مصر تتعرض لحرب ناعمة وغير معلنة
عبد السلام بنعيسي
لفهم القضايا في سياقها الصحيح، لابد من استحضار دائما أن القرارات والتصريحات التي تصدر عن دولة الكيان الصهيوني، تعتبر، في الغالب الأعم، مواقف يتم التوافق حولها مع أمريكا والغرب، وتبنيهم لها، ثم يقع التعبير عنها باللسان الإسرائيلي واللغة العبرية.
فعندما تتهم تل أبيب القاهرة بكونها تقف وراء ” تسهيل تهريب الأسلحة” إلى قطاع غزة، عبر محور فيلادلفيا، فإن المرجح هو أن هذا الاتهام، صادرٌ، في نفس الوقت، عن الإدارة الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية، وبعبارة مغايرة، فنحن أمام ضغوط صهيونية أمريكية غربية تتعرض لها جمهورية مصر العربية، ويريدون، من خلال ضغوطهم، ابتزازها، ودفعها للتخلي عن سيادتها على حدودها في سيناء، والتفريط فيها لفائدة الكيان الصهيوني بغية تتويجه ” منتصرا نصرا مطلقا” في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة.
دولة الكيان الصهيوني لا تريد لمصر أن تكون متعاطفة مع الشعب الفلسطيني، أو حتى محايدة في الصراع الدائر بين الفلسطينيين والصهاينة. إسرائيل تريد من مصر أن تقف إلى جانب هذا الكيان، وأن تقاتل معه المقاومة الفلسطينية، وذلك بفرض الحصار المشدد والخانق عليها. فكما تفعل القوات الإسرائيلية، في تعطيشها وتجويعها للفلسطينيين، وحرمانهم من العلاج، والمسكن، والتعليم، والأمن والاستقرار، تسعى إسرائيل لدفع الدولة المصرية للسير على هذا المنوال، وأن تعامل الشعب الفلسطيني، كما يعامل من طرف الدولة الصهيونية.
تل أبيب تضغط من أجل قبول القاهرة بتصفية القضية الفلسطينية، وبتهجير أهلها صوب الأردن وسيناء، وأن تقبل بتربع إسرائيل قائدة وسيدة على المنطقة، وذلك على حساب الدور المصري الذي سيصبح، إن تحقق المشروع الإسرائيلي، دورا ثانويا وهامشيا. ما يراد للدولة المصرية من طرف أمريكا والغرب، ويُعلن عنه إسرائيليا، هو أن تُفرط مصر في مصالحها الوطنية، والقومية العربية، وأن تحارب نفسها بنفسها، أي أن المطلوب منها، هو الانتحار، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا..
وبهذا المعنى، لم تعد الحرب مشنة على الشعب الفلسطيني فحسب، إنها حربٌ على مصر بطريقة غير مباشرة، وقد تصل نيرانها إلى باقي الدول العربية. فبعد تدمير العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، ولبنان، والقطاع والضفة، يبدو أن الدور قد جاء اليوم على مصر، ولكن الحرب عليها، تجري بدون قصفٍ للطائرات، ومن غير هدير للدبابات، وبلا أزيز الرصاص، وتفجير القنابل والصواريخ.
فنحن أمام حرب على مصر، بطريقة ناعمة وغير معلنة، ولكنها حرب تؤدي نفس الهدف الذي هو القضاء على الدور المصري وطمره في المنطقة. وجود القوات الإسرائيلية، في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، يعني خنق مصر، وقتلها تدريجيا، مع الاحتفاظ بهيكل الدولة التي تُسيِّجُ الحدود لمنع الهجرة الجماعية صوب أوروبا..
من هنا تناسلت البيانات الرسمية الصادرة، عن المملكة العربية السعودية، وعن دولة قطر والكويت، وسلطنة عمان، والأردن، والسلطة الفلسطينية، والإمارات العربية المتحدة المتضامنة مع مصر، ردا على هذه الحملة المشنة ضدها. بات هناك شعور عربي رسمي، بأن الحرب على غزة، تجاوزت الإطار المرسوم لها الذي هو القضاء على المقاومة الفلسطينية. لقد صارت المستهدفة حاليا، في هذه الحرب، أيضا الدولة المصرية.
وإذا كان التضامن العربي المعلن عنه مع مصر جادا وصادقا لصدّ الحملة التي تستهدفها، فإنه، مع ذلك، يظل تضامنا غير كافٍ لذاته، إنْ لم تستتبعه إجراءات عملية وقرارات قابلة للتنفيذ الفوري، وأولها، وقف إمداد الكيان الصهيوني بما يحتاجه من مواد غذائية، تصله برّا من بعض الدول العربية، وذلك بعد إحكام حركة أنصار الله الحصار عليه، في البحر الأحمر وفي باب المندب، هذا دعمٌ للكيان في مواجهته مع مصر. إنه تصرفٌ متناقض مع البيانات العربية التضامنية مع الدولة المصرية.
لكن، لماذا لا توقف مصر ما يسمى الوساطة التي تقوم بها من أجل ما يُدعى وقف الحرب في غزة، فهذه الوساطة أضحت الوسيلة المثلى للتغطية على استمرار الإبادة الفلسطينية الجماعية، ولماذا لا تستدعي القاهرة سفيرها من تل أبيب للتشاور، احتجاجا على احتلال القوات الإسرائيلية لمحور فيلاديلفيا ومعبر رفح، وإذا كانت إسرائيل قد دهست اتفاقيات كامب دايفيد وتخطتها في هذا الاحتلال، فلماذا لا تفعل مصر أشياء مشابهة، وتُحرّك قواتها هي أيضا صوب الحدود مع الكيان الصهيوني، وبما يتجاوز اتفاقيات كامب دايفيد أيضا؟ لماذا جائز لإسرائيل رميُ هذه الاتفاقيات في السلة إياها، ولا يحق لمصر أن تفعل الشيء ذاته؟
قد تكون الحاجة للمساعدات المالية التي تتلقاها القاهرة من أمريكا أداة للضغط على صانع القرار السياسي المصري في عدم قدرته على التصعيد مع الكيان الصهيوني، وهذا أمر يستوجب من الدول العربية التي أغناها الله من فضله أن تبادر لانتشال مصر من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية بتعويضها عما تتلقاه من مساعدات مالية من الإدارة الأمريكية، فدول أوروبا الغربية ساندت جاراتها دول أوروبا الشرقية بالأموال وبالدعم، إلى أن تمكنت من إخراجها من أزماتها، ونجحت في إدماجها في المنظومة الاقتصادية الأوروبية، وباتت تشكل عمقها الاستراتيجي، فلماذا لا تفعل دولنا العربية الغنية نفس الشيء مع مصر، وسوريا، والسودان، ولبنان، وليبيا، وموريتانيا، وكل البلدان العربية الفقيرة والتي تعيش صراعات أهلية، لتساعدها على، لملمة أطرافها، وإعادة هيكلة اقتصاداتها وتطويرها، بما يحقق التكامل الاقتصادي العربي والتنمية العربية المترابطة والشاملة.
لا يفهم المرء لماذا لا توقف الأنظمة العربية الحملة الدعائية التي تشيطن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولماذا لا يقع استبدالها بانفتاح عليها، وجعلها دولة صديقة، ولم لا حليفة للعرب، ولماذا لا تسعى الدول العربية لتعميق تعاونها مع روسيا والصين، وتدفع في تجاه إنشاء عالم متعدد الأقطاب؟ أليس في ذلك مصلحة عربية أكيدة؟؟
بعض العرب: ((يعيشون أسرى فقرهم… والبعض الآخر يعيشون أسرى غناهم، وهذه قمة، أو هي قاع المأساة))، كما يقول هيكل، وما لم تتم معالجة هذا الخلل الكبير في النظام العربي القائم، ستظل الأوضاع العربية تسير من سيء إلى أسوأ، ولن يكون للبيانات الرسمية المتضامنة مع مصر، أو مع كل دولة عربية تتعرض للعدوان، أي مفعول إيجابي يؤهلها للإفلات مما يجري إعداده لها في الغرف السوداء من قرارات تدميرية. الخطر صار محدقا بجميع الدول العربية، والموس تقترب من حلق الواحدة بعد الأخرى. من الذي كان يتصور أن مصر ستتعرض لما تعاني منه حاليا؟