أحمد لعيوني وإعادة الاعتبار للذاكرة المجالية لـ”امزاب”

أحمد لعيوني وإعادة الاعتبار للذاكرة المجالية لـ”امزاب”

مبارك بيداقي

       ازداد الباحث أحمد لعيوني سنة 1952 بضواحي مركز ابن أحمد. دخل كتاب الدوار، وعمره لا يتجاوز أربع سنوات، تعلم هناك الحروف الأبجدية بالطريقة التقليدية، وحفظ عدة أجزاء من القرآن الكريم على يد الفقيه سي بوشعيب الزهراوي رحمه الله، والذي كان مشارطا عند أحد أعيان القبيلة. كان الدوار يبعد عن مركز ثلاثاء لولاد المسمى آنذاك فيني-فيل Venet ville بحوالي خمس كيلومترات، وعن مركز ابن أحمد بحوالي ثماني كيلومترات، وهما المركزان اللذان توجد بهما المدرسة الابتدائية. وفي سنة 1958 وبعد حصول المغرب على الاستقلال، تم بناء قسم بالدوار، على مقربة من سكن الطفل بمسافة تقل عن نصف كيلومتر. القسم جزء منه بني بالصلب، والباقي بالبناء المفكك، وذلك في إطار برنامج حكومي كان يهدف إلى تمدرس جزء من أبناء البوادي، بإحداث أقسام دراسية نموذجية متفرقة. وصادف الحال أن الطفل أحمد تجاوز عمره الست سنوات لقبوله بالدراسة، وخاصة أن أغلبية العائلات، إن لم نقل جلها، من سكان البادية، لم تتوفر لهم الفرصة للحصول على دفتر للحالة المدنية، ولم يكن يشغل بالهم الاهتمام بضبط سن الولادة.

سُجل باسم أحمد بن العربي في قسم ضمّ ثلاثة وخمسون تلميذا، كلهم ذكور، لأن التفكير في تدريس البنات بالبادية لم يكن مقبولا من طرف الآباء، بعد أن تم تسجيل ما يقارب مائة طفل في سن التمدرس وقتها. وبقي مجموع التلاميذ ينتقلون من مستوى إلى آخر، سواء منهم المتفوقون، أو من هم أقل مستوى، دون رسوب إلى أن بلغوا مستوى الشهادة الابتدائية، حيث سمح بالمشاركة في امتحان الانتقال إلى الثانوي لحوالي عشرين تلميذا، نجح منهم ثمانية، وأرجئ الباقون إلى السنة المقبلة.

قضى أحمد لعيوني سنته الأولى بمستوى الإعدادي، بإعدادية ابن أحمد. وهي المؤسسة الوحيدة بهذا المستوى من التعليم بتراب الدائرة، وكانت الدراسة تبتدئ بقسم الملاحظة المحدث لأول مرة.

ولظروف عائلية، اضطر الطفل أحمد للانتقال للدراسة بمدينة خريبكة، حيث التحق بثانوية ابن ياسين. مؤسسة ضخمة، تضم العديد من البنايات، وتتفرع لعدة مستويات، ما بين الإعدادي والثانوي، وتعليم خاص بالبعثة الفرنسية لأبناء الجالية الأوربية، الذين كان آباؤهم يشتغلون أطرا تقنية بالمكتب الشريف للفوسفاط، وبعض التجار والفنيين المقيمين بالمدينة. كما شملت الدراسة بهذه المؤسسة التعليم العام، بالإضافة إلى تخصصات التعليم التقني الصناعي والتجاري. وبعد قضاء أربع سنوات بثانوية ابن ياسين، انتقل أحمد لعيوني بناء على اختيارات التوجيه المدرسي إلى ثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء للدراسة والإقامة بالقسم الداخلي، إلى أن حصل على شهادة الباكلوريا في الآداب الأصلية المزدوجة فرع (أ). وبموجب هذه الشهادة تسجل بكلية الحقوق بالرباط سنة 1972، بشعبة العلوم السياسية باللغة العربية، وهي الكلية الوحيدة بهذا التخصص بالمغرب حينها، مع فرع تابع لها بالدار البيضاء، بساحة ميرابو.

***

    في تلك السنة (1972) كان الغليان الطلابي على أشده، في إطار أنشطة المنظمة الطلابية “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” التي كانت تتنازع على تسييرها تيارات يسارية. وكلها تأثيرات وإيديولوجيات وجدت لها صدى داخل حرم الجامعة. وبناء على ذلك الحراك، وحسب ما يذكر هذا الباحث فلم تنطلق الدراسة الجامعية حتى بداية شهر فبراير 1973، بعد إعلان حل منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كما ثم إغلاق كلية الآداب بالرباط في وجه الطلبة. آنذاك استقر الحال بباقي مؤسسات التعليم العالي، التي استمرت فيها الدراسة بشكل عادي، وتم استقبال الطلبة الجدد بالحي الجامعي بعد إعادة فتحه.

بعد حصوله على الإجازة سنة 1976، عين ذ. أحمد لعيوني في إطار الخدمة المدنية التي كانت إجبارية. قضى سنته الأولى بالخدمة المدنية بعمالة إقليم خريبكة، وفي أواخر 1977، التحق بوزارة التربية الوطنية ليشغل وظيفة ممون بالمؤسسات التعليمية الثانوية.

وعلى إثر استفادته من برنامج المغادرة الطوعية الذي أقرته الحكومة سنة 2005، ولتفادي روتين التقاعد، استفاد مما راكمه من معرفة من خلال المطالعة التي كان يواظب عليها في أوقات فراغه، هكذا بدأ في محاولة كتابة مقالات متنوعة في بعض المواقع الإلكترونية التي ظهرت مع تطور تكنولوجيا المعلوميات خلال العشرية الثانية من القرن الحالي، وكذلك بالصحافة الورقية. وقد لاحظ من خلال مطالعاته، واحتكاكه بأشخاص مسنين، وحضوره لندوات مختلفة، انعدام وجود تاريخ مكتوب لمنطقته امزاب، مثلما تتوفر عليه حواضر ومناطق أخرى. وبعد استشارات وتنقلات إلى العديد من الخزانات ومراكز التوثيق والأرشيف، استطاع تأليف كتابه الأول سنة 2016 بعنوان: “قبائل امزاب بالشاوية – تاريخ وثقافة 1830- 1910”. هذا الكتاب اهتم بالتعريف بمنطقة امزاب بالشاوية، من حيث مؤهلاتها الجغرافية والبشرية والاقتصادية والتاريخية، كما قدم مونوغرافية توثيقية شاملة لقبائل امزاب خلال القرن التاسع عشر. وتضمن الكتاب سبعة فصول، بالإضافة إلى بيبليوغرافيا باللغتين العربية والفرنسية، اعتمدها المؤلف لإنجاز هذا الكتاب، رغم أن أغلبها لا يتضمن سوى شذرات طفيفة، عمل المؤلف على تجميعها وتحليلها ليركب منها نصا تاريخيا يستفاد منه.

وسيرا على هذا النهج، في إطار التعريف بمنطقته وإشعاعها محليا ووطنيا، فقد أنجز كتابا ثانيا سنة 2019 بعنوان: “منطقة ابن أحمد امزاب في الأرشيف الفرنسي”. وهي دراسة للحفر في الذاكرة المحلية، انطلاقا من استثمار وثائق الأرشيف لسلطات المراقبة المدنية منذ استقرارها بقصبة ابن أحمد في 1908، وكونت منها مركزا إداريا لقبائل امزاب. هذا الأرشيف الذي يوجد جزء منه بمؤسسة أرشيف المغرب بالرباط، والجزء الأكبر، لا زال محفوظا بمركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانت الفرنسية، استطاع المؤلف الوصول إليه، وتمكن من استخراج ما يتعلق بدائرة ابن أحمد، لكتابة نص تاريخي يدون لمرحلة الحماية الفرنسية بالمنطقة من سنة 1908 إلى 1956.

وخلال فترة الحجر الصحي بسبب وباء كوفيد-19، جمع مقالات كان ينشرها خلال تلك المرحلة بالعديد من المواقع الوطنية تعبيرا عن أحداث الوباء وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والتدريس عن بعد، واللجوء في تلك الفترة العصيبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي في إطار التخفيف من معاناة الحجر الصحي، وأصدرها في كتاب بعنوان : “تأملات في زمن كورونا” سنة 2021.

شارك أحمد لعيوني في مجموعة من المؤلفات الجماعية، منها كتاب “ثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء– تحولات جيل”. صدر سنة 2021، و”ثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء – تحديات جيل”. صدر سنة 2024، و’الزوايا والصلحاء بالشاوية – التصوف والمجتمع”، بإشراف وتحرير شعيب حليفي. صدر سنة 2022، و”امزاب : القبيلة والمقاومة الشعبية” صدر سنة 2023. وله حاليا كتاب قيد الطبع بعنوان: “ابن أحمد امزاب من خلال شهادات القدماء”. كما نشر مجموعة من الأبحاث والمقالات بالجرائد الوطنية الورقية والإلكترونية.

ومجمل القول فإن أعمال أحمد لعيوني تتركز على دراسة العادات والتقاليد والتاريخ الاجتماعي لساكنة امزاب، والتي تولي اهتماما خاصا للهوية المحلية والتغييرات التي شهدتها منطقة امزاب عبر عقود. ويهدف الباحث من خلال مجهوده إلى تعزيز الوعي بالتراث المحلي، وتحفيز الأجيال الجديدة على الاهتمام بالتاريخ والموروث الثقافي بشكل عام ومنطقة امزاب بشكل خاص.

ونستنتج من خلال أعمال الباحث أحمد لعيوني أنها تؤدي عدة أدوار يمكن تلخيصها فيما يلي:

  • توثيق التراث بتدوين الممارسات الثقافية والتقاليد والعادات المحلية للحفاظ على الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة.
  • تعزيز الوعي الثقافي من خلال دراسة التاريخ المحلي، وفهم كيفية تطور المجتمع والتغييرات التي طرأت عليه.
  • فهم التحولات الاجتماعية عبر الزمن، ووضعها في سياقها التاريخي.
  • تعزيز التفاعل الاجتماعي ببناء جسور التواصل بين الأجيال، لتعزيز الروابط الاجتماعية.
  • العمل على إحياء الذاكرة التاريخية المحلية من منظور التاريخ الوطني.
Visited 45 times, 4 visit(s) today
شارك الموضوع

مبارك بيداقي

من قدماء ثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء