أثمرت شجرة السدرة.. في “مواكب ملكة الدار”
لحسن أوزين
الكتابات التي تخرج من جوف الحرائق، وليس من المكاتب المكيفة، ومن ساحات الصمود في وجه الطغاة، ومن أعماق عذابات الآلام المتجذرة في القلب والذاكرة والجسد، في مواجهة القمع الدموي، و التمييز الجندري الذكوري. كتابات تتدفق شلالا هادرا من غصات القلب وجرح المكان في اغتيال الطفولة، وفرض الزواج القسري. الكتابات النابعة من جرج ينزف باستمرار، نتيجة بتر جزء من الذات، بدعوى حماية الشرف والعرض، والعفة والحصانة الذكورية المقرفة. إنها الكتابات التي تنتصب بفخر واعتزاز بالذات. وبفرح فياض بالحب والبهجة، وإيمان قوي بانتصار الانسان على عاهاته الذاتية والتسلطية القهرية، سواء الاستبدادية السياسية والدينية، أو المجتمعية والثقافية…
هذه الكتابات هي التي تمتلك حقا صدق الكلمة، جمالية اللغة، جدارة التعبير، وقوة الانتماء للإنسان والكينونة البشرية. وهي التي تشكل إضافة نوعية للتراث الإنساني.
هذا ما يجده القارئ الشغوف، المسكون بحب الانسان والفن الإبداعي الأصيل، في هذا الكتاب.
1/ من الفراغ العريض إلى أهازيج البناء والتغيير
يأتي كتاب “مواكب ملكة الدار” اعترافا وتقديرا وترسيخا لثقافة الإنجاز التي مارستها النساء، عبر تاريخهن الحافل بالفعل والعطاء والنضال والخلق والابداع. تاريخ غيبته سطوة التغلب القبلي الذكوري، والنظام السياسي الاستبدادي الأبوي. هكذا بخطوات جريئة من طرف شبكة فنون بنات مندي، وبالشراكة مع جمعيات ومنظمات نسوية واجتماعية مدنية، وبتنسيق وإشراف من الدكتورة إشراقة مصطفى حامد، تم تسليط ضوء الكتابة الإبداعية الأدبية، على العمق التاريخي الاجتماعي الإنساني، لثقافة العطاء والانجاز النسوية، التي قلما اعترف بها القمع الذكوري السياسي الاجتماعي، والثقافي الديني…
لهذا تمت العودة الى تاريخ الإنجاز الجميل والخلاق للنساء الجميلات، بقوتهن وشغفهن وصمودهن وعطائهن، وشجاعتهن في التأسيس لثقافة وقيم الإنجاز، ضدا على ثقافة التبعية والخنوع والأجساد المملوكة في يد النظام الأبوي الذكوري. تبعا لهذا الوعي الفكري الاجتماعي السياسي، والفني الإبداعي، تم الاحتفاء بالأرضية الأساس، من خلال إحدى الفاعلات المفكرات والمبدعات. إنها ملكة الدار محمد عبد الله، الناشطة والفاعلة الاجتماعية الثقافية والتربوية، والأديبة المبدعة، التي قدمت الكثير للشعب السوداني. واضعة الحجر الأساس لنساء مستقبليات جميلات في عطائهن وفعلهن وإنجازاتهن.
استمرارا لهذا العطاء كتبت الصبايا والشباب مجموعة من النصوص الأدبية الجميلة لغة وصياغة. والعميقة رؤية وفكرة، والغنية دلالة ومعنى. كتابات تنخرط في السيرورة الفكرية والإبداعية لنساء المجتمعات العربية الإسلامية، اللواتي غالبا ما تم قمع وطمس مجهوداتهن وإنجازاتهن، عبر التاريخ الاستبدادي السياسي والديني الذكوري. الى درجة أنها تعرضت أعمالهن للمحو والالغاء والنسيان، واختزل وجودهن وقيمتهن، تبعا للمنفعة المؤقتة واللحظية في استغلال أجسادهن، وقهر وتحطيم أرواحهن.
ضد تاريخ الغبن الذكوري، وما شابهه من الظلم والقهر، صمدت الكثير من النساء في وجه سياسات النظام السياسي الاستبدادي، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي هضمت حقوقهن في الحرية والكرامة والعدالة، وفي التعليم والرعاية الصحية…، وكانت ملكة الدار محمد عبد الله، واحدة من بينهن كفاحا وصمودا وتأكيدا لقدرة النساء على الإنجاز، والفعل الإنساني في مختلف المجالات المادية والرمزية. فقد كانت حريصة على متابعة التحصيل الدراسي، والتكوين العلمي المتين. الشيء الذي مكنها من تأليف عدد مهم من الكتب الفكرية والإبداعية، والمساهمة في الفعل التربوي التعليمي، الى جانب العطاء الاجتماعي الثقافي.
لذلك يمكن أن نقول بأن هذا المجهود والشغف لم يذهب سدى، بل ” أثمرَ مولد أوَّل نص روائي طويل في الخمسينات ألا وهو (الفراغ العريض) الذي جَسَّدَت من خلاله القمع الذكوريّ الذي يطارد المرأة السودانِيّة كلعنه شَعْوَاء لا تكاد تنفكُّ. كذلك التصوير الدقيق لملامح البيت السُّودانِيّ الذي ينضبُ مِن حرية الاختيار من قِبل المرأة، بالإِضافة للكبتِ العاطفِيّ، الذي عانت منه حواء السُّودَانِيّة، والذي قتل فيها أنوثتها؛ فأصبح قلبها خاوياً على عروشه من نعيم الحبِّ آنذاك”243
2 / الجمع بين الاقتدار الذاتي الفكري، والتمكين العلمي، والكتابة الأدبية
التزاما بهذا المسار الكفاحي الذي خاضت غماره، ملكة الدار، بشجاعة وصمود. تم التنسيق والتشبيك بين شبكة فنون بنات مندي، وعدد لابأس به من الشركاء الفاعلات في الحقل الاجتماعي والثقافي. فأثمر هذا الجهد كتابات رائعة وساحرة جذابة في لغتها الثرية، وأسالب صياغاته المثقلة بالمعاني والدلالات العميقة فكريا، والممتعة فنيا. تحقق ذلك، من خلال، تمكنها- الكتابات- من تقنيات وآليات الكتابة الأدبية، المؤسسة على رؤى فكرية ومعنوية بالغة الأهمية شكلا ومضمونا.
لهذا خلال القراءة تتملك القارئ الدهشة والفرحة الممزوجة بالألم، والغضب العميق المحفز لضرورة الصمود والتحدي، لأنظمة القمع والقهر الطغياني السياسي والديني، والاجتماعي الثقافي. هذه الأنظمة التي حولت بلداننا الجميلة الى ساحات للحروب القبلية والعنصرية والطائفية والدينية، بالموازاة مع القهر والتهجير، والتفقير والمجاعات. والقضاء على كل أشكال الأمن والأمان، والفرح والحب بين الرجال والنساء، بين المناطق والجهات، بين الطوائف والأديان…
تكمن الدهشة في الاقتدار الفكري والتمكن العلمي الذي جسدته نصوص الصبايا والشباب. لا أحد منهم، ولا واحدة منهن تجاوزت عقدها الثالث. جميعهم وجميعهن في مقتبل العمر والعطاء والسخاء والإنجاز الجميل الخلاب الأخاذ. وتتجلى الفرحة في هذا العطاء الإبداعي الساحر الذي تعبر عنه نصوص الكتاب لشباب وصبايا فرضن وأثبتن قدرتهن على الخلق والابتكار، والتفكير، والقدرة على بناء أسئلة النهوض والتغيير. والتفكيك للترهات المجتمعية المتخلفة في العادات والتقاليد البالية. وعلى الهدم للتصورات الجندرية الاجتماعية الثقافية التي سممت العلاقات الاجتماعية، وشيعت روح الحقد والكراهية والقهر، وأجهزت على قيم الحب والكرامة والحرية والعدالة المساواة الجندرية والاجتماعية.
وفي هذا السياق من التفاعل خلال القراءة، بين الدهشة والفرحة يتولد ألم في أعمق الأعماق. ألم الخذلان في أن تضيع مثل هذه الطاقات الخلاقة من الشباب والصبايا، بين لهيب التهجير والتشريد والقهر والمنفى. وتسحق بين فكي طاحونة الحروب والمجاعات. و تعاني من ويلات عذابات القتل المجاني للأفراد والجماعات. وتمزق بآليات الشر التافه كل المكونات المجتمع السوسيولوجية والثقافية والدينية واللغوية…
هكذا مع كل صفحة، ومن نص جميل لآخر، يشعر القارئ بألم فظيع. يتشكل في زفيره الحارق سؤال معذب كأسياخ النار: كيف أمكن أن يتحول السودان العظيم، بتنوعه واختلافه الثري وتعدده البناء، الى ساحات للقتل والموت والحياة العارية، بلغة جورجيو أغامبين. حيث لا قانون يضبط الجرائم، ولا اعتراف بالضحايا الذين واللواتي جردتهن الدكتاتوريات المزمنة، الأقرب الى الموات الأبدي من قيمتهن الإنسانية؟
3 / المرأة السودانية بوصفها شجرة طيبة
“ودوَّنْتُ قِصَّتِي هذه؛ لأنَّنِي كنتُ أعلم أنَّنِي سأصبحُ في ذات يومًا قدوة، سأصبح مشهورة، وستنتصرُ المرأة، ولكن بعد فوات أواني، يكون الدود قد نهشَ لحمي، وأكلتِ الأرضُ عظامي، وتتالى واقعٌ بعد واقعٍ لغيري من النِّساء بهذه الحياة.
شجرةُ السِّدْرَة تَشْبَهُنِي، وأنا أشبهُهَا بكُلِّ التَّفاصيل، وكذلك هُنَاك بعض نساء بلادي يعانين من القَمْع الأسري والمفاهيم المتأخرة التي بعاداتهم، وكُلٌّ مِنهن لها شجرتها الخاصة التِي تَشْبَهُهَا.”65و66
لكم هو جميل ذلك النص الذي كتبته آسيا آدم محمد موسى ، وهي تُشبّه نفسها بشجرة السدرة في قوتها وصلابتها وتحملها لمختلف محن الفصول خريفا وشتاء وصيفا. فقسوة المجتمع الذكوري لم تمس نواتها المعطاءة القوية، والقادرة على الولادة من جديد. دون أن تبخل على الإنسان الحقيقي بثمارها وظلالها. لقد رماها زوجها وهجرتها عائلة الزوج بسخرية قاسية لمجرد أنها ولدت بنت وليس ولد. فقامت من خيبتها وخذلانها الحارق، دون أن تستسلم لخيانة الزوج للحب الذي نسج علاقتهما. كافحت طويلا من أجل تربية وتعليم بناتها. وبذلك الوعي البناء كانت بالفعل شجرة طيبة ثابتة في قناعاتها ونضالها. كما استطاعت أن تصل الى الأعالي خلال نجاحها، بما وصلت اليه بناتها من وعي يتخطى سطوة الثقافة الذكورية العائلية والمجتمعية.
” وعندها قالت لي ابنتي الكبرى يا هيم أخير بورتنا دي زي ما بسمُّوها.. ولا نتزوج من واحد ما بقدِّر المرأة، ويعتبرها أداة للولادة، وفي الولادة الذكور بس، ونحن ما بايرين، نحن قاعدين بإرادتنا وكان دُرْنَا هسي بنتزوج.”64
لقد تحملت المرأة السودانية الكثير من القسوة والقهر والظلم، ومختلف أشكال الاعتداءات النفسية والجسدية والمجتمعية، المتمثلة في التصورات والمعتقدات الأبوية الذكورية. بالإضافة الى البشاعات التمييزية الجندرية والعنصرية والمناطقية…
لكنها صمدت وقاومت رباعية القهر والتنكيل والموت: المجتمع والثقافة والدولة والدين. وسلكت مسارات مفعمة بالألم والمعاناة، فاستطاعت إثبات ذاتها اجتماعيا ووجوديا وثقافيا. واخترقت عددا هائلا من التابوهات والمحرمات والاعتقادات الخاطئة التمييزية. وانتهكت المجالات العامة التي كانت محظورة في وجهها. وفككت بهذا العطاء والصمود والثبات أسطورة التفوق والتميز الذكوري، القائم على الاستبداد والقمع والقهر والخوف من وجهه الآخر الأنثوي.
4/ فظاعات التلازم البنيوي بين الاستبداد والنظام الأبوي
“خمسة وعشرون عامًا مِن الضِّياء، خمسة وعشرون عامًا من التشرُّد، خمسة وعشرون عامًا مِن التَّشَظِّي، خمسة وعشرون عامًا من الهروب خوفًا مِن كَمِين الاغتصاب التَّنَاوِبِيّ تحت شعار الله أكبر، خمسة وعشرون عامًا مِن القَهْرِ والعنف الجسدِيّ واللفظِيّ، خمسة وعشرون عامًا من التِّيه بين التطهير العرقي، وتعبئة الكراهية، خمسة وعشرون عامًا من سلب الكرامة الإنسانِيّة، خمسة وعشرون عامًا من وحلة الأرجل في مستنقعات الدِّماء والدموع، وها أنا أملك كنزًا لا يمكن لأيّ تحدِّي أن يسلبَ اعتزازي، وفخر انتمائي لهذه العائلة العريقة التي أسقطتْ معالم اليأس والخضوع والتدحرج إلى الوراء رغم عراقيل التقدُّم، وانعدام الوسائل، وشح مصادر التطوُّر، ولا سيما التهديد المستمر في حقِّ الحياة ومحاولة سلبها بشتى الآليات، إلَّ أنَّهم يتعاهدون أمام الصعاب أنْ ينالوا العزيمة والإصرار عنوةً مِن دهاليز المعاناة؛ عبورًا إِلى مرافئ الأشياء المستحقَّة، التي عند تذوقها تبدو كطعمِ الأمل “11و12.
أتت نصوص الكتاب على الفظاعات التي كان للمجتمع والدولة الطاغية، والثقافة التسلطية الذكورية اليد القذرة في حدوثها. حيث توالت جرائم القتل والنهب والتشريد في كل مناطق السودان. فقد تحولت حياة الناس البسيطة المشبعة بالفرح والتفاؤل الى محرقة رهيبة، من الحروب البشعة، التي باعت فيها الديكتاتوريات البلد، في مصالحه وتطلعاته، وفي سلامه وأمنه وتطوره، للأجندة الاستعمارية، والمصالح الخاصة الضيقة لحفنة من العسكر القذر.
” دارتْ رَحَى الحربِ بَيْنَ الشَّمَالِ والجنوب دونما أسباب واضحة، وعلى الوهم والسراب، فقد بدأ إنسان الشمال يرى أنَّ الجنوبِيّ لا يستحقُّ العيش فهو عبد أسود، وإنسان الجنوب شُحن قلبه بالحقد على الشَّمَالِي، لأيّ شيءٍ كان يجب أن يقاتل بعضنا بعضاً؟، وكيف كُنَّا نَزْهو بالانتصار على الآخر بينما نحن في الأصلِ نهزمُ أنفسَنَا، ونقيم الجنائز علينا لا على الآخر”69و70
وصار كل شيء زائفا في السياسة والمجتمع والاعلام والثقافة والدين والأخلاق. في ظل هذه الظروف الصعبة والمرعبة لم تستسلم النساء، بل مارسن الكثير من الأعمال من الحطب الى البناء، مرورا ببيع الشاي والقهوة على قارعة الطريق المشحونة، بالتحرش والعنف اللفظي والجسدي، والتحقير والتبخيس.
” تحيةٌ وسلامٌ لنساء بلادي الكادحات، مِنَّا مَن يعمل في جلبِ الحطب والحشائش، وعرضها في الأسواق للبيع، منهن مَن تقطع أشجارًا للتفحيم، وكثيرٌ مِن النساء تعرضنَ للاعتداء أثناء ذهابهن للاحتطاب، كافة صنوف الاعتداء، قتل، اغتصاب، جروح، استفزاز، المعاناةُ تطاردنا حَيْثُمَا ذهبنا. عنوة تفرش جناحيها على سمائنا، وتخطفُ جُلَّ محاولاتنا، إِنَّها تريد بتر إرادتنا؛ لترمي بنا في مستنقعات الرضوخ، نحنُ نشهدُ اضطهادًا فظيعًا على مستوى هذا القرن الواحد والعشرين، فوضى القهر، القمع والاستبداد، وإهدار حقوق الإنسان، نشهد تخلف مُخيف يتسلَّق أعطاف الأجيال”28.
ولم يكن المجتمع رحيما بنسائه في سطوته الذكورية الجهنمية. فقد احتوى النساء من خلال الاستلاب الفكري الى حد العبودية المختارة، التي تجعل المرأة حارسة صنديدة شرسة في الدفاع عن النظام الأبوي الذكوري. مما جعل المرأة تعمل على معاودة إنتاج القهر والعنف النفسي والجسدي الذكوري على امرأة مثلها. تفعل هذا تحت وطأة الاستلاب الفكري والنفسي والديني والجندري، كما لو أنها تحمي بنت جلدتها ونوعها الاجتماعي. ولكن هي في الحقيقة تتحول الى أداة عدوانية في خدمة النظام الأبوي الظالم والقاهر للنساء والحب والجمال والوئام وكل القيم الإنسانية. يتجلى هذا في عملية الختان التي تتكفل بها النساء ضد طفلات صغيرات لم تتجاوزن السادسة. حيث يختلط الصراخ والألم الفظيع والإرهاب، بزغاريد النسوة. لذلك لا نستغرب أن تكون ذاكرة نساء السودان موشومة بالحديد والنار الذكورية القذرة في القهر والبتر، والموت الرمزي والاجتماعي والبيوسياسي. إنها ذاكرة مكتظة بالتفاصيل المروعة من عدم الترحيب الوجودي عند ولادة البنت، ثم الدونية والتبخيس، مرورا بالختان والخوف والعزل والقهر والاغتصاب، ووصولا الى التشريد والاستغلال والنفي والقتل.
ورغم كل هذه الفظاعات من النظام الاستبدادي ومن المجتمع، لم تستسلم الصبايا والشباب. تجسد ذلك في النضال والصمود والكفاح اليومي، من أجل البقاء وفرض الوجود الاجتماعي، من خلال البحث عن لقمة العيش بطرق مختلفة، تحفظ كرامتهن، وتشحذ وعيهن بضرورة امتلاك حق الكلام والتعليم والسياسة والحقوق. لهذا تم تخطي حاجز التقاليد والعادات والقمع والكبت. ناضلن وناضلوا جنبا الى جانب، وسجلوا صفحات من الحب والتآزر والتعاون الى أن سقط الطاغية في ثورة ديسمبر. والجميل أيضا أنهن كتبتن نصوصا ساحرة توثق وتؤرخ لتاريخ الشعب المهمش. كتابات قوية تكسر الرؤى، وتنتهك الأفكار والعواطف والأحاسيس النفسية والوجدانية والجسدية الذكورية، التي طالما وضعت الانسان السوداني في دائرة الكبت والخذلان والهزائم والخيبات والموات الأبدي. لهذا يستمتع القارئ بالتجاذب الجمالي، والوصال الأدبي الخلاب والمدهش. المسكون بالبهجة وقوة التفاؤل الاستشرافي في القدرة على رؤية السودان الجديد الحي القادر على الانبعاث من رماد التخلف والعنصرية والقهر والديكتاتورية البغيضة.
“شباب في مقتبل العمر، شباب الجيل الواعد، الذين خرجنا عن طاعة الطاغية، وخالفنا العادات والتقاليد، وكسرنا القوانين التي تُقَيِّدُنا، مُنْقَادين إِلى الأفكار المُجَسَّدَة في فكرنا، عن حياٍة جديدة، وأحلامٍ مُحَقَّقَةٍ، وبلادٍ مزدهرٍة. نتسامرُ فيما بَيْنَنَا، معلنين سخطنا على الوضع الاقتصادِيّ الرَّاهِن، نتناول أطراف الحديث، منتقين أفضلَ العبارات التي قد تُعَبِّر عن ضيقِنَا، بالإِضافة لبعض المقارنات بين الماضي والحاضر”75
وكان لا بد من دفع الثمن الغالي، بسبب القمع و القتل الذي طال الكثير من الشباب. والاعتقالات والاغتصاب الفظيع الذي تعرضت له مجموعة من البنات في مقتبل العمر. الكنداكات الجميلات فكرا وفعلا، وعاطفة ورؤية ونفسا وجسدا…
وقد أدى الاغتصاب بهن الى حالات نفسية مرعبة ورهيبة، الى حد أن بعضهن لجأن الى الانتحار، بفعل القهر المجتمعي للثقافة الذكوري التي تتواطأ، بوعي أو بلا وعي، مع الاستبداد والظلم في هدم القيم الثورية، والرؤى المستقبلية النقيضة للممارسات السياسية لنظام الطاغية. التي تهدف الى تمزيق المجتمع، وخلق حالة من التشظي المشحونة بالحقد والكراهية بين فئات الشعب المسحوق، وبين الرجال والنساء.
“سنخترق الظلمة، ليس لكسر حواجز الخوف لدينا فقط، لا بل لنضيئها، ولا بُدَّ لظلامك من هزيمةٍ، ولا بُدّ للنظام من هزيمةٍ، نظام سياسي يشيع العنصرية والجهة والقبيلة كبديل للمواطنة، هذا الصراع الذي نعيش، أنا ويوسف صبحي على الطاولة ونتطارح الأسئلة بخفه كورق الكوتشينة، فهو لا يعتقدُ أَنَّ الصراع في السُّودان صِراع هُوِيَّة مع أنَّ الهُوِيَّة لونِيّة إِلَّا أنَّ الواقع يوضح أنَّنَا كُلّنا على الهامش.”119
5/ غصة الزمان وجرح المكان
“طَاَلَما كنْتُ أبغضُ حياتي في تلك القرية، رُبَّمَا أبغضُ البلاد كلها، ولا أستطيع نسيانها، بلادٌ غادرتُها ولم تغادرني، مَهْمَا بعدتُ هنالك ما يذكرني ما حدث في طفولتي، طفولة لم أكملها، وأنا ذي قد ناهزت الأربعين، ولكن لا أذكر ما حدثَ في الثلاثة وعشرين سنة الماضية كُلّ ما أذكره أنِّي كنتُ فتاةً ذات سبعة عشر خريفاً أصبحتُ فجأةً زوجةً مسؤولة مسلوبة الطفولة، لا شيء مِن معالمها فِي حياتِي، لا لعب، و لا دراسة، لا شيء من معالم الطفولة، لا بأس فقد أصبحتُ في مكانٍ ضاقت به المشافي، وكثرت فيه المدارس ولكن لا أزال أحملُ بداخلي غُصَّة الزَّمان وجرح المكان”140.
كم هائل من الألم يفيض بين سطور نصوص هذا الكتاب، الجريء في تعرية وتفكيك القذارة العطنة التي يتستر عليها المجتمع. ودون وعي منه يمارس في حق نفسه، كمجتمع نوعا بشعا من الهدر الذاتي والسقوط السهل الرخيص في يد الآلة الجهنمية لإيديولوجيا الاستبداد. لأن الثقافة والفكر والوعي والتقاليد والمعتقدات التمييزية في حق النساء والجهات والطوائف واللغة والعرق…، كل هذا جزء من سلاح الاستبداد يحارب به الحرية والكرامة والعدالة التي ينشدها الناس ويقدمون من أجلها أرواحهم وأجسادهم، وكل ما يملكون.
كما أن الختان هذه العادة البدائية المعبرة عن هشاشة وفوبيا النظام الأبوي من النساء. الى جانب دونية المرأة وقهرها واستغلالها وإلغاء وجودها الاجتماعي والإنساني. دون أن ننسى الزواج القسري المخالف طبيعيا لحرية وكرامة وإنسانية المرأة. كل هذه الممارسات اللاأخلاقية والبعيدة عن الكرامة اجتماعيا ودينيا وقيميا، وإنسانيا لا تُولّد سوى الكراهية والحقد والعدوانية الموشومة في النفس والقلب والدماغ. وهذا ما يجعل الأفكار والعواطف والأحاسيس النفسية والجسدية بعيدة عن الحب الحقيقي. كما أنها مدمرة للتكوين والبناء الأسري والاجتماعي.
وهذا ما يجعل من هذه الممارسات غصة الزمان وجرح المكان. حيث يعجز الانسان عن تجاوز ثقلها المرعب الرهيب، الحافر بلهيب النار في تجاويف القلب والذاكرة التي تنزف باستمرار جرح المكان الذي كان من الممكن أن يكون حضنا دافئا للمحبة والعشق الجنوني لحب الحياة والخير والسلام لنا وللآخرين.
“إِنَّهم اغتالوني؛ عندما قَرَّرُوا تَزْويجي مِن اِبْن عَمِّي الذي هربت زوجته بعد شهرين من زواجهما، سمعتهم يقولون أنَّه كان يضربها يومِيّاً على الرغم مِن أَنَّها كانت تُحِبُّه، كانت كلوحةٍ جمالِيّة لا ينقصُها شيءٌ مِن الكمَالِ.. ليتها الآن تعيش حياة أفضل في مكان ما اختارته، كان يكبرُني بخمسة عشر سنة، وأنا ما زلتُ اِبْنَة الرابعة عشر، عندها أوصتْنِي أمي أنْ أكونَ زوجةً صالحة…
نعم الرِّجَال أنانيون، يريدون امرأةً لا تسمع ولا تُبْصِرُ، ولا تُفَكِّرُ يريدونها دُمْيَةً تتحرَّكُ كما يحلو لهم. أيقنْتُ أنَّ الحُبَّ للرجال عبارة فوضي ندخلها نحن مجتمع النساء.”141و142
في الحقيقة كقارئ استمتعت كثيرا بكل نصوص هذا الكتاب الجميل والشائق. والأجمل أن داخل مجتمع عبر تاريخه الحديث والمعاصر، عاش الكثير من الحروب والمآسي، ومن الصراعات التي خلفها الاحتلال الكولونيالي للسودان. كالصراعات القبلية والطائفية والجهوية…
ومع ذلك صبرت وكافحت الى أن أثمرت شجرة السدرة السودانية هؤلاء الشباب والصبايا. فأنتجن نصوصا جمعت بين الكتابة الأدبية الساحرة، لغة وأساليب وتقنيات، وخصائص فكرية ومعنوية، وبين الرؤى الواعية العميقة بتفاؤل الإرادة ويقظة العقل النقدي في بناء الاقتدار الذاتي على تعرية النفس والآخرين. والوقوف عند العاهات اللئيمة التي عطلت نهوض الانسان، وبناء المؤسسات والدولة الحديثة والمجتمع المتطور. وحالت دون الرقي الحضاري، والتقدم الاجتماعي، وعيش الفرح الإنساني، وسط بيئة مجتمعية قادرة على احتضان الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، والاعتراف بالتنوع والتعدد والاختلاف.
هذا الايمان الداخلي العميق بقوة الحياة، ونبل الانسان، وقدرته على إلحاق الهزيمة يوما بالطغاة، وصناع القهر والظلم والحروب، هو الذي كان وراء هذا التشبيك الجميل في إنتاج هذا الكتاب الثري والجميل والشائق.
” أومن أنَّ اللغة سَيِّدة الإبداع، وأنَّ كُلَّ المُتَّسعات تضيقُ، إِلّاَ مُتَّسع الحروف.”297
________________________________________________________
* مواكب ملكة، الدار إشراف وتنسيق: د. إشراقة مصطفى حامد، (دار طرابيل للنشر والتوزيع بالتعاون مع شبكة فنون بنات مندي، الطبعة الأولى 2022)