مذكرات الخريف: الأنيقون (2)
صدوق نورالدين
يذهب بعض الأدباء إلى تشبيه المدن الصغيرة بحجم الكف. أتحدث عن المرحلة الزمنية المحددة بين الخمسينيات والسبعينيات. وأما لاحقا، فغزت “البدونة” كما كان يؤثر القول الراحل إدريس الخوري. فلم يعد الزائر يستطيع تمييز الخاصات التي تتفرد بها، و الأماكن التي شده الحنين إليها.
ما يسم المدن الصغيرة أولا النمو الديمغرافي المحدود، حيث تتضاءل نسبة الساكنة ويقل عدد البنايات، إلى امتدادات الأخضر الذي يوحي وكأن المدينة قرية فيما هي مدينة، فما بالك إذا ما جمعت بين الحسنيين: نهر أم الربيع الذي عرف بسمك (الشابل) المأسوف عليه، وشاطئ الحوزية بامتداده الذي كان يصل مدينة أزمور بالجديدة، حيث تضج المتعة لما يقطع المسافر الطريق على قصره تحت وابل الأمطار في الشتاء(رومانسية هرمان بروخ)، أو لما يرى صورته تلمع في فصل الربيع مرتسمة على مرايا الأشجار القصيرة. وأما ثانيا، فخاصة التعارف التي تجعل الساكنة آصرة واحدة. الكل يعرف الكل، يخبر وظيفته، مكان عمله وحيث يقيم.
وتكمن المفارقة بالنسبة لقراء الجرائد بالمدينة الصغيرة، فيما دعوته “الأنيقون”. فشخصية الأزموري حيث وجد سواء داخل مدينته أو خارجها، تتميز بأناقة هندامه، وسعادة منطقه كما يقول الشاعر. فالتردد على دكان بيع الجرائد، أقول دكانا مادام يختص ببيع أشياء عامة تهم الساكنة ككل، تبدأ من الثامنة إلى التاسعة فما فوق. أي في التوقيت الذي يعي من خلاله القارئ أن جريدة اليوم وصلت المدينة الصغيرة. وأما حال تعثرها عن الوصول صباحا فقل من يلتفت إليها. إذ ظل التقليد الفرنسي ساريا من حيث كون الجريدة تتصفح صباحا ويتعرف على محتوياتها في مكان العمل أو المقهى حيث مذاق كأس الشاي الآسر، علما أنه في المرحلة المتحدث عنها لم تكن شاعت طقوس شرب القهوة في الصباح بأنواعها، ولا احتفاء المقاهي بشراء الجرائد للمترددين عليها. كان الخبر يقرأ مرفقا بكأس الشاي.( لاحظ أن أول ما يقذفه أغلب رواد المقاهي اليوم في الهواء، ولما يختاروا بعد أماكن جلوسهم: قهوة طليان.).
أذكر، وهي مفارقة، بأني لما كنت أصل بدراجتي غالبا، أو مشيا على الأقدام في أحيان أخرى دكان الراحل السي عبد الله رضى، أسترق النظر إلى اللوح الحديدي. وأما الأعيان فكانوا يترددون تباعا وكأن واجبا ينتظرهم، وبالتالي عليهم آداءه.
أية روح هي؟