الكتابة والكلام أمام شرطة الكتابة والكلام
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول الاحتفالي إذا كان لابد من الاختيار بين الصمت والكلام، فإنني أختار الكلام، وإذا كان لابد أن الاختار بين الكلام التافه والصمت البليغ، فإنني أختار الصمت الناطق والمتكلم والحكيم، وإذا كان لابد من الاختيار بين الصمت الواضح والكلام الغامض، فإنني أختار الصمت الواضح، والذي قد يقول ما لا يقوله كلام ملتبس ورمادي، وفي زمن من الزمان كتب الاحتفالي في كتاب (الاحتفالية في أفق التسعينات) وقال: (لم يعد الصمت ممكنا).
واليوم، وفي ظل هذه الفوضى التي يعرفها نزيف الكلام، ويعرفها هذيان كثير من المتكلمين، عبر وسائل التواصل المتعددة، نجد من الضروري أن نقول لكل هؤلاء المتكلمين، والذين ينطقون بالحق مرة، وينطقون بالباطل مليون مرة، نقول لهم: (– بحق الله ارحمونا من هنا الكلام الذي لا يقول لنا شيئا، والذي لا يضيف إلى ديوان الكلام وإلى تاريخها الإنساني والكوني أي إضافة حقيقية).
ومن حق الكاتب الاحتفالي العمومي اليوم، إن لم يكن من واجبه أن يتساءل أمام نفسه وأمام كل الناس، وأن يقول:
— هذا الصمت وذاك الكلام، ما معنى هذا وما معنى ذاك؟
نعرف أن العاصفة الناطقة يسبقها الصمت، ونعرف أن كل صمت هو كلام آخر بلغات أخرى، وأن ذلك الصمت المتكلم يحتاج لمن يفك شفرته، ونحن جميعا نعرف أن الكلام المفكر فيه وبه يسبقه شيء كثير أو قليل من الصمت، والذي قد يكون معناه التأمل، وعليه، فإن كل ما يأتي في وقته وفي أوانه وفي سياقه هو شيء له قيمته وله خطورته بكل تأكيد، ويقول الاحتفالي بأن من يعرف متى يتكلم، ولا يعرف متى يصمت ،فإنه لا جدوى من كلامه، وقد يكون صمته أحسن من كلامه في كثير من الحالات وهو لا يدري، وهذه الطبيعة التي تكلمنا، بريحها ونسيمها وبرعدها وبعواصفها وبزوابعها، هي نفس تلك الطبيعة التي تكلمنا بصمتها وبهمسها وبإشاراتها الحكيمة والبليغة.
كلام في درجة البيان والتبيين
وعندما لا تتكلم أيها الكائن المتكلم وتكون قادرا على الكلام. وتكون لك معرفة بمعانى هذا الكلام، ويكون أمامك ما يستدعي أن تتكلم، وأن لا تسجل رأيك وموقفك، وأن تدلي بشهادتك، فإن هذا لا يمكن أن يكون له غير معنى واحد، وهو أنك كائن حجري ولست بكائن بشري، وقد يكون له معنى آخر. وهو أنك غائب في حضورك، أو أنك في غيبوبة وأنت لاتدري، وبهذا يكون من حقنا أن نقول لك ما قالته لنا الأغنية المغربية: (والله ما انت معانا). وما أكثر الذين هم معنا وليسوا معنا، وقد يكونون ضدنا ونحن لا ندري..
ولقد التجأت الاحتفالية إلى البيان، لأنها أتت الناس بأفكار جديدة تحتاج إلى تبيان، فهي كلام أولي واساسي يحتاج إلى كلام إضافي لشرحه وتفسيره وتقريبه من عقول الناس، ولقد التجأت هذه الاحتفالية دائما إلى البيان سعيا منها (إلى التفسير وإلى التوضيح وإلى الكشف وإلى فتح المغلقات، وإلى فك العزلة عن الأجساد المسيجة، وعن الأفكار المقموعة والمصادرة، وهي تؤسس الفعل ورد الفعل، وتنتظر أن يكون المضاعف الآخر معادلا لفعلها المؤسس في القوة، ومعاكسا له في الاتجاه. وألا يكون مجرد انفعال آني وظرفي ومزاجي، وهذا ما يجعل هذه الاحتفالية دائمة الإنصات إلى صوت اللحظة وإلى صوت الكلمات، وإلى صوت المخالفين فيها. وإلى صوت المختلفين حولها وإلى صوت المخنلفين عنها).
لقد ورد هذا الكلام في كتاب بعنوان (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الثاني، والذي جاء في كتاب سابق بنفس العنوان، وذلك في تاريخ سابق، مما يعني أن الاحتفالية كلام يحرض على الكلام. وأنها مواقف لا تكتمل إلا بالمواقف المختلفة والمخالفة والمضادة، ولحد هذا اليوم، ويعد قرابة نصف قرن، هل تحقق شيء من هذا؟
وبدل أن يتم مناقشة هذه الإضافات الفكرية، وأن يتم نقدها علميا، فقد رأى البعض بأنه كان علينا أن نمارس الصمت، وأن نبتعد عن التفكير وعن التعبير، وأن نكتفي بكتابة نصوص مسرحية بلا لون وبلا طعم، نصوص عمياء وخرساء وصماء، لا ترى شيئا، ولا تسمع شيئا، ولا تقول شيئا، ولا تضيف شيئا، وفي هذا المعنى قال أحد القائلين (مثلا، عبد الكريم برشيد كان من الممكن أن يكون كاتبا مميزا، لكنه ضيع وقته في كتابة لم تضف إلى المسرح شيئا).
سبحان الله. لأول مرة أعرف أن إضافة الفكر المسرحي والعلم المسرحي والفقه المسرحي للإبداع المسرحي يمكن أن يفقره بدل أن يغنيه. بمعنى أنه إذا كانت لديك بطيخة. وأضفت إليك بطيخة أخرى. فإن عدد البطيخ بين يديك سيكون صفرا ..
الكلام الاحتفالي كان دائما مزعجا، والمتكلم الاحتفالي كان أيضا دائما مزعجا، ولم ينتبه كثير من المنتسبين إلى المسرح أن هذا الكلام – كلامنا هو كلام مسرحيين، وليس كلام جزارين أو كلام نجارين، ولكنه كلام مسرحيين في المسرح. كلام روحه المسرح، وموضوعه المسرح، ومضمونه المسرح، وهو تفكير في المسرح من داخل المسرح، وبلغة الفكر المسرحي وبمنهجيات العلم المسرحي وبأدوات وآليات الفقه المسرحي.
الكلام بكل اللغات الكائنة والممكنة
ونعود إلى خرافنا، بحسب التعبير الفرنسي، ونقول ما يلي:
في بدء الخليقة، كان الصمت وحده، لا ثاني له ولا شريك له، وذلك في هذا النظام الكوني اللامتناهي، ثم من بعد حضر الكلام، بحضور الإنسان العاقل والمفكر والمبدع والمتكلم والمحتفل والسعيد والمعيد، وكان هذا الكلام فعلا وفاعلية في التاريخ، القديم والحديث والمعاصر، ولقد كان الإنسان في رقصه متكلما. وكان في إنشاده متكلمأ، وكان في لباسه متكلما، وكان في عزفه على الطبول متكلما، ولقد أصبح اليوم لهذا الكلام الواحد درجات متفاوتة كثيرة جدا، أعلاها وأغلاها وأغناها الإنشاد والغناء والطرب والتراتيل الصوفية والشطح والهذيان، ولقد أصبح ذلك الصوت الواحد الأوحد حزمة أصوات متعددة ومتنوعة، أصوات متحاورة فيما بينها ومتجاورة ومتناغمة ومتكاملة ومتقاطعة، وأصبحت بذلك ألحانا مركبة تنطق وتعبر وتصور وتترجم وتشير إلى أشياء كثيرة جدا، وأصبحت تدل على حالات وعلى مقامات وعلى قناعات وعلى اختيارات وعلى انفعالات صادقة. ولقد جاء الاحتفال العيدي والطقوسي ليختزل كل هذه اللغات في لغة واحدة، وكان المسرح هو هذه اللغة الأم أو الأب، ولهذا فقد استحق هذا المسرح أن يعرف بأنه أبو الفنون كلها، وأن تكون لغته المركبة هي أم كل اللغات.
في هذا العالم يحضر الكلام أذن، ومعه يحضر أخوه الصمت، يحضران معا مثل حضور الأبيض في الأسود، وحضور النور في الظلام، والبعض يقول لك اليوم اعرف نفسك، بالتأمل الصامت، والبعض الآخر يقول لك عرف بنفسك إن كنت تعرفها، واستعن بالكلام وتكلم حتى أعرفك، وستجد من يقول لك بأن فعل الصمت هو وحده الفعل، وأن كل ما سواه هو اللافعل، وهو وحده الحكمة التي يمكن أن تنجيك وتغنيك، ولقد اختارت الاحتفالية أن تتكلم، لأنها فلسفة الإنسان المدني، ولأن الأصل في هذا الذي نسميه الإنسان هو أنه حيوان ناطق ومتكلم وراقص، ولقد اختارت الاحتفالية أن تكتب أيضا، لأن الكتابة هي أخطر ما اكتشف أو اخترع الإنسان، ولقد اختارت أيضا أن تفكر، لأن التفكير فرض عين، على كل عاقل وعاقلة، وعلى كل محتفل في محفل الوجود والحياة.
ولقد اخترت، أنا الكاتب المفكر، أن أفكر، وأن أعبر، وأن أشاغب، وأن أحاور، وأن أجادل، وأن أختلف، وأن أخالف، وأن أحضر حيث ينبغي أن يكون الحضور، وبالتأكيد فإن بعض الصمت أحسن من كثير من الكلام التافه، والذي قد لا يعني شيئا ولا يدل على أي شيء، والذي قد يكون مجرد ثرثرة، وما أكثر الصمت الحكيم الذي قد لا يقدر أن يقوله كثير من الكلام وكثير من الكتابة، يقول النبي المصطفى (ص): (رحم الله امرأ قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم)، مما يدل على أن أقصى ما يمكن أن يفيد به الصمت هو سلامة الصامت، ولكن الكلام المفيد يمكن أن يفيد كل الناس، والغنيمة موجودة في بعض الكلام، والسلامة كامنة في كثير من الصمت الجبان، ولقد اختارت الاحتفالية أن تجهر بالحق، وأن تؤمن بالاحتفال، وأن تبشر به، وأن تدعو له، وأن تفلسف وجوده في حياة الناس وفي حياة كل الجماعات والمجتمعات الإنسانية.
الاحتفال الوجودي بين حد الوجود وحد العدم
وأن تكون احتفاليا فمعناه أن تكون موجودا في الوجود، وأن تكون إنسانا بحس إنساني، وأن تكون مواطنا ومدنيا بحس مدني، وأن تكون متصالحا مع نفسك ومع الناس، ومع رب الناس، وأن تحيا بصدق، وأن تكون شاهدا صادقا على الحياة وعلى حياة الناس الأحياء في هذه الحياة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في كتاب (البيانات الجدية للاحتفالية المتجددة):
(إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين؛ حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا الاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والدينية والوطنية والكونية، احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مساراتها).
ويخطئ كل من يظن أن خطورة هذه الاحتفالية موجودة في أفكارها وفي اختياراتها الجمالية فقط، وكثير من الأجساد والأرواح في هذا العالم لديها أفكار جديدة، ولكنها لا تقدر أن تخرجها من دائرة الصمت إلى دائرة الكلام ومن دائرة الظل إلى دائرة النور، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يقول في كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) للأستاذ عبد السلام لحيابي، وأن يؤكد على أن هذه الاحتفالية ليست شيئا آخر غير أنها (الجرأة في التفكير، وهي الوعي النقدي، وهي الجرأة في طرح السؤال، وهي طرق الأبواب المغلقة، وهي الكشف عن المستور، وهي الشك في المسلمات، وهي مراجعة البديهيات، وهذا ما جسدته الاحتفالية في فكرها ومسرحها وفي أدبياتها وفي مواقفها اليومية أيضا، والتي هي أساسا أفكار احتفالية حية ومجسدة).
ومن يذكر أفكار الاحتفاليين، فإن عليه أن يتذكر مواقفهم ايضا، وأن يعرف تاريخ هذه الاحتفالية من أجل أن يكون لها موقع قدم على هذه الأرض، ولقد كانت دائما قوة ناعمة في المواقف الناعمة، وكانت قوة خشنة في المواقف الخشبة. والتزمت دائما بمقولة (لكل مقام مقال) وكلمت العلماء بلغة العلم، وكلمت الشعراء بلغة الشعر، واضطرت في كثير من الأحيان أن تخاطب المهرجين بلغة التهريج، وكل ذلك من غير أن تفرط في ثوابتها الفكرية وفي قناعاتها المبدئية، وأن تجتاز هذه الاحتفالية ذلك الزمن الصعب الذي كان بامان، فإن معنى ذلك أنها لم تكن رقما سهلا في كل المعادلات التي واجهتها، خصوصا في بداياتها الأولى. والتي كانت صعبة وشاقة جدا.
الحقيقة الغائبة والحقيقة المغيبة
ويؤمن الاحتفاليون بأن الحقيقة مطلقة ولكن وجهات النظر إليها وفيها متعددة، وقد يكون السراب ماء في عين التائه الضمان في رمال الصحراء. وقد تخدعنا عيوننا أحيانا، وقد يخدعنا بعض الناس أيضا، ولكن باب المراجعة والتصحيح والتوضيح يظل مفتوحا، ويؤكد الاحتفالي على أنه (في هذا العالم… هناك حقيقة غائبة، أو مغيبة، أو مقموعة، أو ممنوعة، ولكنها بالتأكيد موجودة، إن لم يكن ذلك هنا، فهي هناك، وإن لم تكن حاضرة في هذا اليوم، فهي حاضرة في الآتي من الزمن، وقد آمنا دائما بأن كل آت قريب، وبأن ما نمشي باتجاهه لابد أن ندركه، ورددنا مع النفري قوله على لسان الحق (القرب الذي تعرفه مسافة.. والبعد الذي تعرفه مسافة.. وأنا القريب البعيد بلا مسافة) وهكذا هي الحقيقة في العين الاحتفالية، قريبة بعيدة بلا مسافة) وهذا ما جاء في كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) للأستاذ عبد السلام لحيابي.
ومع اقتناعه بأن هذه الحقيقة قد تكون داخله وهو لا يدري، وأن تكون قريبة جدا من نظره ومن سمعه. فإن هذا الاحتفالي لم يتوقف لحظة عنهأ، ولقد بحث عنها في أعماق نفسه وروحه اولا، وبحث عنها أيضا في أشعار الشعراء وفي كتب المفكرين والحكماء، ولمن يسأل عن معنى الرحلة والترحال في الرؤية الاحتفالية نحيله على المشهد التالي:
ففي كتاب (الرحلة البرشيدية) يقدم لنا الكاتب الاحتفالي وجهه الآخر، متمثلا في شخصية لا تفعل سوى أن تسافر وترحل، وعن ذلك الاحتفالي الآخر يقول:
(وسألته ما هي مهنته فقال:
ـ هي الرحيل يا صاحبي، وأقدم مهنة في التاريخ هي الرحيل، وسألته إلى أين ترحل الآن فقال:
ـ إلى حيث يشاء الله، إنني أرحل بين حدين؛ حد الوجود وحد العدم، وحد البدء وحد الختام، وحد الشك وحد اليقين، وحد الحضور وحد الغياب، وحد الامتلاء وحد الخواء، وحد الضوء وحد الظلام، وحد الحب وحد السلام، وحد اليقظة وحد المنام، وحد الصحو وحد السكر، وحد الكتابة وحد لكلام).
وما الذي يمكن لهذا الاحتفالي المسافر ان يبحث عنه تحديدا؟
بالتأكيد هو يبحث عن الجمال، لأنه لا معنى لأن نرحل بحثا عن القبح، ولكن هل هناك جمال حقيقي يمكن أن يكون له وجود خارج أرواحنا الجميلة وخارج نفوسنا الجميلة وخارج عيونتا الجميلة؟ مما يعني أن ما نبحث عنه موجود فينا، وانه قريب جد منا.
وفي معنى هذا الجمال القريب البعيد يقول الاحتفالي في رحلته الافتراضية هو (قيمة مقتسمة، نصفها موجود فينا ونصفها الآخر موجود في الآخرين.. موجود في الناس والأشياء وموجود في العلاقات السليمة وفي العيون التي ليس بها حول ولا عور، وليس بها عمى.. إن النفوس الجميلة هي وحدها التي تدرك جمال الوجود ، وتدرك جمال الموجودات، وتدرك روح الحياة.
الكتابة والكلام اتجاه ممنوع ومقموع
ولعل أسوأ شيء، بالنسبة للاحتفالي، الكاتب والمتكلم معا، هو أن يجد نفسه ممنوعا من الكلام ومن الكتابة ومن التامل ومن التفكير. وأن يجد نفيه داخل مشهد عبثي وسوريالي، وأن يجد أمامه وهو فيالطريق العم، شرطة الكلام أو أمام جندرمة الكتابة، وهذا نفس ما وجده المسافر الاحتفالي في رحلته الافتراضية. والتي عبر عنها بشكل ساخر في كتاب (الرحلة البرشيدية).
ومن المبكيات المضحكات أن نجد هذا الاحتفالي الحر، والذي أسس الاحتفالية، لأنها حرية وتحرر. ولأنها حياة وحيوية، والذي رفع شعار (احتفالية بلا ضفاف احتفاليون بلا حدود)، نجده محاطا بالعكس والحرس ومقيدا بالتعاليم السلطوية التي لا تقبل القاس والجدل.
هذا الحتفالي، الكاتب والمتكلم. وجد نفسه فجاة، ومن حيث لا يدري ولا يريد، أمام حزمة كبيرة من علامات التشوير العبثية، والتي تحدد له الاتجاه والسرعة، وتمنعه من أن يسير في طريق الفكر والعلم. وأن يكتفي بأن يسير في طريق المهنة والحرفة. وألا يسأل ولا يتساءل. وألا يخوض في المسائل الفكرية والفلسفية والعلمية الكبيرة والخ، وأن يلتزم الحذر في المنتجات الخطيرة.
وهذه الاحتفالية هي أساسا حياة وهي طريق في الحياة وهي طريقة للتفاعل مع فواعل ومع عناصر ومع حالات ومع مقامات ومع مواقف هذه الحياة. والتي هي خط مستقيم يتجه نحو ذاته ونفسه ويسيعيد بدايته بشكل تجدد (ولانهذاالخط يعشق، ذاته، فإنه يعود إلى بدايته وإلى منطلقه، وبذلك فإنه يصبح دائرة،وبكون ممثلا لخط الطبيعة ويكون مشابها لخط الحياة، ويكون محاكاة لخط الوجود. ويكون الأساس، في هذا الخط هو العشق دائما؛ العشق المعالي وعشق الجمال عشق الحركة عشق الكلام وعشق الكتابة وعشق البوح وعشق التعييد وعشق التفكير، وهي ذات تفكر. تعرف أنها تفكر، تعرف (طبيعة) الموضوع الذي تفكر فيه، وتعرف حدود هذا التفكير، تعرف مبتدأه. لا يهمها أم تعرف منتهاه).
يقول الكاتب الثاني في (الرحلة البرشيدية):
(إنني أكتب في هذا الكون، وأنا جزء من هذا الكون، ويهمني أن أبلغ سقف هذا الكون، وأن أصل إلى منتهاه، وأن أكتب في التاريخ، وألا أكون مجرد حدث في هذا التاريخ، وأن أسعى لأن أعرف فلسفة هذا التاريخ، وأن أعرف مساره ووجهته، وأن أقبض على روحه، وأن أسافر مع ريحه المسافرة، وأن أقبض على روحه، ويهمني أن أعيش ظواهر المجتمع، وأن أعرف، كيف تتأسس هذه الظاوهر في هذا المجتمع، وما الذي يؤسسها ..
إنني أقرأ الأفكار الكبرى، وأسعى لأن أعرف من أين تأتي هذه الأفكار، وكيف تأتي، ومن أية جهة تأتي..).
وفي مشهد ساخر يصور الاحتفالي في رحلته فوضى الكتابة وعبثية الكلام. مع وجود سلطة تريد أن تتحكم في الكتابة والكلام والتفكير.
هذا المسافر في عالم الفن والفكر يجد نفسه وهو في طريق الكتابة والكلام محاطا بالشرطة وبالدركيين وبالمفتشين، وبكل الذين يزعمون بأنهم يسهرون على تطبيق القانون في الكتابة والكلام، وهو القانون الذي لا وجود له. وإليكم هذا المشهد، وبه نختم هذا النفس الجديد من هذه الكتابة المتكلمة:
يقول الاحتفالي:
(إنني أقف الآن في وسطهم، فهذا دركي يميني عن يمني، وهذا دركي يساري، وهذا دركي تقدمي في المقدمة، وهذا دركي تخلفي في الخلف، وهذا دركي وسطي في الوسط، وهذا دركي ميتافيزيقي في السماء، وهذا دركي هوائي في الهواء، وهذا دركي ترابي في التراب.. لقد سألوني وأجبتهم، والصحيح أنهم استنطقوني فنطقت بين أيديهم.. اسمعوا الكلام العجيب الذي دار بيننا)، وإليكم الكلام الذي دار بين الكاتب المتكلم وبين حراس طريق الكتابة والكلام:
(– قف.. ارفع يديك إلى الأعلى..
ورفعت يدي إلى الأعلى، وفوضت أمري إلى خالقي، وقالت لي نفسي، يظهر أن هذا اليوم لن يكون كباقي الأيام..)
ويسألني الدركي السائل:
(– هل أنت كاتب؟
— بحسب علمي المتواضع، وإلى حد الآن، فأنا كاتب..
— وهل لديك شهادة تشهد لك، بأنك تعلم علم الكتابة؟
— لدي شهادات كثيرة يا جنرال..
— وهل لديك رخصة؟
— رخصة؟ رخصة ماذا يا سيدي الجنرال؟
— رخصة سياقة الكتابة ..
وأضحك في وجهه وأقول له:
(ــ أنت بلا شك تضحك معي يا سيدي الجنرال، أليس كذلك؟
— أبدا، وليس رخصة الكتابة فقط، ولكن رخصة التفكير والتنظير أيضا، ورخصة الدخول إلى ممالك الخيال المحظورة..
— يا سبحان الله، ومتى كانت الكتابة تحتاج إلى رخصة؟
— كل شيء، وكل فعل، وكل حركة، وكل سكون، في هذا الكون، يحتاج إلى ترخيص، هل فهمت؟
— أعدك بأنني سأحاول أن أفهم..
— ويحتاج إلى إذن مكتوب ومختوم من قبلنا.. لا تنس أنك في دولة الحق والقانون..
— وبأننا حراس وعسس القانون، وبأنك في حارة النظام، وأننا نحن من يقيم النظام، ومن يحميه من الفوضى ومن الفوضويين، وعليه، فإننا نسألك، من أذن لك بالكتابة؟
— أذن لي رب العالمين ومالك الدنيا والدين..
— ومن أنت حتى تكتب عن الناس؟
— من أنا؟ أنا واحد من الناس..
— ثم أيضا، ألا تعرف بأن في هذه الكتابة عن الناس شيء من الفضول، وبأن الفضول خلق سيء؟
— ليس هذا فضولا يا سيدي الجنرال، لأنني في حقيقة الأمر لا أكتب إلا عني وعن نفسي، وكل أسماء الشخصيات التي في مسرحي هي أسمائي أنا، وهي تفريعات وتنويعات لذاتي الواحدة والمتعددة.. أنا هي وهي أنا، وأنا أتعدد بها، وأتمدد فيها، وأتجدد من خلال حكيها ومحاكاتها.. (صمت)
وبعد أن أديت المعلوم، أفرجوا عني وقال لي واحد منهم:
— اذهب فأنت حر.. أنت حر إلى أن نلقاك في مفترق الطريق الآخر، أو في ملتقاه..).
لن أقول لكم انتهى الكلام. وألقاكم في النفس القادم.
Visited 33 times, 1 visit(s) today