حين تنتهي القصة حيث بدأت.. قراءة في قصة “بوصلة في مهب الريح” لعلي بنساعود
فاطمة يوسف عبد الرحيم
* هذا النص كتب بإحساس مدو، وسرد مميز مما سيجعل النص الضمني الموازي حاصدا لذائقة العوام والنخبة، وكأنه نص داخل نص، وإطار يغلق إطارا آخر…
* القصة تتفرد بلغة خطاب متميزة، وبمعيارية خاصة، لأنها خلقت عالمَا افتراضياَ خياليا، اخترق وعينا التربوي، والكلمات تجيب عن الأسئلة والسرد ضمن اللحظة الدائمة في كينونة الزمن.
* هذا النص الحداثي المتأجج الذي أتقن صياغة مفهوم عناصر القص وتجلياته والرمزية المتواشجة حين ركز على مفاهيم أخلاقية، وهذا ما يعاني منه الواقع الإنسان العربي الممتلئ بالقص المحتفي بالرمز، وكل منا يرى فيها انعكاسة في مرآة ومنظور الحياة أو ارتطامه بواقعها.
*بدأ الاستهلال بمشهدية حجاجية “هل تربون تمساحا في حمامكم؟”، سؤال لا يتقبله المتلقي وكأنه حقيقة مستحيلة، خلقه السارد ليبين ذاتا مشوشة مليئة بالخيبات؟ وهذه المقدمة تلهب مخيلة القارئ وتلسع فضوله وتجبره على القراءة حتى الحرف الأخير.
* الاستهلال يطابق خاتمته، والرؤية في تحرك وإثارة خيالية ورافضة لمنطق الكذب الذى قضى على بر الوالدة.
*استخدم الكاتب ازدواجية الرؤية في شخصية الأم وشخصية المعلمة وهذا التناقض أعطى النص حركة صورية في تنوع مشهدية الشخصيات وكأنها كاميرا تعبث في صورة الأم والمعلمة.
* التبئير لضمنية الحدث: يستمد المتن استمرارية وجوده من خلال فكرة الكذب، ويتصاعد سلوك الكذب، ليزيد لهفة القارئ في معرفة نتيجته وسببه ودلالاته.
*فعلت خاصية الاسترجاع حين عادت زمنيا إلى تاريخ أول مرة كذبت فيها، ودوافعها الكيدية في المبالغة بإظهار الدلال في تربية القطط والكلاب من زملائها وهي بالكاد تعيش في بيت مشترك في مرحاضه مع آخرين وهذا قمة العوز، إنه السلوك الاعتباطي الذي تسبب في رغبة حب الظهور.
* يتقمص الراوي أخلاقيات سارده وسلوكياته ومعانيه بخلل متقصد يبدو للعلن تسلسلًا منطقيا للأحداث، لكنه في الحقيقة، قصة تتنكر في قصة أخرى، ساتر خداع يغلف الحقيقة، العائمة بين عالمين يندمجان في شخصية الراوي، والسارد المراقب للرؤية، وهو الإنسان الفقير المثقل بهزائمه وخيباته وانكساراته وندباته.
* رسم الكاتب أبعاد الشخصية، خاصة البعد النفسي من فورة خيالها ولم يفسر لنا لماذا تفعل ذلك بل ترك لنا تفسير سلوكها وحالتها النفسية ومسبباتها المتغيرة، للإضاءة على جانب من تركيبتها الداخلية ولم يصرح بصفتها إنما ترك اكتشافها خلال السلوك (وهي متغيرة تبعا للأوضاع، حسب الأحداث التي تمر بها، مما يُساعد على إضاءة جانب من تركيبتها الداخلية، لندرك أنها من ابتكار المؤلف (الطبع كالطيبة والمكر والخبث لا يصرح بها بالصفة إنما يترك المجال للقارئ أن يكتشفها من السلوك).
*النهاية بين الدال والمدلول والعنوان حين ينتهي النص حيث بدأ، يغلق نفسه عل نفسه بدلالة استمرارية الكذب، والحذر من قص اللسان، لكن جرأة الطالبة التي تمادت وبلا خوف من العقاب، إذ تجاوزت الكثير من القيم لتستمر في إثارة الكذب.
*استخدم الكاتب دلالة اللون الأبيض للطهر والنقاء والأسود للشر والحقد.
*يذكرنا السارد هنا بـ “أسطورة سيزيف” لألبير كامى وتأكيد لمفهوم اللاجدوى، وجريه وراء حب الظهور الذي يستتبع ذلك الاستغراق، وكأنه انتحار أخلاقي لبيان هذه العلاقة بين اللاجدوى والانتحار والدرجة الدقيقة التي يكون بها الانتحار حلا للاجدوى”. لدرجة أنها تخيلت أمها مجرد مربية تقوم بدور زوجة الأب في امتهان الظلم والقسوة عليها.
* العنوان تميمة مسكوكة بالرموز لخلق حالة وعي، العلاقة الضدية في العنوان فالبوصلة التي توجه المسار ومهب الريح الذي يضيع كل المسارات وكأن الكاتب يريد أن يقول أن البطلة فقدت البوصلة في مهب الريح، لأنها فقدت المعايير الأخلاقية وتاهت في دائرة الكذب، وكما قال الكاتب : “فلان فقد البوصلة”، وخرج من المعنى الحقيقي لمهمة الريح وهي حمل المطر والبذور إلى المعنى المجازي وهي التيه الأخلاقي.
* حاول الكاتب إظهار عجز المعلمة عن تهدئة الفصل لهول الكذبة وانشغال الطلاب بها، لكن كان من الممكن تكذيب الحكاية وبيان وجود الكذبة لدحض الواقع الترفيهي لدى بعض الطلاب.
* لم يحدد عمر الساردة لكن، ممكن التنبؤ بهذه المرحلة كوننا معلمين وهي مرحلة الخامس أو السادس الأساسي، وهي المرحلة التي ينشط فيها خيال الطالب لاطلاعه على حياة الآخرين، ومن منا لم يطلق عنان الخيال ليتصور أنه يحمل طاقية الإخفاء ليدمر أعداء الوطن ويحرره.
* دور الأم التربوي وتعنيفها لابنتها والتناقض لدى الابنة التي تصر على الكذب مع الخوف الداخلي على لسانها وهنا المفارقة
* اللغة إنسيابية تتدفق بعذوبة إلى عقل المتلقي، وتنزلق إلى وجدانه وتعيده إلى ذكرياته المدرسية، التي تتسق في بوتقة متعددة التأويلات والرؤى…
__________
نص القصة:
بوصلة في مهب الريح
أسابيع قليلة بعد التحاقي بالمدرسة، للمرة الأولى، تم استدعاء أمي من قبل المعلمة. وحين ذهبَتْ وسألَتْ عن موضوع الاستدعاء، قالت لها المعلمة، وهي تنظر إلي، وعلى مسمع من التلاميذ:
- هل صحيح أنكم تربون تمساحا في حوض الاستحمام بالبيت!؟
استغربَتْ ونظرت إلي شزراً، وقالت:
- أهذه العاقة هي التي زعمت ذلك؟
نعم، أجابت المعلمة، مضيفة، أنني بزعمي ذاك، بَلْبَلْتُ زملائي بالقسم، وشغلتهم عن الدراسة، بحيث لم يعد أي موضوع يشغلهم سوى موضوع التمساح هذا!
فسألتني: كيف تسمح لكِ نفسك بالكذب، ونحن بالكاد نكتري غرفة مع جيران نتقاسم معهم المرحاض…!؟ هذا آخر إنذار أوجهه لك، أمام معلمتك وزملائك: إن بلغني أنك كذبت مرة أخرى، سأبتر لسانك من جذوره!
أرعبني تهديدها، فغدوت أتخيلني أعجوبة بدون لسان!
والحقيقة هي أنني وجدت نفسي مضطرةً لإطلاق كذبتي تلك، عندما بالغ زملائي وزميلاتي في التفاخر بما يملكونه من كلاب وقطط… وما يغدقونه عليها من أكل وشرب وهدايا! لأبين لهم أنني مثلهم بل أفضل منهم… هذا، مع العلم أنني أهوى الكذب، وشغوفة به، وباختراع المغامرات، واختلاق القصص…!
طبعا، أنا لم أقرر يوما أن أكذب، لأن الكذب من خصائصي الفطرية، وهو كذب طفولي أبيض لا يضر أحداً، وأكون في غاية السرور والانشراح حين أَبِيضُ كذبة، وأحضنها بين جوانحي حتى تفقس، وتدب بين أصدقائي ومعارفي فينمو لها جناحان، وتحلق بعيونهم نحو الأعالي… ويبدو لي الاهتمام والمفاجأة على وجوههم! فيصدقون ما أريد! حينها، أقودهم على متن قوارب الخيال، متلذذة بالسيطرة عليهم.
بصراحة، تمنيت لو مِتُّ ولا أُفْضَح أمام معلمتي وزملائي، هؤلاء الذين بدأوا يتغامزون علي… ويسخرون مني…
صباح اليوم الموالي، فاجأتهم، وهم بباب المدرسة، بالزعم أن السيدة التي جاءت معي إلى المدرسة، أمس، ليست أمي الحقيقية، وإنما هي أمي بالتبني، وأنها كانت تحبني كابنتها، لكنها، بمجرد ما أنجبت، أهملتني، وسعت جاهدة لإبعادي والتخلص مني، لذلك، ما فتئت توبخني، وتهينني، وتلحق بي أبشع الأذى…!
لا يمكن لأحد تصور كم أكره هذه المرأة، قلت، وكم أشعر بأنني وحيدة في هذا الكون، وأنه لا أحد يُعاني فيه مثلي! وكل ما أتمناه هو أن أجد أُمّا أخرى تعوضني عما أفتقده!
كان عمري، خمس سنوات، وكنتُ هادئة، أعيش وإياها في سكينة وطمأنينة، لكنها بمجرد ما وضعت أختي الأولى، بدأت تعاملني معاملةً سيئة، ما دفعني إلى التفكير في طريقة لأهرب من المنزل…
كانت هذه المرأة التي ليست أمي، قلت لزملائي، إذا زارها أحد في البيت، فحديثهما سيدور عنِّي أساسا، وآخر مرة، وأنا أضع صينية الشاي احتفاء بضيفتها، قالت:
- توقفي أيتها “العنطيزة*…
وخاطبت ضيفتها:
- أتعلمين أن هذا ليس لونها الأصلي؟
حركت المرأة رأسها بالنفي، فأردفت:
- ازدادت بيضاء مثل الحليب، لكن، وبسبب عقوقها، مسخها الله وأحرق جلدها! ومن يدري قد يمسخها، قريبا، قردة نطَّاطة!
طأطأتُ رأسي وانسحبتُ، وفي غرفتي بكيت بحرقة… وبدأت أدعو عليها بالسوء، رغم أنني لا أُريد أن أكون عاقة فأدخل النار…
تخيلوا أنها تحب الأطفال عموما، وأطفال الجيران على الخصوص، وتغدق عليهم من القُبل والحُب والحَنان، أما أنا، فلا أذكر أنها قَبَّلَتْنِي يوما، كل ما أذكره هو أنها كانت تتقزز إذا سَهَتْ وتناولت الطعام بملعقتي أو شربت من كوبي!
كانوا يتحلقون حولي فاغرين أفواههم وأنا أحكي، وكلما حكيت، أتذكر أنني أكذب، فأخاف أن يكتشفوا أمري، وينفضُّوا من حولي! لذلك، أحرص على تجديد أكاذيبي وتلميعها، وأحاول أن تكون مقنعة…
مرة قلت: كما تعلمون، أنا أهوى أن أسمع أو أشاهد أو أقرأَ قصصا عن الأمهات، وكلما فعلت ذلك، تحضرني صورتان، صورة المعلمة التي كنتُ أحبها وأعتبرها أمًّا لي، فأفرح وأنشرح… غير أن ذلك سرعان ما يعزُبُ، إذ ما تلبث صورة أمي بالتبني أن تزاحم صورة المعلمة، فتتدافع الصورتان، كل واحدة منهما تحاول إزاحة الأخرى، ودون شعور مني، أجد نفسي أحاول دعم صورة المعلمة وإزاحة منافستها…
اليوم، عدت إلى المدرسة، بعد رخصة، دامت أسبوعا، وبمجرد ما سلمت على التلاميذ، بادرتني سلمى:
- حمدا لله على سلامتك، قيل لنا إنك كنت مريضة؟
كنت أسعد بسؤال أصدقائي عني وعن أحوالي، وأعتبر ذلك دليل اهتمامهم بي وانتظارهم لي ولحكاياتي!
- لستُ أنا من مرضت، قلت، بل هي المرأة التي تتبناني، حيث أُجرِيَتْ لها عمليَّة جراحيَّة، وتكلفْتُ أنا بخدمتها ورعاية شؤونها…
- حمدا لله أنها تماثلت للشفاء، قالت سلمى
- ليتها ما تماثلت، قلت، أتعلمين أنها بمجرد ما غادرت المستشفى، اتهمتني بأنني أمُنُّ عليها بما فعلتُ، وظلَّت تدعو عليَّ بالمرض؟ أتعلمين أنها قاطعتني! وقطعتْ عني المصروف، وكلما ألقيت عليها التحيَّة، لا ترد!
فغرت زميلتي فاها، وكان باقي الزملاء مندهشين، فأضَفْتُ:
- مع الأسف، قررتُ ألَّا أقدِّم معروفًا لأحد بقيَّة عمري، وأنا، الآن، أعيش في غرفتي، وهي مع أبنائها… لا آكل إلا ما يفضل عنهم!
تأثر زملائي فشرعوا يقذفونها باللعنات وأقذع السب والشتم، وهنا ثرت في وجوههم:
- أرجوكم، لا تشتموها، إنها مثل أمي، أشتمها أنا ولا أسمح لأحد بشتمها…
وهنا انهمرت دموعي، وهمسَتْ لي نفسي:
- ألا ترين أنك كذبت وصدقت كذبتك؟!
ابتعدتُ عمن كانوا حولي، وصرختُ في وجهي:
- أنا لم أكذب، وحتى إن كذبت، فقد قلتُ بعض الحقيقة… ولو كانت أمي حقا لما ميزت بيني وبين إخوتي، ولما سبتني، ولما دعت عليَّ بالسوء!
- هي أمك وتحبك، قلتُ لي، فقط قدِّري ظروفها، واعلمي أن كذبك هو ما يجعلها تخاصمك وتقلق منك…
- هذا غير صحيح، قلت، فأنا متميزةً في دراستي، ورغم ذلك، ودون إخوتي، تُحمِّلني كل مسؤوليات البيت، ولم تكن تعمل شيئًا حتى حين كانت بصحة جيدة! ودائما تبخس أعمالي، وتقارنني بغيري من بنات الجيران والمعارف!
صمتَتْ نفسي فصمتُّ…
حين هدأْتُ، تبين لي أنني فقدت البوصلة، واختلطت علي الأمور، فلم أعد أعرف هل، فعلا، لدينا تمساح نربيه في حوض السباحة أم لا؟
وهل تلك المرأة أمي الحقيقية أم أمي بالتبني؟
كل ما أعرفه هو أنني كلما استيقظت، أتفقد لساني…
* العنطيزة: كلمة من العامية المغربية، وتعني سوداء البشرة.
علي بنساعود