“الوادي الكبير” بانُوراما روائيّة مُشوّقة ومُؤلمة في آن

“الوادي الكبير” بانُوراما روائيّة مُشوّقة ومُؤلمة في آن

د. محمّد محمّد الخطّابي

    تشكّل رواية “الوادي الكبير ” للرّوائي الاسباني خْوَان إسْلافا غالاَنْ بانوراما روائيّة مؤلمة ومشوّقة فى نفس الوقت إذ أنها تسلّط الأضواء الكاشفة على الوجود العربي والأمازيغي في بلاد  الأندلس فى تاريخ قريب من الاندحار. تأتي هذه الرواية انطلاقاً من منظور إعادة الاهتمام بالثقافة الاسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث تطرح أمام قرّائها وجهة نظر حول الصراع الذي دار بين ال القشتاليّين والمسلمين لبسط نفوذهم، وتأكيد وجودهم، و فرض هيمنتهم على سهل الوادي الكبير في النّصف الأوّل من القرن الثالث عشر الميلادي.

صراعات وخلافات ومواجهات

    تقدّم لنا هذه الرواية  كذلك فى سياقها التاريخي بانوراما روائية مثيرة حول الصّراعات، والخلافات، والمواجهات التي كانت تنشب بين الخلفاء المسلمين أنفسهم في الأندلس، والتي انتهت في آخر المطاف بتدخّل دولة الموحّدين المغاربة في شبه الجزيرة الإيبيرية، بعد أن كانت قد تدخّلت فيها قبلهم دولة المرابطين، وتقدم الرواية نظرة شمولية عن الحياة اليومية المتواترة، وعن العادات،والعوائد ، والتقاليد والأعراف،والممارسات التي كانت سائدة  ومنتشرة في الاندلس في ذلك الوقت، فضلاً عن الاضاءات التي تعكس العلاقات بين مختلف الثقافات التي تعايشت في ظلّ الحضارة  العربية، بما فيها الثقافتان المسيحية واليهودية على وجه الخصوص، ويجعل الكاتب جَالاَنْ  من مدينة “جيّان” الأندلسية  (التي أصبحت تكتب وتنطق  اليوم فى اللغة الإسبانية Jaén) نقطة انطلاق لأحداث في روايته، وتحريك شخصياتها، حيث يمتزج فيها التاريخ بقصص الحب، والهيام، وبتباريح الجوى والصبابة والأوام ، فضلاً عن  رصده لمختلف الكمائن، والخدع، والدسائس، والمكائد التي كانت تحاك في الخفاء في دهاليز وردهات البلاطات الخليفية، وتصويره لمختلف النزاعات والصراعات، والمواجهات والمشاحنات والمشاكسات التي كانت تنشب بين الأسر الحاكمة في مختلف المناطق  والأرباض الأندلسية، مع توجّسهم الدائم  من مواجهة الاخطار وصدّ ّ أعدائهم، وردّ زحفهم، وهجماتهم ومحاولاتهم الاسترجاعية  La reconquista.

على ضفاف الوادي الكبير

    و”الوادي الكبير” الذي  اختاره الكاتب غالان  عنواناً لروايته يعتبر من أكبر الأنهــار الأندلسية، ونجده مبثــــــوثاً في طيّات الكتب وبطون المصادر، ومتون المراجع والمظان، وفى مختلف النصوص الأدبية، والشعرية، والتاريخية،  كما نجده كذلك مُستعمَلاً في غنائيات الزّجل، وفى أنغام الخرْجات، وصيحات الموشّحات الأندلسية، وآهات أغاني الفلامنكو الغجرية الشهيرة، وقد اقترن اسمُ هذا النّهر على امتداد تاريخ الأندلس وعلى وجه الخصوص  بمدينة إشبيلية الغراء وبشعرائها، وكتّابها، وفنّانيها، وكذا بعاصمة آل بني عبّاد وآخر ملوكهم المعتمد بن عبّاد  المأسوف على مصيره  المنكود الطالع في أسره النائي البعيد في أغمات بالقرب من مدينة مراكش الحمراء، كما خلّد هذا النهر العديد من الشعراء الإسبان،  من أشهرهم  الشاعر الأندلسي الكبير أنطونيو متشادو. وأذكّر  القراء الكرام بقصيدة مقتضبة  من ترجمتي عن اللغة الإسبانية  عن: “الوادي الكبير”.. لهذا الشاعر الاندلسي الذائع الصيت والمدرجة فى كتابي الصّادر مؤخّراً فى الأردن الشقيق عن دار النشر (خطوط وظلال للنشر والترجمة والتوزيع) المرموقة بعنوان: (قطوف دانية من الشعر الإسبانيّ و الأمريكيّ اللاّتينيّ المعاصر).

يقول الشاعر “ماتشادو” عن هذا النهرالذي ما زال يشقّ الأراضي الأندلسيّة  ويحمل اسمَه العربي القديم  حتّى اليوم:

ألم ترَ سلسلة جبال كاسورلا

حيث يولد الوادي الكبير

بين الحِجارة قطرةً، قطرة

هكذا تتولّد أغنية

مثل هذا النّهر الخالد

المُنساب نحو قرطبة

ثمّ صوب إشبيلية

وأخيراً يضيع فى اليمّ

الزّاخر العميق.

وأين شاطــــبةٌ أمْ أين جيّـَانُ..؟

    ويشير الكاتب جالان أنّ التاريخ قد سجّل لنا في الفترة المتراوحة بين القرنيْن الحادي عشر والثالث عشر حدثاً مهمّاً عُرف بـ”توسيع مملكة قشتالة” أيّ ما أطلق عليه المؤرخون الإسبان بـ”حروب الاسترداد” La Reconquista وقد تمثل هذا الحدث في الصّراع الذي دارت رحاه من أجل فرض الهيمنة على الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الإيبيرية، وفي عام 1212 أمكن للنّصارى بسط نفوذهم بقيادة ملك قشتالة فرناندو الثالث الذي كان يُلقب بالقدّيس على الحيّز العربي- الأمازيغي المعروف في الروايات العربية والإسبانية والأجنبية بـ” الأندلس” بما فيه الوادي الكبير، وفي خضمّ هذا الاندحار العربي أمكن للملك فرناندو بسهولة استرجاع مدينتي قرطبة عام 1236 وجيّان عام 1246، هذا هو الإطار التاريخي الذي تتحرّك فيه الرّواية، أيّ من عام 1209 عندما بدأ النصارى يشنّون هجماتهم على أرباض، وضواحي، ونواحي مدينة “جيّان” حتى تسليم المدينة بعد حصار طويل عام 1246،  ويعيش  القارئ خلال هذه الأربعين عاماً حياة الشخصية الرّئيسية في هذه الرواية  أطلق عليه المؤلف اسم “سليم” وهو من أسرة بني نصر العربية الأصيلة في  مدينة جيّان، الذي عايش مختلف الأحداث، والتقلبات والهزّات والهجمات، والهزائم والانتصارات والخدع والمكائد، والتمرّدات والتغيّرات ومختلف الاحداث التي عرفتها بشكل عام هذه المدينة.

    يذهب  بطل الرواية “سليم” إلى موعد غرامي في أطلال من بقايا مآثر الموحّدين في سهل  نهر الوادي الكبير، وهناك يلتقي فارساً كان يُحتضر من الفرسان المُدجّجين الذين كانوا يؤمّنون  سلامة  وأمن سبل المارة والحجّاج، وأسرّ هذا الفارس لـ “سليم”  بسرٍّ خطير مفاده وجود كنز ثمين ذي قيمة روحية عظمى دفين في مكانٍ مّا يبحث عنه المسلمون والمسيحيون على حدٍّ سواء، منذ مدّة زمنية بعيدة ، ويعيش بطل الرواية متخفّياً، هارباً، حائراً، فارّاً ممّن يتعقبونه ويقتفون  أثره لينتزعوا منه هذا السرّ الكبير الذي باح له به الفارس الغامض وأودعه عنده  قبيل مفارقته الحياة.

من المعروف أنّ الشاعر الأندلسي الذائع الصّيت أبو البقاء الرُّندي رثى غير قليل من المدن الاندلسية الشهيرة فى هذه الفترة من تاريخ الاندلس  منها  مدن: جيّان، وقرطبة، وبلسية، ومُرسية، وشاطبة، وسائر الأمصار والحواضر الأندلسيّة الأخرى في قصيدته النونية الشهيرة التي يقول فى مطلعها:

لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ / فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ ..

هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ / مَنْ سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ ..

إلى أن يقول مُتحسّراً، ومُتأسّفاً عن سقوط هذه الحواضر الواحدة تلو الأخرى:

فاسأل بلنســيةَ ما شأنُ مُرسية  / وأين شاطــــبةٌ أمْ أين جيّـَانُ…

وأين قرطبةٌ دارُ العـــلوم فكمْ  / من عــالمٍ قد سمَــا فيها له شانُ

وعن مدينة “جيّان” يقول  كذلك شاعرُها مُصعب بن محمد بن مسعود الخشني حين خرجَ منها:

أجيَّانُ أنتِ الماء قد حِيلَ دونه   /وإنِّي لظمآنٌ إليكِ وصادي..

ذكرتكِ إن هبَّتْ شمالاً وإن بدا /لعينيَّ من تلك المَعالمِ بادي..

متى ما أُرِدْ سيرًا إليكِ تَرُدَّني / مخافةُ آسادٍ هناك عوادي..

على لسان حكواتي

    على لسان رجل طاعن فى السنّ  “حكواتي” أو “راوي” يقدّم لنا الكاتبُ  الاسباني روايته سارداً العديد من القصص  والحكايات والمرويّات والحكايات الشفوية التي لا تنضبّ ولا تنتهي، وهو يقدّمها باستمرار بأسلوب جذاب لا يخلو من إثارة وتطلّع ، ويتميّز هذا الحافظ أو الرّاوي بقدرة هائلة على تسيير دفة الكلم في الرواية الشعبية المتوارثة  على وجه الخصوص، وهو يستعمل مختلف الأساليب البلاغية، وينتهي بالكلمات الموشّاة التي تتميّز بها طريقة الرّواة الذين يعتمدون على الرّواية الشفوية، وهو حريص على استعمال أكبر قدْر من الكلمات العربية الأصل المبثوثة في اللغة الإسبانية التي تعدّ بالآلاف، (ما ينيف عن خمسة آلاف كلمة) ويبدو لنا هذا الحكواتي مسافراً، متنقلاً، ومتجوّلاً بين مختلف المدن، والقرى، والمداشر، والضيع، والأصقاع والحواضر، والأماكن التي كانت مسرحاً للأحداث في ذلك الزمان  الغابرالذي لم يعد له وجود سوى فى ذاكراتنا.

جالان أبو الرّواية التاريخيّة

    وتجدر الاشارة فى هذا المقام  ان الكاتب جالان مبدع متعدّد الاهتمامات، يطلق عليه النقاد الاسبان (أبو الرّواية التاريخية الإسبانية)  El Padre de la novela histórica نظراً لأعماله الروائية  الغزيرة في هذا القبيل، وهو حاصل على العديد من الجوائز الأدبية والتكريمية من أبرزها حصوله على جائزة (بلانيطا) الإسبانية المرموقة عن روايته “في البحث عن وحيد القرن”  En busca del unicornio وتُعتبر هذه الجائزة من كبريات الجوائز الأدبية في العالم الناطق باللغة الإسبانية إلى جانب جائزة سيرفانتيس المعروفة. وهو حاصل كذلك عن جائزة “فرناندُو لاَرَا” عن روايته “الآنسة”، فضلاً عن حصوله على جائزة “الربيع الرّوائية الإسبانية” عن روايته “سرّ جريمة منزل سيرفانتيس”.

    رواية “الوادي الكبير”  صدرت عن دار النشر “بلانيطا” الاسبانية الشهيرة  بشكلٍ متوازٍ في كلٍّ من إسبانيا والمكسيك. والغريب أن الكاتب “جالان” من مواليد أرجونة من أعمال مدينة (جيّان) الأندلسيّة عام 1948 التي تبعد عن مدينة غرناطة حوالي مائة كيلومتر، وبالمناسبة  تجدر الإشارة  في هذا القبيل أن أرجونة مدينة أو قلعة معروفة بالأندلس، وإليها يُنسب محمد بن يوسف بن الأحمر الأرجوني من متأخرى سلاطين الأندلس كما يحكي لنا التاريخ.

Visited 29 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا