أنجو ريحان بين دموع الشيوعيين ودهشة مارسيل خليفة!
عبد الرحيم التوراني
برغم أنها لم تتأخر سوى بضع دقائق، فإنه لم يفتها أن تسابق إلى الاعتذار. أتت نبرات صوتها واضحة في الهاتف المحمول، تقول إنها قادمة في سيارتها، وقد فوجئت بزحمة سير خانقة على الطرقات، أو بـ”العَجْقَة”.. (اللفظة الأكثر تداولا في الحكي اليومي بين سكان العاصمة بيروت).
الوقت منتصف نهار يوم ربيعي مشمس. عندما وصلت إلى “كافيه ليناس باريس”، (بمنطقة بَدارو). كررت بلطف اعتذارها الجميل. وأضافت مبتسمة أنها نسيت أن تضع في الحسبان بداية أيام الشهر، وقد صادف أول يوم بعد نهاية عطلة أعياد الفصح المجيد، وفق التقويم الشرقي، التي تزامنت أيضا مع عطلة عيد الشهداء.
– “لا لوم عليك سيدتي، لا شيء يستدعي منك الاعتذار، بقدر ما حضورك هو الأنبل والأكرم”.
حقيقة، لا يكفي هذا التقديم للتعبير عن تواضع وبساطة وحساسية من حضرتُ لمقابلتها.. الفنانة اللبنانية أنجو ريحان، بكل تلقائيتها وحماستها وحيويتها، ألتقيها بعد تألقها اللامع في مسرحية جديدة تجول حاليا بمسارح لبنان، وينتظر عرضها خارج البلد قريبا.
شكلت أنجو ريحان مع يحيى جابر “ثنائيا ذهبيا”، تمكن من تحويل تفاصيل استثنائية مشحونة من تاريخ شفوي عابر وشبه منسي، إلى عمل مسرحي غامر، يعتمد على الحكي والمونولوغات والإيماءات، وعلى استخدام مقاطع من الغناء (أم كلثوم، فيروز..)، وعلى الرقص أيضا…
لذلك، لا تخفي الممثلة أنجو ريحان مدى تحمسها الكبير لمسرحية “شو منلبس”. ومن دون أن تتكلم تفضحها ملامحها وتسبقها للتعبير عن مدى تمسكها وفرحتها بهذا العمل الفني، ولتشي بأنها تحب أكثر “شو منلبس”، مقارنة بأعمالها السابقة.
من خلال مضمون هذه المقابلة، التي خصت بها أنجو ريحان موقع “السؤال الآن”، نتوخى أن يستشف القارئ أنه في حضرة فنانة رائعة حقًا، واثقة من نفسها، إنسانة مستقرة وذكية وموهوبة.
قبل الإجابة عن أسئلتنا، تنوه الممثلة أن بالإمكان مقاطعتها، فهي لا تعرف “أين تقف عند الاسترسال في الكلام”، كما قالت.
والبداية كانت بالسؤال التقليدي.. من هي أنجو ريحان؟
تجيب بأنها “امراة، تطمح ليكون لديها بلد تنتمي له من خلال مهنة التمثيل. و”أن يكون هذا البلد هو الأفضل لأولادي، يرعاهم ويحميني، ويخليني ألبي ما أريده من خلال مهنة التمثيل...“.
– وأين هو هذا البلد؟ هل هو موجود؟
تؤكد ريحان: “نعم.. موجود، ولكنه لا يلبي أقل حقوقي البديهية كمواطنة لبنانية. كوني نشأت في عائلة منغمرة بالكامل في الشأن العام، وتربيت على أنه لا يوجد شيء يمكن لك أن تغيره إلا إذا ما توليتَ بنفسك القيام به. لم أرث أفكارا اتكالية، من قبيل أنه عندما “أنق”، أو أنتقد، يمكن أن يحدث هناك تغيير. وقد أخذتها من أبي ومن أمي. فعندما يجب التغيير عليك الانخرط فيه. نحن في بلد بحاجة إلى عمل لتتحقق فيه الحقوق البديهية، في التعليم والصحة والعدالة وغيرها.. غير أن الأهم والأساسي هو احترام رأي المواطنين. ففي بلدنا، كلما أردنا أن نأمل في تحقيق التغيير وفي تحسن الوضع، نصحو – لسوء حظنا العاثر- على أن القدر أوقعنا في عمق جغرافي به أكبر صراع يعيشه العالم. ومهما حاولنا أن نجرب أننا في أوقات صعبة، نكتشف أننا كمن يجرب اختراق جدار. كان عندنا أمل ما، كما حدث في كل النشاطات التي كنا نقوم بها على الأرض. وكل مرة كنا نشعر فيها بأنفسنا أننا ما زلنا أفرادا، لا نستطيع تكوين مجموعات من أجل مواجهة الحالة الشائكة وتجاوز المصاعب التي نعيشها…“.
ولأن الفنانة اقتحمت مجال السياسة مبتعدة عن الخوض المباشر في الشأن الفني، فقد عدنا إلى صلب الموضوع، إلى “شو منلبس”. في أحد مونولوجاتها بالمسرحية، تخبرنا أنجو ريحان أنها منذ طفولتها الأولى نشأ معها حلم أن تصبح ممثلة. فماذا يعني لها اليوم كونها ممثلة وفنانة لبنانية عربية؟
تتسع حدقتا عيني النجمة اللبنانية، وتتخذ هيأة أكثر جدية، لترد: “أول شيء بالنسبة لي مدعاة للفخر والرضا، هو ما وصلت إليه اليوم. فكلما عدت بالذاكرة إلى الوراء، كيف كنت وأنا طفلة صغيرة أحلم لأصل إلى شيء، أحس بشعور قوي، يعطيني انطباعا بأنه فعلا نستطيع، وأن بإمكاننا أن نحقق أحلامنا إذا ما عرفنا كيف نخطو الخطوات الأولى”.
تضيف: “حاليا أعتبرني ممثلة تجرب أن تغير من رسائلها. ما يمثل لي أيضا إضافة رائعة، أي أنني لست فقط أمارس المهنة، ولكني في الوقت ذاته أوصل أشياء كثيرة، ولا أكتفي فقط بالإفصاح عنها، بل إن هناك شرائح واسعة من العالم تريد قولها، لبنانيا وعربيا، يمكنك الوصول إلى مكان ستشعر فيه أن هناك سقفا معينا. بكل تواضع أصرح إنني أبحث عن التجاوز الذاتي ولمَ لا.. عن العالمية… ما يجعلني الآن أعمل على تحسين لغتي الأجنبية الثانية، حتى أصل إلى مكان أبعد. هو حلم يترافق لدي مع حلم الوصول إلى العالم العربي بطرق مشروعة، دون حصول التباس حول مفهوم الحرية، أي أن نعبر بحرية عن مشكلاتنا وقضايانا الحقيقية والمصيرية، لا أن يحدث ذلك بطرق مبتذلة أو بمفاهيم سائدة. بل إن رغبتي وإرادتي في بلوغ العالمية، لا تنبثق من باب تحصيل شهرة ما، وإنما من أجل منافسة أقوى، من خلال تحسين قدراتي الإبداعية وإبلاغ صوتي إلى أقصى مدى…”.
عن المصاعب التي تكون قد واجهتها في مسارها الفني، وكيف وجدت عالم التمثيل، هل كان مطابقا لمخيلة الصغيرة وحلم تلك الطفلة البريئة؟
تعترف أنجو ريحان أنها “مصاعب كثيرة جدا، أفكر الآن أنه في كل المجالات تبقى هناك طرقات فرعية يمكن للمرء أن يسلكها ويعبر منها ليصل. وأنا لست ضد هذه المعابر أو الأساليب، كما لا أنتقد العاملين في هذا الحقل، ولكن المجال قد يجعلك أمام أشخاص يتمتعون بجمال المظهر، عفوا على التعبير، حافظين أدوارهم جيدا، في حين أن الواجب يقتضي أولا الاشتغال على المجال، على المهنة كمهنة. والعمل من منطلق الشغف بفن يفتقد الدعم الرسمي...
نعم حدثت معي صعوبات في الطريق، وقد وجدت مساحتي على المسرح، حين بدأت أحس وألاقي الرضا الذاتي، قبل رضا أو استحسان الجمهور، فعندما تكون راضيا عن العمل الذي تقوم به، حتما سيصل إلى الجمهور. والمسرح أعطاني الكثير، والمخرج يحيي جابر بالتحديد، ساندني بعد أن تراكم لدي نوع من الكسل والتراخي. وعندما انخرطت في العمل بالمسرح أحسست أن هذه هي المهنة التي كنت أحلم بها وأريد أن أمارسها”.
لكن ماذا عن أوضاع المسرح اللبناني اليوم؟
توضح ريحان: “حاليا هناك أمل في المسرح بلبنان بعد سنتين من جائحة كورونا، وبيروت كانت دائما سباقة في العروض المسرحية، كيف لا وهي مدينة الثقافة والفن. أكيد هناك تأثر بالحروب وبالتكنولوجيا والأشياء الأخرى. لكن بعدما تم فرض مكوث الناس بمنازلهم من جراء كورونا، فتحولوا إلى ملازمة شاشات الهواتف والكمبيوترات والجلوس أمام التلفزيون طوال الوقت، أتى نوعا ما وقت الإقبال على ارتياد المسرح، بدليل أننا الآن نفتش على خشبة مسرح حتى نستطيع عرض مسرحياتنا، والمسارح كلها مشغولة. هذا دليل صحي على أن الناس في حاجة لرؤية ومشاهدة الممثل أمامها باللحم الحي. كم كان هذا حلمنا، وهذا ما يجب أن نصل إليه. بالتأكيد حصلت وتحصل تداعيات سلبية في المجال الثقافي، بهذا الشكل أو الآخر، مثل تراجع نشر الكتاب وتدني القراءة. لكن الكلمة هي للأجيال الجديدة، برغم كل شىء يبقى لدي أمل كبير في المسرح، وخاصة نوع من المسرح، المسرح الذي يحكي اللغة، ويسائلنا ماذا نقول وعماذا سنعبر في مسرحياتنا؟
مع يحيى جابر، المسرح يمثل مرآة هذا الشعب. وإذا أردت معرفة ثقافة أي بلد، يجب عليك التعرف على مسرحه. نحن بدأنا ننقل الواقع في مسرحياتنا كما هو. مسرحيات تسمي الأشياء والوقائع والأحداث بمسمياتها، بطوائفها وصراعاتها، فتحس أن هؤلاء الأشخاص يشبهون باقي الناس”.
لكن كيف بإمكان الوضع الثقافي والفني أن يتجاوز ويتعالى على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الموصوف بالسيء وبالمتدهور، والذي يعاني من انحطاط ملموس…؟
جوابا عن هذا السؤال، تأخذ أنجو ريحان الموضوع من زاوية أخرى، وتقول: “هي محاولات للصعود بالمسرح، إن أي إشكال ممكن أن يحدث سيمنع الناس من الذهاب لحضور المسرح. أي دولاب سيارة يحرقه متظاهر على الطريق قد يوقف النشاط المسرحي. فأول مهنة تتضرر هي مهنتنا. وهذا ما حدث خلال أيام “الثورة” (انتفاضة 17 تشرين 2019). وأيضا هو ما حصل خلال فترات الحجر الصحي عند انتشار فيروس كوفيد 19. نحن بالتأكيد كمسرحيين يطولنا التأثر بهذا. وأعتقد أن المسرح يعبر عن أوجاع الناس. وقلوبنا مليئة بالمآسي وبالهموم السياسية والاقتصادية، لذا نجرب تسليط الضوء على هذه الأشياء، ولكن أيضا هناك كثيرة هي العناصر التي من الممكن أن تؤثر في مثل هذه الحالة والوضع. ولا بد من إيجاد مسرح وطني، ومن دعم فعلي، لأننا في الواقع نعمل باللحم الحي، فحرق دواليب “عالطيونة” مثلا، (الطيونة منطقة في بيروت)، سيوقف عرضا بـ”مسرح دوار الشمس”. يجب تجاوز الكثير من المشكلات حتى نستطيع أن نكمل. فدائما ما نتساءل وأكفنا على صدورنا، هل سيمر هذا العرض أم لا؟ وعندما يبث خطاب لأحد السياسيين علينا الانتظار لما بعد نهاية الخطاب، لنرى ما إذا كان الناس سيأتون. وكل عرض “زَمَطْ” (أي مرّ بنجاح) يكون إنجازا في حد ذاته”.
في 2019، لم تتأخر أنجو ريحان في النزول إلى الشارع وإلى ساحة الشهداء بالعاصمة، للمشاركة في “ثورة 17 تشرين”. تروي لنا هنا أن هذا لا يمثل أدنى استثناء في يومياتها..
لأن “أول تظاهرة نزلت فيها، حدثت بمدينة صيدا وعمري لا يتجاوز سن 12 عاما، إثر اغتيال مصطفى سعد وابنته ناتاشا، التي كانت من عمري سنة مصرعها. وكنا وقتها ضمن العائلات المهجرة من الجنوب”.
عن دوافع هذا الاختيار توضح ريحان:
“يعني كل مرة بقول خلاص هيدا البلد ما حنقدر نعمل فيه شيء.. أقول خليني أهتم بعائلتي الصغيرة.. خليني أهتم بمهنتي بس.. لكن بمجرد ما تشوف أشخاص نزلوا.. لا شعوريا فيه شيء بداخلي بخليني أنزل وشارك…”.
وقت “ثورة 17 تشرين” حرصت على أن أكون على تواصل دائم مع عدد من الفنانين. قلت طبعا ننزل مع بعض، وقمنا بتكوين فريق تعبوي، هكذا بادرت بتأسيس أول مجموعة على “الواتساب” خاصة بالثورة، وأطلقت عليها تسمية “فنانو الثورة”. وقمت بتسجيل وإضافة أكبر عدد من الفنانين.. حتى نعبر عن وجداننا الجماعي المشترك وعن مدى حاجتنا مع الناس إلى التغيير”.
هل كان هناك أمل حقيقي في التغيير…؟
“نعم.. كان عندنا أمل.. إيه نعم.. ويبقى في دائما أمل”.
لكن بماذا سترد أنجو ريحان، على من يقول إن الثورة تم اختطافها، أو جرى إجهاضها وإخمادها، ألم يولد بداخلك، مثل هذا الحكم والانطباع، نوعا من الخيبة أو التحسر والانكسار؟
تحرك رأسها دلالة على الموافقة، قبل أن تستدرك بأن قدرا من الخيبة قد حصل، لكن ليس بالمدى المتصور في بعض الأذهان..
“كانت خيبة محدودة. أنا أؤمن إنه “ما فيه شيء.. أي شيء إلا ما يكون عنده تراتبيات معينة”، لأن التراكمات هي “يا اللّي بتغير.. أوكي.. نحنا عم نطمح، يمكن عَلِّينا السقف ورفعنا شعار.. “بدنا نشيلهن كلهن” (نسقطهم جميعهم). يعني كان هذا طموحنا ومازال. هذا طموحنا الثوري، كنا مدركين أنه لا يمكن إسقاطهم بسهولة.. بعد أن عمَّروا ثلاثين عاما… ومطلبنا لا يقتصر فقط على الرؤوس الكبيرة والرموز، بل يتعدى ذلك ليطال كل من تحتهم وحواليهم من المتورطين في الفساد والإفساد والإضرار بالمصالح العليا للشعب وللوطن.
آه.. كثيرا ما يكون الرد على هذه “الآه” بمثل ما جاء في نص المسرحية: “عم بضحوا فينا ليه.. طب نحنا عن جد لسنا خبثاء.. ولسنا عملاء.. وعن جد ما عنا أجندات خارجية.. جايين بس نقول إنه خلونا نعيش بهذا البلد.. ف آه.. بعدين وصلنا إلى مرحلة استخدام القوة ضد اللِّي عم يقولوا لا، وتحولنا إلى متهمين…”.
– هل لا زالت روح التمرد تتملكك…؟
تقاطعني: آه.. تود أن تسألني إذا ما كنت سأنزل إلى الشارع مرة أخرى إذا ما اندلعت ثورة جديدة؟ ربما سيكون جوابي بـ”لا”. لكوني انصدمت أكثر. هناك رأي يقول: لقد بلغنا إلى مرحلة لا خلاص بعدها، مرحلة أصبحت فيها القوة هي المتحكمة. سأجيبك بـ”لا”، وربما سينتج عن هذه الإجابة فهم بطريقة غير صحيحة. لكن لا يمكن لك الاستمرار في العيش بهذا البلد إلا إذا كنت شخصا سلبيا وواقف “عجنب” تتفرج، أو غير عابئ بما يجري ويحصل أمامك ومن حواليك، وهذه الحالة لا صلة لي بها على الإطلاق، لا أعرف إذا كان هذا بالوراثة أم لا؟.. نعم أنا معنية، وقد صرت بعمر يقول فيه الواحد “يكفي.. خلص نزول إلى المظاهرات.. لنترك الأمر لمن هم في العشرينيات.. وصار الطموح لدي أكثر أن أنجح وأعبر من خلال الفن عما أود قوله وتبليغه”…
هذا يعيدنا إلى المسرحية وسؤالها العريض: “ماذا سنلبس…؟”، فالمسرحية لا تخلو من نفحات وأنفاس الكوميديا السوداء، وهي تستعرض ذاكرة اليسار اللبناني، أو جزءا من ذاكرة هذا اليسار، إلا أن العرض يذهب إلى حد تنصيب أركان محاكمة لليسار، ورأينا كيف انتهت بإنزال “حكم غيابي” قاسٍ في حق اليسار، بتفنيد ادعاءات انتصاره، والإقرار بـ”هزيمته وانهزامه”، من خلال تعمد تحريف كلمات أغنية، في ختام المسرحية: “بيِّ راح ع العسكر.. و”انهزم” في عنجر…” بدل “انتصر” كما غنتها فيروز…
رد ريحان كان، إنه “من جهة إثارة الكلام عن المحاكمة ونتائجها، رأيي هو أن المسرح لا يصلح لأن يكون بمثابة منصة لإصدار الأحكام القطعية أو الزجرية، ولا يليق به أن يتحول إلى مشروع مقاولة لبناء سجون وتشييد زنازين، أو تهيئة كراسي الإعدام ونصب أعواد المشانق.
إن المسرحية تفصح عن رأي، ولا نزعم أنه الرأي المنطقي والحقيقي أو الصحيح. المهم والأساسي هو أن نبدأ من نقد ذواتنا قبل أن نتوجه لنقد الآخر. لأن التغاضي عن النقد الذاتي هو جزء من معضلة اليسار، ومن مشكلة الحزب الشيوعي بشكل أساسي. حيث لم يستطع حل المشاكل الناتجة عن تداعيات ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت.
لقد جئنا لنؤكد ونقول بكامل الوضوح: نعم.. لقد انهزمتم وغُلِبتم. ونحن كنا جزءا ونحن أخطأنا.. كما شاهدتَ في المسرحية، ذهبنا إلى ما يمكن وصفه بنوع من الكشف عن مضمون الأزمة وحجم الإشكالية.. وأتينا لتقديم الاعتذار عن هذه الأخطاء والخطايا.. يعني، عندما تتكلم “نجوى” في المسرحية، وتعترف بأنها استولت على بيت ليس في ملكيتها. فهذا يعد نوعا من النقد الذاتي، الأجدر بنا هو “إنو خلينا نقول نحنا غلطنا بهيدي المحلات”، وإذا لم نعترف بهذا الغلط فلن نصل إلى الحل…
تأسيسا على هذا، “شو منلبس” في النهاية هي عبارة عن سيرة ذاتية لصاحبتها، لمن أدت مجموع أدوار المسرحية التي تتضمن تفاصيل كثيرة من حياة وذكريات أنجو ريحان وأسرتها الشيوعية. وقام الكاتب يحيى جابر بمهمة الاستماع والإنصات لقصص وحكايات بطلته، ثم أعاد صياغتها وفق ما تتطلبه شروط وقواعد العمل الفني المسرحي. أليس كذلك؟
لا تتفق أنجو ريحان مع هذا الاستنتاج السريع، لكنها لا تفصح عن ذلك بالطعن فيه، بل إنها تجيب بهدوء بالقول: “كلنا لدينا قصص وحكايات، أكيد أنت لديك قصص، لكن الفكرة هي كيف تصنع من هذه القصة عملا فنيا، فيحيى جابر لديه قصته وحكايته الخاصة الغنية بالأحداث والمفارقات والتي لها قيمتها الإنسانية، ومن دون شك هي أغنى من قصتي. لكن كيف بالإمكان ترجمتها إلى المسرح؟ كيف بالإمكان مزج الكوميديا بالتراجيديا؟ الحقيقة أننا أنجزنا في الأول كتابة 400 صفحة، ثم عدنا واختصرناها إلى 45 صفحة. وعملنا بهذه الطريقة: أقوم أنا بسرد أطوار القصة، ليأخذها يحيى ويتولاها بالمراجعة والصياغة، ثم نجلس لتنقيح تفاصيل المشاهد الدرامية مشهدا تلو الآخر.
الخلاصة التي أود أن أعرب عنها، هي أني لست بقادرة على تحقيق الإنجاز الذي قام به يحيى جابر، فلو تجرأت أنا وكتبتها بأسلوبي الخاص، فيقينا لن أكون موفقة، لأني لست كاتبة. أنا ممثلة، وقد استطعنا، يحيى وأنا، خلال هذه السنين من التعاون، أن نحقق ذلك التوافق المطلوب…
… أو على الأصح لنقل: “التواطؤ”؟
(تضحك…)… نعم، هو توافق وتواطؤ إذا شئت. ولن أكون مبالغة لو قلت لك إن يحيى جابر من المبدعين المميزين والكبار في العالم العربي، كتابة وإخراجا.
لكن أثناء عرض المسرحية، قد يشعر المتفرج أحيانا، وكأنه يشاهد عرضا خالصا من العروض الارتجالية لـ”الستاند أب كوميدي”. فبعض العناصر المهمة على مستوى الإخراج تم إهمالها في العمل المسرحي، أتحدث بالأخص عن المستوى التقني، مثل بساطة الديكور، على نهج ما يسمى بـ”المسرح الفقير”، وعن الإضاءة التي تكاد تكون مفتقدة. بالإضافة إلى أن العرض يتواصل بدون انقطاع أو استراحة، معتمدا كليا على الحوار واسترسال الكلام، وأساسا على قدرات وموهبة الممثلة.. لذلك يساورني اعتقاد أن هذا العرض لو أدته ممثلة أخرى أقل موهبة لكان مآله الفشل.
تبتسم أنجو ريحان نصف ابتسامة، وتسارع إلى التخلي عن حس الفكاهة، لتقول: “ممكن”. قبل أن تضيف: “أتدري أن يحيى جابر وأنا، أطلقوا علينا تسمية “الثنائي الذهبي”، لأننا استطعنا أن نكمل بعضنا. في الفترة الأخيرة تمكنت من تطوير إمكاناتي الفنية، بعد إنجازي لماستير في إعداد الممثل، هكذا أصبحت على معرفة ودراية إضافية في التعبير الجسدي والأداء الصوتي أيضا، وصار هناك أخذ وعطاء بيني وبين يحيى ككاتب وكمخرج. صار بإمكاني الإدلاء برأيي وملاحظاتي بهذا المشهد أو بمضمون أو صياغة جملة ما من الحوار… ويحيى يشجعني ويصفني بالمثابرة، لأني أود باستمرار أن أعطي بكل إخلاص كل ما في قلبي وروحي وطاقتي. ولأن هذا العمل يمنحي كثيرا من الارتياح، فذلك يرجع لكونه جزء كبير منه هو من السيرة الخاصة بي. وقد أفادني يحيى بمنحي الكثير من الشغف وحب العمل.
خلال فترة العمل على كتابة المسرحية، كنا، يحيى وأنا، نتوقف، لنقول “خلص مش راح نقدر نْكَفِّي إعداد المسرحية، لعدة اعتبارات، وماذا نريد في النهاية أن نقوله من خلالها؟ أيضا لا ننسى أن هناك محاذير سياسية. لكننا عزمنا على استئناف إعداد المسرحية من جديد، وبعد أن أنهينا العمل وضعناه على الرف، كفترة للتأمل، إلى أن جاء الوقت، وقلنا “خلص وطلعناها مثل ما هي. ومنذ العروض الأولى حازت المسرحية على رضا وإعجاب الجمهور، فأسعدنا ما كتب عنها من المتفرجين على مواقع التواصل الاجتماعي، كما كتب عنها كتاب معروفون. هذا التجاوب الجماهيري كان مهما ومؤثرا”.
ولأن “شو منلبس” ليست تراجيكوميدية تماما، أي أنها لم تركض وراء توازن بين المأساة والملهاة، وبهارات الكوميديا المبثوثة داخلها سرعان ما تذوب في الأفواه الضاحكة لتتحول إلى مرارة لاذعة. كما تحفل المسرحية بأدوار ذكورية، إلا أنها أعطت مساحة أوسع للنساء. وكان حضور الوالد محوريا وقويا.. لو تكلمت لنا قليلا عن ردة فعله بعد مشاهدته “شو منلبس”؟
“في فترة إعداد “شو منلبس” لم ألجأ إلى إخبار والدي بأي شيء، لم أرغب في أن أضعه في الجو. لذلك قررت الاعتماد أكثر على نبش ذاكرة الطفلة التي كنت. وقبل حوالي شهر من أول عرض، كنت مع يحيى نقوم بعروض أولية داخل البيت، قبل الخروج إلى الجمهور. كنا نستضيف بعض المقربين، ومنهم من نختلف معهم سياسيا، وفي شقة يحيى جابر كان يتكدس أكثر من 60 شخصا في صالون صغير، لنتابع ردة أفعالهم وآرائهم في المسرحية. هل نجحنا بهذه التجربة؟ هل هذا ما أردنا الإفصاح والتعبير عنه؟ هل يرغب الناس في الضحك؟ هل سيضحكون…؟ أو نقول إن هذا سيحزن من سيتألم؟ وفي النهاية كانت نتيجة العروض التي أقيمت داخل البيت مشجعة لنا وزودتنا بما يكفي من الجرأة. لاحقا فقط، أخبرت بابا وأقدمت على طرح بعض الأسئلة البسيطة عليه بشكل عابر، أسئلة تخص جزءا مما حدث معه في ذلك التاريخ البعيد/القريب، حول نشاطه الحزبي، ولما أطلقوا سراحه من معتقل أنصار، واعتقاله في سجن “عتليت” داخل إسرئيل، والمحاولات التالية بهدف تصفيته واغتياله. قبل أن يجيبني سألني ما هي مصلحتك وفائدتك من كل “ها الحكي”؟ قلت له إنه مجرد حديث واستذكار…
عندما جاء ليحضر المسرحية، كان برفقة أختي الاثنتين، فوجئت بالوالد وهو يذرف الدموع خلال العرض. ليس لأنه معني بشكل أساسي ومباشر بما جاء في المسرحية، بل إن أكثرية من عايشوا الأحداث والمرحلة كان يبكون… حتى الجمهور العادي “عم ينوجع” لتماهيه مع العرض، لكنه كان “يضحك” أيضا في أغلب الأوقات، الجمهور الشيوعي بالتحديد، أواليساري… إن ردود أفعال الجمهور كانت متلفة للأعصاب ومجيشة للعواطف…
بعضهم أتى لتقديم الشكر والإعجاب. أذكر أن رجلا جاءنا في نهاية العرض ليرينا أثر جرح رصاصة تلقاها في معارك المقاومة بالجنوب، وهذا الرجل حاليا يبيع الخبز.. حكى لي: “أنا عامل أربع عمليات، أنا كذا، أنا عملت في الحرب كذا.. وخيي استشهد، صار يبكي. وقال “إنه في محل معين فينا تعترف؟”، بما معناه، أخيرا هناك من يرد لنا بعض الاعتبار.
كل الأشخاص الذين ألتقي بهم، بعد أن يتعرفوا علي، يبادرون إلى تقديم الشكر والثناء. حتى الأستاذ خليفة (مارسيل خليفة) جاء في ثالث عرض، وكتب “شي كثير حلو” على صفحته بالفيسبوك، وبعث لي رسالة بها “حكي كثير”، آه.. أشاد بي كممثلة، وسألني: “وين كنت؟!”، قلت له: كنت هنا، وما زلت هنا…
لقد كبر قلبي، بعد أن كان به بعض خوف. ولأول مرة أحسست أن هناك ناس يأتون تلقائيا. “عالم عم تجي من قلبها”، الجمهور الذي يحضر متنوع، فيه نساء من منطقة الأشرفية، فيه امرأة اسمها كلود، شاهدت مسرحية “مجدرة حمرا” تسع مرات، والناس لا زالت تأتي لمشاهدة أعمالنا. يأتون ويعودون، لأنهم وجدوا ما يستحق المشاهدة. هناك نص وهناك أداء، بكل بساطة هناك من يحترم عقولهم، ولأنهم يتأكدون أنهم إزاء عمل فني مختلف. عمل يكون للجمهور فيه دوره، كجزء هام في العمل الفني، من خلال تفاعله المباشر وردود أفعاله العفوية. بهذا يصبح الجمهور مشاركا داخل العرض ومنصهرا بطريقة سليمة وأعمق. وهذا شرف لنا…