حكايات المقاهي: جان بول سارتر “أنا في المقهى.. إذن أنا موجود!” (2)

حكايات المقاهي: جان بول سارتر “أنا في المقهى.. إذن أنا موجود!” (2)

 جورج الراسي

في المقاهي تنشأ الثورات 

    هو طرف بولفار يأوي مقهيين وكنيسة. إنه مملكة صغيرة”، كما يصفها الكاتب Boris Vian، الذي أصدر عام 1951 كتيبا بعنوان “دليل Saint- Germain-des Prés، يصف فيه أشكال رواد ذلك المكان، الذكور: بشعر منكوش مرخي على الجبين، قميص مفتوح حتى الصرة، صيفا وشتاء. أحذية بألوان فاقعة، عليها خطوط أفقية متعددة الألوان… الإناث: شعر مسدل حتى الصدر، في جيوب البنطلون بضعة فئران تم تدجينها، والتبرج ممنوع تماما“.

مقهيان.. والزمن طويل..

    هما مقهيان يحتلان وسط تلك المملكة: Café de Flore و Les Deux Magots. و بمحاذاتهما قبة كنيسة لا ترى جرسها إلا من المقهى الثاني. ويقال إنها من أقدم كنائس فرنسا.

  تعود الحكاية إلى ما بعد العام 1870 حين انتقل الرسامون والمغنون إلى مرتفعات Montmartre قبل أن يرحلوا إلى الضفة اليسرى لنهر ال Seine، وتعيش منطقة. Montparnasse سنواتها المجنونة بعد الحرب العالمية الأولى. حتى ينتهي المطاف عند طرف بولفار Saint- Germain، حيث نشأت مملكة الفكر والفن والأدب الجديدة.

  Café de Flore زحفت إلى الشارع بفسحتها الباريسية المميزة، و طاولاتها الرخامية الصغيرة ونادلها الذي اختاروا له أن يكون بالأبيض والأسود، وتم تزيين الطاولات برسوم للفنان Sempé.

   الجالس هنا لا يضيره أن يراه الناس، بل ربما كان يسعى إلى ذلك، وزبدة” المثقفين والفنانين الفرنسيين الأجانب يعتبرون الجلوس على تلك الطاولات طقسا من طقوس الاتصال بالناس، ومن بين الذين لا تفوتهم فرصة لأداء تلك الطقوس الممثل Robert de Niro والمخرج الأميركي العملاق Francis Ford Coppola، الموجود حاليا في مدينة كان (جاريلكي يقدم آخر أفلامه الذي رصدت له ميزانية 120 مليون دولار!

   ومن القصص الطريقة أن كوبولا سبق له أن اشترى نصف موبيليا قهوة De Flore الموضوعة في الباحة الخارجية، ونقلها لكي يزين بها حديقة فيلته في كاليفورنيا!

   المهم أن ذلك المقهى أصبح القلب النابض لكل النظريات والفلسفات التي نشأت بعد الحرب، وهي في المخيال الجماعي أقرب إلى كونها “محمية يسارية“…

   ويتذكر الجميع أن الرئس الفرنسي السابق Nicolas Sarkozy، الذي تعرض لحملة شعواء بعد استضافته العقيد معمر القذافي في باريس، رد على منتقديه الذين يعطون الدروس في موضوع حقوق الإنسان وهم يرتشفون القهوة في بولفار سان جرمان“.

قهوة.. وزنبقة.. وآلهة وثنية

   تعود ولادة قهوة De Flore إلى عام 1887 على الأرجح، وقد شهدت منذ ذلك الحين صراعات وتقلبات كثيرة.

   أول تجربة مرت بها تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، فيما عرف بقضية Dreyfus، إذ كان المقهى مقر لقاء جماعة الـ

Action Française، وهو تنظيم يميني كان يتزعمه Maurras  الذي كتب يقول

كان من المؤكد أن نلتقي مرتين في اليوم في مطعم de Flore، وأصدر كتابا بعنوان “Au signe de Flore”، مما يرمز إلى القهوة، وإلى الزنبقة، وإلى الآلهة الوثنية. وقد كتبه في المطعم ذاته.

   في مرحلة ثانية اتخذ الشاعر Apollinaire من المقهى مقرا له في عام 1913، وأرسى بصحبة Breton دعائم المدرسة  “الدادائية“.

وفيما بعد لجأت إلى المقهى مجموعة من الفوضويين، من سميوا “عصابة Prévert”، و”جماعة أكتوبر”، وهم الذين جرى طردهم من مقهى “Les Deux Magots”، بعد عراك جرى فيه التراشق بالبيض..!

عام 1939 انتقلت ملكية المقهى إلى Paul Boubal الذي ظل محتفظا به حتى عام 1983.

هذا المالك الجديد من مقاطعة الـ Auvergne أحدث انقلابا في المقهى، إذ زوده بمدفأة كافية لتدفئة الطابق الأرضي والطابق الأول في زمن شح فيه الخشب ، وأعاد تغليف مقاعده بنسيج سكوتلندي، مما جعله مريحا وصالحا للسكن…!

وجاء الثنائي Sartre و Simone de Beauvoir

    الأعوام الممتدة بين 1939 و 1950 تعتبر العصر الذهبي لقهوة Le Flore، وهي الفترة التي اتخذ فيها الثنائي سارتر- دو بوفوار من ذلك المقهى مقرا رسميا لهما!

    وتصف سيمون حياتهما الجديدة على النحو التالي:

نعمل من الساعة التاسعة صباحا حتى الظهر، ثم نذهب لتناول الغذاء. نعود الساعة الثانية ونتحادث مع من نلتقي من أصدقاء حتى الساعة الرابعة. ثم نعود للعمل حتى الساعة الثامنة مساء. بعد العشاء نستقبل الناس الذين كنا قد أعطيناهم مواعيد…”.     ويضيف سارتر:

يبدو الأمر غريبا ولكننا في مقهى لو فلور” كنا في منزلنا!..”.

    وتتابع سيمون شرح الوضع: “لا يهم أننا نقيم في غرفة واحدة، وتنقصها العذوبة… كانت لدي باريس، شوارعها، ساحاتها، مقاهيها “.. كما جاء في كتابها  La Force de L’âge ، وهي التي أطلقت موضة الكتابة في المقهى.

وعندما كانت مستغرقة في كتابها  Tous les hommes sont mortels، كان سارتر يكتب Les chemins de la liberté

كان جو البيت أشبه ما يكون بأجواء مدرسة

هنا خلقت “الوجودية

    أحد الصحافيين الساخرين قسم نهار الوجوديين” على النحو التالي: في الربيع والصيف يأخذ الوجودي حمام شمس، من الساعة 11 إلى الساعة الواحدة في المقهى، ثم يذهب للغذاء في أحد مطاعم الحي. في معظم الأحيان بالدين. بين الثالثة والسادسة في المقهى… بين السادسة والسادسة والنصف يعمل… بين السادسة والنصف حتى الثامنة في المقهى… من الثامنة حتى منتصف الليل في البار… ومن منتصف الليل حتى العاشرة صباحا… الله يعلم ماذا يفعل…”.

في المقهى كانوا يسترقون النظر إلينا، ويوشوشون بعضهم البعض… كما كتبت سيمون في كتابها  La force de l’ âge. 

كانت باصات السياح الأميركان تقف أمام المقهى، لأن السياح يطالبون برؤية سارتر بعد أن يكونوا قد زاروا برج إيفل وقوس النصر… كان معلما من معالم العاصمة

قبل ذلك في ستينيات القرن الماضي كانوا يتوقفون لرؤية بريجيت باردو أو جان فوندا (كلتاهما على قيد الحياة)…

اليوم لم يبق على حاله سوى فندق La Louisiane الذي كان يسكنه سارتر

تلك كانت حياته على مدى ثلاثين عاما

وآخر البدع أن صاحبة المقهى أعلنت عام 1994 عن إنشاء جائزة مخصصة للكتاب الشباب، تشتمل على 6150 يورو (لم أفهم ما ضرورة الـ 150 يورو… ولكنها طبيعة الفرنسي الذي لا يطيق الأرقام المقفلة les chiffres ronds. (لسبب في نفس المالية…!)، إضافة إلى تقديم مشروب خاص بالمقهى إلى الفائز لمدة عام في كأس حفر عليها اسمه…!

Visited 48 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني