لبنان، زهرةُ القلْب
محمد بنيـس
1
تاريخ لبنان الحديث هو تاريخ العروبة، بثقافتها، بوعودها وأحلامها. وهو كذلك اليوم، في أفق العروبة، يكلم أبناءه من لبنانيين وسواهم، عبر العالم. لا شيء يحتجز كلمته في معتقل من معتقلات الحرية. كلمة طائرةٌ من رُوح إلى رُوح. هي مبتدأُ الكلام. الحريةُ. حريةُ لبنان. بجناحيّن، واحد من المحبّة، التي مجّدها جبران خليل جبران، وآخر من الوداعة التي صقلَها صوتُ فيروز. لن تعلو كلمةٌ على هذ الكلمة. وبها أرى اليوم لبنان، من ضاحية بيروت الجنوبية إلى قرى الجنوب. الحريةُ التي لا تتوقف المقاومةُ عن التذكير بها في هذا اليوم ـ الأيام، من العدوان الإسرائيلي.
نعم، بكلمة الحرية أرى لبنان، في بيروت التي كانت مدينتي ومدينة جميع الذين تعلّموا أبحدية العروبة والثقافة العربية الحديثة. لكني الآن أتوقف في المطار، مطار رفيق الحريري، الذي وصلت إليه خلال زيارتي الأخيرة. ثم الضاحية الجنوبية، التي اخترقتها السيارة التي أقلتْني إلى وسط بيروت. شارع الحمرا. على شاشة التلفزيون صورُ الضاحية ومخلفاتُ الدمار وتواصلُ أنباء الاغتيالات. أسابيع من الدمار والاغتيالات. الدم والجثامين والأنقاض. ولا يتعب الاحتلال، لأنه من أجل العدوان أتى باحتلال أرض فلسطين. لا تطلبْ منه السّلْمَ الذي يحيا به لبنان. السّلم، بما هو فكرة نبيلة وكريمة، طريقةُ حياة يمارسها اللبنانيون، رغم سنوات الحروب الأهلية.
2
ولك الآن جنوبُ لبنان، بمحاذاة الأراضي المحتلة. إسرائيل تحتلُّها ببركة الغرب، من الولايات المتحدة إلى البلدان الأوروبية. على هذه الحدود كتابُ المآسي مفتوح لمن يريد أن يقرأه. لكن الذين لا يقرأونه كثيرون. هذا الجنوب الذي غنّاه شعراؤه واحتفت به السيرة الشعبية، هو الذي يقاوم، اليوم، كما قاوم عبر عهود، أسرابَ العدوان.
لك الجنوبُ، أو من الجنوب إلى الجنوب. يقينٌ بما أشاهد، صوراً متتاليات. ليتها تبطئ، قليلاً، أقول. هو الجنوب، أهل الجنوب. سيارات، خلال عتمة الليل، في نزوح طويل، على الطريق، كأنما نفقٌ مكفهر، كأنما سيولُ بركان تتدفق حممُه. أتخيل هؤلاء النازحين يعرفون ولا يعرفون في آن إلى أين هُم متوجّهون. وفي الصباح نازحون على الأقدام. يحملون القليل مما كانوا يسمّونه بيوتهم الآمنة. فإذا دمارُ البيوت وإذا الدم. أهل الجنوب بين ندب الضحايا والخوف على ما تبقى من الحياة. وهم في نزوحهم، من بيوتهم وقراهم، يمشون، كما يرحل راكبو السيارات والمركبات، وبين أيديهم أمتعةٌ وألبسةٌ خفيفة، إلى هناك، في لبنان. إلى بيروت، طرابلس، صور، زحلة، جبل لبنان. من سيسْتقبلهم هناك، إلى حيث يمضون؟ خوفي عليهم لا يترك لي وقتاً للسؤال. فقط، هم يمشون. لكنّي أشاهدهم، هؤلاء النازحين، قافلةً بطول الليل، في سياراتهم ومركباتهم يتضامنون في عبور الطريق، أو على أقدامهم يسرعون الخُطى بين الأنقاض والمباني التي استباحها الإسرائيليون، خوفاً من السقوط على الأرض بقذائف العدوان، النازلة من السماء. ليلٌ محمول على السيارات الصبورة في قافلة الازدحام، وللنهار مشاةٌ لا يتوقفون. الأنقاض، الأنقاض. لا وقتَ لبكاء القتلى.
3
هل هذا الليل ليل؟ هل هذا النهار نهار؟ لا أحد من النازحين يسأل. إنهم مثابرون على قطع الطريق، كما على المشْي، وفي قلوبهم هلع. هو العدوان الذي يقنص الأبرياء، الماشين، من بين بيت إلى بيت، ومن قرية إلى قرية. على امتداد الحدود مع العدو، الذي تجهّز للقتل في كل وقت. طائراتٌ وقنابلُ قاتلة. على طول الطريق. وعند الوصول إلى بيروت، أو إلى مدينة أخرى، تستقبلهم مدارسُ ومراكزُ إيواء هيّأتها الدولة وجمعيات ومبادرات قام بها المواطنون. وهم لا يصدّقون أنهم غادروا البيوت، القرية. وأنهم إلى هنا يلجؤون. وأنهم الجنوبيون الذين ينقلون الجنوب إلى كل مكان يحلون به لاجئين. ذلك هو الجنوب الذي يرحل إلى الجنوب. كل مكان في لبنان يستقبل الجنوبيين، ومعهم يقينُهم بالعودة إلى حيث يقيمون، في الجنوب، مصحوبين بحريتهم.
في عيني تتجمّع الصور، لحظةً بعد لحظة. الجنوبيون وما بعد الجنوبيين. همُ المقاومون الذين يسهرون على الحدود، على دحْر أيّ عدوان على الحدود. في فعل المقاومة وهو يصدّ العدوان. من أين، كيف ومتى لزمن السّلْم ألاّ يغيب عن زمن لبنان؟ لا حنينَ في هذه الصور. هي نيّئة، خرجت للتو من النيران والأنقاض. هكذا أشاهدُها، لحظةً بعد لحظة. والآن، يلزمنا صمتٌ شفّافٌ ونحن نشاهد العدوان ينزل من السماء إلى أسافل الأرض. نار تخترق الجدران والسقوف والإسمنت المسلح، لتدمر وتقتل. أطفالاً، نساء. لا يهمّ العدوانُ من الذين يقتلهم. همّه أن يقتل، أن يمنع لبنانَ من حريته، أن يحتفل به طريدة للمزيد من الطرائد.
ولمَ هذا العدوان، الذي يُعلي من الدمار والقتل؟ للدفاع عن النفس، يقول الاحتلال كما يقول شركاؤه. له وحده حقّ الدفاع عن النفس، أيْ عن الدمار والقتل والمزيد من الدمار والقتل. كذلك يردّد الشركاء، غربيون، من أمريكا إلى أروبا، وعربٌ متواطئون. هكذا تريد قوّة السلاح والمال والتكنولوجيا والدعاية. عجباً لما ينطقون به، من أعلى المنابر الدولية، وعبر وسائل الدعاية والإعلام. لكن، كيف لا يدافع اللبنانيون عن أنفسهم، عن أرضهم، عن استقلالهم، عن حريتهم؟ أوْ أوْضَح من ذلك، كيف يُمنع اللبنانيون من مبدأ التضامن مع إخوانهم الفلسطينيين في غزة؟ منطق عجيبٌ لهذا الاحتلال وشركاء الاحتلال. كما لوْ كانوا وحدهم يملكون الحق كلّه في تعيين حدُود الغزو والاحتلال، يملكونه باسم الحق في السيطرة، والاستعباد. إلى هنا جاؤوا بالعدوان. وهم في لبنان، في الضاحية الجنوبية وفي الجنوب، يُغيرون ويدمّرون ويقتلون. وكلُّ من يناصر الفلسطينيين في غزة عدوٌّ، يجب دحْره.
4
حوارٌ وجدلٌ بيني وبين نفسي، وأنا أواصل مشاهدةَ العدوان على لبنان. عدوانٌ إسرائيلي. غايته القريبة القضاءُ على المقاومة الإسلامية في لبنان. وهي هنا، تصدّ العدوان. هي التي لا تتخلى عن السّلْم، أيْ لا تتخلى عن الحريّة، في غزّة كما في لبنان. لا بدّ لنا، في هذا المشهد البطولي للمقاومة، أن نكتب كلماتنا، نحنُ، لا كلمات العدوّ، الاحتلال. لسيت مسألةَ لعبة، بل هي ضرورةُ الرؤية التاريخية، العادلة. بكلماتنا، أيْ كلمات المقاومة، نرفع الحجُبَ عن كذب البلاغة وعن مكْرها، كما هي في لغة الاحتلال.
المقاومةُ اللبنانية، وليدةُ الأرض اللبنانية، وسليلةُ الشعب اللبناني. إنها المقاومة اللبنانية، باختصار. وبمثل هذه الكلمات، نوجّه أعيننا إلى الواقع اليومي في المقاومة كما في التضامن الاجتماعي، في حياة اللبنانيين وهُمْ يستقبلون إخوانهم النازحين من الجنوب، أوْ وهُمْ يتبنّون المقاومة. لذلك نستطيع أنْ نرى بعين واقعية، وبعين حرّة أيضاً، الفعلَ المقاوم في الجنوب اللبناني وعلى الحدود، ليل نهار. باسْم واحد تتسمى المقاومة على أرضها وبين أبناء شعبها. لبنانُ العروبة، لبنانُ الحرية. اسم واحدٌ لتاريخ حديث، ولمستقبل لا يتخلّى عما كان لبنان.
5
علاقة لبنان بفلسطين، وعلاقة اللبنانيين بالفلسطينيين، هي علاقةُ العائلة الواحدة. منذ النكبة، نكبة فلسطين، عام 1948، وجد النازحون الفلسطينيون في اللبنانيين أبناء العائلة. هي روايةٌ بآلاف الصفحات والصور والذكريات. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي وشركاؤه والمتواطئون العرب يتنافسون، بدعايتهم أوْ بروايتهم، في مسْح هذا التاريخ الأخويّ المجيد، فالفلسطينيون واللبنانيون وجميعُ المحبين لهم لا ينسوْن. شهاداتُ النزوح، وتقاسمُ البيوت، والترحيب بكتّاب وأدباء وفنانين وصحفيين وناشرين، حاضرة في الذاكرة الجماعية، المشتركة في آن.
والمقاومة، اليوم، بطريقتها الخاصة، تجدّد العلاقة. علاقة التضامن. هذا الذي لا يستطيع العدوُّ الإسرائيلي، المحتل، أن يمسحَه من تاريخ لبنان الحديث. لبنان المجْد، لبنان الحريّة، لبنان الإبداع. ليفرضْ منْ يشاءُ ما يشاء. لكن، كيف يمكن مسْح أغاني فيروز؟ وأيُ يد تقْوى على حمْل ممْسحة في وجه أغاني فيروز عن فلسطين؟
فيروزُ علامة متوهّجة، معها أهدى كتابٌ وفنانون لبنانيون حياتهم وأعمالهم لفلسطين. أليس من المستحيل فصلُ اللبنانيين عن الفلسطينيين؟ يسأل متشكّك، متخاذل. مستحيلٌ، أجيب. ذلك ما عشتُه، يوماً بيوم، مع أصدقاء انتفتْ لديهم الحدودُ بين الشعبيْن والوطنيْن. المستحيل هو ما صنعوه جميعاً. السياسة والثقافة جمعت بينهم كما جمع بينهم السؤالُ عن سبب الهزيمة وكيف يقاومون ومن أين تبدأ المقاومة.
لا تنسوْا هذا التاريخ العزيز، الخفّاق، وأنتم تنظرون إلى المقاومة الإسلامية في لبنان. من العبث السعْي إلى النكوص عن اقتران ما يكون اليومَ بما كان الأمس، الذي يظل حاضراً في جميع البلاد التي أحبتْ لبنان وبين جميع الذين أحبّوا لبنان. ماض حديث، يتجّدد، في زمن يتبدّل. ومن 7 أكتوبر 2023 حتى 7 أكتوبر 2024، كتبت المقاومةُ اللبنانية اسْمها إلى جانب أختها المقاومة الفلسطينية في غزة. يدٌ في يد. لبنان وفلسطين. لبنان، زهرة القلب.