بماذا نجح وفشل ماكرون في دعوته لانتخابات تشريعية مبكرة؟

بماذا نجح وفشل ماكرون في دعوته لانتخابات تشريعية مبكرة؟

نضال آل رشي 
       شهدت الانتخابات التشريعية الفرنسية يوم أمس، نتائج غير متوقعة ومثيرة للجدل، بدايةً بجولتها الأولى وحتى الجولة الثانية، حيث تكشف النتائج الأولية عن تراجع في تأييد حزب الرئيس إيمانويل ماكرون  “النهضة” بحلوله ثانياً خلف جبهة اليسار بقيادة ميلونشان، ومتقدماً على العدو اللدود حزب التجمع الوطني، بقيادة مارين لوبان، بعد فترة مضطربة من الحكم اتسمت بقرارات مثيرة للجدل، وتحديات اجتماعية واقتصادية متعددة.

نجاحات ماكرون :
    أولاً، من النجاحات التي يمكن أن تُسجل لماكرون، التزامه بالديمقراطية، وذلك من خلال اتخاذه قرار حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات جديدة، رغم المخاطر السياسية الكبيرة التي صاحبت هذا القرار. لقد جاء هذا الإجراء بعد الأداء السيء لحزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو ما يعكس رغبته في الاستجابة لضغوط السياسة الداخلية وتجديد شرعية حكمه عبر صناديق الاقتراع.
   ثانياً، على الرغم من التراجع الكبير في النتائج، فإن حزب ماكرون لا يزال يحتفظ بوجود مهم في الجمعية الوطنية، مما يمكنه من الاستمرار في التأثير على السياسات الوطنية. هذا الوجود السياسي يوفر لحزب “النهضة” فرصة لإعادة بناء التحالفات والعمل على تحسين صورته واستعادة ثقة الناخبين.
    ثالثاً، حرمان اليمين المتطرف من الحصول على الأغلبية، فرغم النجاحات التي حققها حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية. بالرغم من حصول الحزب على 33.3% من الأصوات في الجولة الأولى، مما يمثل ارتفاعاً ملحوظاً في شعبيته مقارنة بالانتخابات السابقة، إلا أنه حل في المركز الثالث خلف تحالف اليسار الجديد وحزب ماكرون “النهضة”.
    هذا الترتيب يشير إلى أن التوجهات المتطرفة للحزب لم تكن كافية لإقناع الأغلبية العظمى من الناخبين الفرنسيين. بينما استطاع حزب لوبان جذب عدد كبير من الناخبين الذين يشعرون بالاستياء من الوضع الاقتصادي والهجرة والسياسات الحكومية الحالية، إلا أن العديد من الناخبين الآخرين كانوا مترددين في دعم حزب يتميز بتوجهات قومية متشددة ومواقف مثيرة للجدل. هذه النتائج تعكس أيضاً الانقسامات العميقة في المشهد السياسي الفرنسي، وتؤكد الحاجة إلى بناء تحالفات متعددة الأطراف لضمان الاستقرار والحكم الفعّال.

إخفاقات ماكرون :
    من جهة أخرى، كانت هناك إخفاقات واضحة لماكرون في هذه الانتخابات،

    أولها وأبرزها هو خسارة الأغلبية في الجمعية الوطنية. النتائج الأولية أظهرت أن حزب ماكرون حصل على المركز الثاني باحتساب مجموع الأصوات، مما يعني تراجعه إلى المرتبة الثالثة بعد حزب التجمع الوطني وتحالف اليسار الجديد. هذه النتيجة تعني أن ماكرون سيواجه صعوبة كبيرة في تمرير أي تشريعات دون التوصل إلى تحالفات جديدة.
   ثانياً، صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان كان أحد أكبر الإخفاقات لماكرون. حزب التجمع الوطني استطاع أن يضاعف عدد مقاعده تقريباً، مما يعكس تزايد التأييد الشعبي للسياسات اليمينية المتطرفة على حساب السياسات الوسطية التي يتبناها ماكرون. هذا الصعود يشكل تحدياً كبيراً لاستقرار الحكومة الفرنسية ويزيد من الاستقطاب السياسي داخل البلاد.
   ثالثاً، القرار المفاجئ لحل الجمعية الوطنية تسبب في انقسامات داخلية كبيرة في معسكر ماكرون. العديد من حلفائه البارزين انتقدوا هذا القرار علناً مما يعكس الانقسامات والتوترات داخل الحزب. الانتقادات جاءت من شخصيات بارزة، مثل رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب، ووزير الاقتصاد برونو لومير، وهو ما يعقد مهمة ماكرون في توحيد صفوف حزبه والعمل بشكل فعال خلال المرحلة القادمة.
    رابعاً، تأجيل التحديات الاجتماعية المتزايدة التي واجهها ماكرون خلال فترة حكمه،و التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لتراجع شعبيته. حركة “السترات الصفراء”، التي بدأت في 2018، كانت تعبيراً عن الغضب الشعبي من السياسات الاقتصادية لماكرون، والتي اعتبرها الكثيرون منحازة لصالح النخبة على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. كما أن إصلاح نظام التقاعد، الذي أثار احتجاجات واسعة في 2023، كان أحد الأسباب الأخرى التي ساهمت في تراجع التأييد لماكرون.

مفهوم اليمين و اليسار والعقلية الأحادية:
    لفهم المشهد السياسي الفرنسي بشكل أعمق، من المهم التطرق إلى مفهومي اليمين واليسار في السياسة الفرنسية، وتأثير العقلية الأحادية الخطيرة التي يتبناها كلا الجانبين. اليمين التقليدي في فرنسا يتبنى سياسات اقتصادية محافظة واجتماعية متشددة، بينما اليسار يركز على العدالة الاجتماعية والمساواة ويدافع عن حقوق العمال والفئات المهمشة. في السنوات الأخيرة، شهدنا تحولاً في هذه الديناميكيات، حيث أصبح اليمين المتطرف يجتذب المزيد من الدعم،عبر تبني سياسات قومية ومعادية للهجرة، في حين أن اليسار الجديد، بزعامة جان لوك ميلنشون، يركز على التغيير الجذري ومواجهة النظام القائم.
    العقلية الأحادية التي يتبناها كلا الجانبين، تمثل خطراً كبيراً على الاستقرار السياسي والاجتماعي في فرنسا. هذه العقلية تتمثل في عدم القبول بالتعددية ورفض التعاون مع الأطراف الأخرى. اليمين المتطرف يرى نفسه كممثل وحيد لمصالح الأمة الفرنسية ضد ما يعتبره تهديدات داخلية وخارجية، في حين أن اليسار الراديكالي يتبنى موقفاً مماثلاً ولكن من زاوية مختلفة، حيث يرى نفسه كممثل وحيد لمصالح الطبقات العاملة والمهمشة ضد النخب الاقتصادية والسياسية. هذه المواقف الأحادية تزيد من الاستقطاب وتضعف إمكانية الوصول إلى توافقات سياسية وحلول وسط.

شعار حزب “الجمهورية إلى الأمام”
    شعار الحزب الذي يتزعمه إيمانويل ماكرون هو “En même temps”، ما يعني بالعربية “في نفس الوقت”، و القصد من وراءه أنه يمين ويسار بما يتناسب مع المصلحة الفرنسية، ويعكس فلسفة سياسية تهدف إلى تجاوز التقسيمات التقليدية بين اليمين واليسار، والعمل على إيجاد توازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. يعتمد الشعار على فكرة أن فرنسا تحتاج إلى قيادة تستطيع التعامل مع التحديات المعقدة، من خلال تبني سياسات مرنة وشاملة، تجمع بين الابتكار الاقتصادي والاهتمام بالقضايا الاجتماعية والبيئية. يهدف هذا النهج إلى بناء توافق وطني وتقديم حلول وسطية تلبي احتياجات أكبر عدد ممكن من المواطنين، بدلاً من الانحياز إلى جانب سياسي واحد.
    إلا أن هذا الشعار واجه انتقادات من قبل بعض المراقبين، الذين يرون أن التوازن المزعوم قد يؤدي إلى اتخاذ مواقف غير حاسمة أو مبهمة، مما يجعل من الصعب تنفيذ سياسات فعالة أو الحصول على دعم شعبي قوي. مع ذلك، يظل “En même temps” جزءاً أساسياً من رؤية ماكرون لمحاولة إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي وإيجاد مسار جديد للتقدم الوطني.
   في الختام، يمكن القول إن نتائج الانتخابات الجمعية الوطنية لعام 2024 تعكس تحولات كبيرة في المشهد السياسي الفرنسي، وتضع إيمانويل ماكرون أمام تحديات كبيرة، فنجاحاته في الحفاظ على وجود سياسي والالتزام بالديمقراطية تقابلها إخفاقات في مواجهة صعود اليمين المتطرف وانقسامات داخلية وتحديات اجتماعية متزايدة. بينما يستمر الصراع بين اليمين واليسار على النفوذ، تبقى العقلية الأحادية التي يتبناها كلا الجانبين تهديداً للاستقرار السياسي والاجتماعي في فرنسا، وقد تودي إلى شلل تشريعي وضعفٍ حكومي، وتحدّياً كبيراً للسياسة الخارجية، فهل يدفع هذا ماكرون إلى انتخابات جديدة في العام القادم؟

Visited 66 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث