالما جديرا بشيء جميل. إذن، السهم الحيّ، طائر النار، صورة ملتهبة تشغل حيز نواة العالم. 

    لكن لأبادر إلى تغيير جدول القائمة، وأتكلم عن الشعراء.

    يبرز التحليل الكوني لبعض الشعراء، أفضل من تأملات الفيلسوف، قيمة صورة نادرة ومقتضبة، صورة حقيقية عن السرعة.  

    هناك صورة لتوماس إليوت، تجسِّد ذلك كأنَّه لحظة للضوء (1):

بعد أن أجاب جناح طائر السنونو على الضوء بالضوء

فالضوء هادئ.  

كي تكون هادئا، يلزم امتلاك وعي بالهدوء يسيطر على الفتور. طالما يغفو الماء الشفَّاف تحت شمس صيفية، ينسى الضوء فعله المبدع. نتيجة الفعل العنيف للسهم المضيء، يرتقي ضوء المياه المسطَّح. يتمثَّل الشاعر هذه اللحظة الضوئية الفعالة كانعتاق زمني حقيقي. يختزل إليوت قصيدته من خلال هذين المقطعين الشعريين (2):

سخيفة كآبة الزمن العقيم

الذي يمتدّ قبل وبعد.

    يبدو أنَّ زمنا كونيا تجلى هنا قصد تضخيم زمن تابع، زمن مقيِّد ولاينتج شيئا. يصعد الشاعر إلى مستوى واقعة كونية قصد استكشاف لحظة بريق. يرتجُّ خمول التأمل الشارد. يحلم، يلزمه أن يرى، بعينين منفتحتين جدا ومع ذلك لم يصدق عينيه.

    نعم، يشكِّل يوم طائر العنقاء، يوما عظيما، يتجرَّد عن كل قبل أو بعد. ينمو كل شيء داخل الكون، في خضمِّ الضوء. خلال ذلك اليوم، يكتب الشاعر قصيدة.

    طائر السنونو عند إليوت، ثم فنقس الشمال، طائر دون نكهة، صورة ابتزَّت سمو لحظة الشاعر. ينبغي لهذه الصورة توضيح شعرية تنصبُّ على اللحظة، ثم حلقة كبيرة بخصوص شعرية الزمان.

__________________________________

Gaston Bachelard :fragments d une poétique du feu(1988).PP :57-65    

Visited 17 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي