خندقجي والرواية الأسيرة
الياس خوري
عندما بدأت بقراءة رواية باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، جائزة بوكر 2024، شعرت أنني أعيد قراءة رواية أعرفها.
وعندما التقيت بنور، بطل هذه الرواية، تأكدت أنه سبق لي وقرأته. عُدت إلى الصفحات الأولى من طباعات دار الآداب لرواية خندقجي لأكتشف أنني أقرأ الطبعة الرابعة من الرواية نفسها؛ أي أنني قرأت الرواية عندما صدرت للمرة الأولى عام 2022، وتعجبت من هذه الخطوة التي لا سابق لها، هو أن تمنح بوكر لرواية سبق أن صدرت منذ سنتين.
غير أن هذا أثار إعجابي وليس عجبي، فالأدب لا يموت بمرور الوقت بل تتجدد معانيه.
الكاتب هنا، أسير تعتق وعيه في السجن الإسرائيلي، وكما يتعتق الوعي تتعتق الحكايات.
الحكايات هنا تبنى حول أسئلة الهوية والطيف ولون السماء والجسد الفلسطيني. وتبحث عن مريم المجدلية بعدما قام دان براون بسبيها في روايته «شيفرة دافنشي» ونفيها إلى فرنسا.
كيف استطاع الروائي الأسير أن يمزج كل هذه العناصر وهو يعيش خلف القضبان ويشعر أنه تُرك وحيداً، فإذا به يتحول في وحدته وعذاباته إلى صوت المقاومة من دون تبجح أو تفاخر.
هذا التواضع الذي اختبرناه في علاقاته مع الناس هو سمة السجناء. فالسجن مدرسة لشيئين: الحرية والتواضع.
باسم تعلم التواضع من الكتابة وتعلم الكتابة من السجن، فإذا به يبدع مجموعة من الكتابات القادرة على تغيير وجوه الرواية الفلسطينية.
لا أدري كيف أروي هذه الحكاية، فهذه حكاية لا تروى، لا لأنها معقدة ولكن لأنها تكتظ بالمعاني.
هنا يمزج الروائي الوعيين، الفلسطيني والإسرائيلي، فينتحل بطل الرواية اسماً إسرائيلياً بعد أن يعثر على هوية إسرائيلية ضائعة. ويتصرف كإسرائيلي يعمل في التنقيب عن الآثار.
سؤال الآثار هو سؤال إسرائيلي عميق، إذ إن علماء الآثار الإسرائيليين لم يعثروا حتى الآن على إثبات لهوية الأرض الفلسطينية من خلال افتراض أنها أرض يهودية مقدسة، وبالتالي صار الانغماس في علم الآثار جزءاً من الهوية اليهودية الضائعة.
نور أو أور يمسك بيدهم ويأخذهم إلى أعماق الأرض ليبحثوا ولا يجدوا.
ما سوف يجدونه في باطن الأرض هو الفلسطيني الذي سيختبئ بعد سنتين بالضبط في أرض غزة.
هل كان الأدب يتنبأ؟
أنا مثل محمود درويش، لا أؤمن بنبوءة الأدب.
«غنيت كي أزن المدى المهدور في وجع الحمامة
لا لأشرح ما يقول الله للإنسان
لست أنا النبي لأدعي وحياً
وأعلن أن هاويتي صعودُ»
ما صنعه الأدب هو أنه اكتشف عمق العلاقة بين الإنسان وأرضه، وأن غياب هذه العلاقة تقود إلى موت الهوية.
أين وصل نور في بحثه عن هويته؟
تبدأ الرواية بنور يقف متأملاً أمّ عدلي، والدة الأسير، وهي تستعد لركوب الباص لزيارة ابنها، هذا التأمل هو أعمق ما في قدرة الأدب على الوصول إلى المعنى. امرأة عجوز تختزل لون السماء.
أرادنا باسم خندقجي أن نصل إلى لون السماء كي نكتشف لون الجلد الإنساني. ما هو لون السماء؟ السماء تتلون وتتغير وتتخذ أشكالاً متعددة لكنها تبقى قبة الله فوقنا، تحمل في قلبها نور الشمس وضوء القمر. وها نحن نُعرّض أجسادنا لشمسها وقمرها كي نتلون بها ونصبح جزءاً من صورتها.
إنها شمس غزة التي دبغتنا بسمرتها فحوّلتنا إلى جزء من التراب، وسمحت لنا بأن نتغلغل في أحشاء الأرض، وهكذا تلتقي الأرض بالسماء.
هنا توقفت أمام كلام نور لخطيبته الفلسطينية سماء: «أنتِ هويَّتي ومآلي».
أما مريم المجدلية، بطلة الرواية، فستصمت أمام هذا الكلام، لأنها تعرفه وتعرف أن ابن الإنسان ذاهب إلى الصليب. وتعرف أيضاً أن القيامة في انتظاره.
لكنها هي وأمه لم يتوقعا هذا التعامل من قبل التلاميذ، إذ تم إقصاؤهما إلى هامش الصمت، وهناك عاشتا المعنى العميق للصمت وهما تفرحان بقيامة الرجل الذي اختارهما ليكونا شهوداً على الجسد النوراني الذي لبسه السيد.
Visited 53 times, 1 visit(s) today