خلخلة أرض العادة في الشعر
د. أحمد بلحاج آية وارهام
تروم هذه المعزوفات على أوتار الروح السبعة خلخلة أرض العادة في الشعر، خارج ما تُعورِف عليه من مسميات زكّاها الزمن ببصمة النقد، كـ(بيت القصيد) و(بيت الحكمة) و(بيت المثَل) و(البيت اليتيم) و(بيت الأبيات)، وما إلى ذلك من التسميات التي نقشتها القراءة في حافظة الزمن، وألبسها النقد مسوح الروعة.
فالشعر العربي عبر امتداداته؛ إلى قريب من العقود الأربعة الأولى من القرن الميلادي العشرين؛ كان شعرا مُختزَلة قوتُه وفتنته وجاذبيتُه في معمار بيت وحيد يكون هو نبضَ القصيدة، وقلبَها وعالَمَها، وجامعَ أضواء معانيها. وقد التفت إلى هذه الخاصية المذهلة الشاعر المؤرخ المترجم المرحوم خليفة محمد التليسي، حيث خصص لها كتابا وَسَمه بـ(قصيدة البيت الواحد)، نظَّر في مقدمته؛ بحصافة غير مسبوقة؛ هذه القضية،وتتبَّعها في التراث النقدي العربي بعقلية متوقدة، حاكمَتْ كثيرا من المفاهيم النقدية المتصلة بالشعر العربي محاكمةَ شاعر مُلمٍّ بمضايق الشعر، مُكتوٍ بجمرته، عارف بأوابده،محيط بتاريخه، مذَكِّرا بأن الأصل في شعرنا العربي هو البيت الواحد، فالشاعر يرسله ليعبِّر عن لحظته الشعرية التي لا تُشبه أية لحظة من لحظات الزمن، وعن حاجته التي قد تستوعب حاجات الآخرين الشعورية بكل أبعادها.
فالحركة النقدية حول الشعر إنما وُلدت وتطورت بسبب ما فجَّره البيت الواحد من مفاضلات وموازنات، واعتراضات وتقبُّلات. فقدامة بن جعفر ـ مثلا ـ كان قد رأى أن الشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريد أو المعنيين في بيت واحد كان في ذلك أشعر منه إذا أتى بذلك في بيتين، (فالذي يجمع المعنيين في بيت أشعر من الذي يجمعهما في بيتين). وإلى هذا الرأي القائل بالبيت الواحد جنح ابن رشيق، حيث رأى أنه من المستحسن أن يكون الشعر بيتا قائما بنفسه، لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، بمعنى أن استقلالية البيت، واكتفاءه بذاته ككونٍ شعري خاص هي جوهر الشعرية، وسنامها.
ومن ثمة كان الشعر في اللمعة الخاطفة، وليس في طول النفَس، ورونق البلاغة، ورقرقة اللغة، فهو قوة الكثافة التي يختزل بها الشاعر ملايين الومضات في ومضة واحدة تؤثر في النفس، وتسمو بالروح. فومضة شعرية ـ حسب إزرا باوند ـ خير من ألف سطرٍ يجرُّ بترهُّله الحياة إلى الرتابة والملل، لكونها تنجح في تسجيل واقتناص استنارة واحدة حيةٍ في سطر واحد أو سطرين. والإلهام العظيم لا يأتي إلا كشعلة عود ثقاب فجائية في الظلام.
إن البيت الواحد هو سيرة عميقة لوَلعِ العربي بالإيجاز، واحتفاءِ الذاكرة بالتقاط الجوهري المتفرد،فهو لم يَعدْ:
– ذلك الذي يُعتَبر حِكمة أو مثَلا سائرا أو موعظة.
– ولا ذاك الذي يُعَد شاهدا من الشواهد النحوية أو البلاغية أو اللغوية.
– ولا تلك الأيقونة التي تقف على باب من أبواب الحياة منتظرة استدعاءها لهدف مسبَق.
بل هو حالةٌ فنية مستقلة، وغليانٌ ذاتي في إطار صورة تعبيرية مفردة بناء وتخيلا، وجوهرٌ شعري نادر، متحرر من كل ما كان زينةً،وصنعةً في العادة.
خطى تكاد تتشابه
وعلى خطى تكاد تشبه خطى خليفة محمد التليسي في (قصيدة البيت الواحد) أصدر أدونيس (ديوان البيت الواحد في الشعر العربي)، وقال في مفتتحه إنه “محاولة أخرى لبناء سياق مشترك بين ماضي الشعر العربي وحاضره، تنهض على قاعدة البيت الواحد، وهو بيت يقوم على الفكرة ـ الومضة ، أو الصورة ـ اللمحة ، أو المعنى ـ الصورة. فهنا في البيت الواحد يصفو الإيجاز، وتتكثف حكمة البداهة، وبداهة الحكمة، ويُرتجَل العميق الغامض”. وقد اختار من متن الشعر العربي الشاسع كالبحر ـ كما فعل التليسي ـ الأبيات التي رأى أن كل واحد منها يُعتَبر ديوانا، كما رأى سابقه خليفة أن كل واحد منها يُعد قصيدة.
مَجَرات تخيلية خارج ما قيل
أثرنا هذا في هذه الإضاءة لنمنح لهذه المعزوفات وضعَها الشعري الخاص، ونُبعدها عن كل تصور يربطها بما قيل عن (قصيدة البيت الواحد)، أو عن (ديوان البيت الواحد). فهي مَجرَّات تخيلية، تنهض كل مجرة منها لتقول الزمنَ النفسي للذات، داخل صور عذراء بنيةً وحركة وإيقاعا، ولتُدخل متأملها في مجال بصري جمالي، ممتد في اللغة وباللغة، وتدعوَه إلى أن يتقاسم معها الرغيف السري للحياة و للمخيال في صحن الشعر الأوسع من الوُسعِ،والعابرِ سيلانَ الزمن واندفاقاته بأقدام تنتعل الأبدَ، وتمضغ المسافات بجمرة السؤال الناهض من رماده عنقاء مسكونةً بشهوة التفلُّت من كل تفلُّت، موشومةً بشمس ما لا يُرَى.
بهذا وأحَدّ منه تهمس لك أوتار الروح هاته، وتعزف، لأنك الكائن الذي إذا قرأ اتَّسعَ الكونُ في وجدانه، وأبصر مون الجمال فيه ما لم يُبصره مكن قبلُ، فسارعَ إلى احتضانه، وإلى توسيع آياته في الناس وفي الطبيعة، دون أن تشتعل فيه الـ(أنا)، وتصيح: ها أنا قد أخرجتُكم من القبح، فمجِّدوني.
وبهذا أيضا أتت هذه المعزوفات، واضعةً نصب عينيها أن النصوص الشعرية الطويلة ما عادت قادرة على تسلُّقِ جدار هذا الزمن المَحَوْسَب والمكوثِ فيه، وعلى جذبِ قابلية المتلقي اللاهث خلف الومضة، وليس خلف الإشعاع الممتدِّ في البعيد الأبعد، فقد صار الانكماشُ والتقلص؛ إلى حدود نقطة بيضاء في قصعة زرقاء؛ سمةَ لحظاتنا، فنحن في زمن نسدُّ فيه جوعَنا بالشطائر في كل مناحي الحياة حِسا ومعنى.
_________________________________________________________________________________
من مقدمة ديواننا: (معزوفات على أوتار الروح وتريات شعرية) الصادر في الأردن.
Visited 18 times, 1 visit(s) today