كارل ماركس: برونو باور و الإشكالية اليهودية (1/3)

كارل ماركس: برونو باور و الإشكالية اليهودية (1/3)

  ترجمة: سعيد بوخليط

       تقديم: دبَّجَ كارل ماركس خمسين صفحة حول إشكالية تحرُّر اليهود، للإجابة على أطروحات برونو باور أحد أساتذته القدامى الذي درَّسه اللاهوت في برلين خلال سنوات (1836-1840). باور لاهوتي بروتستاني، انكبَّ طويلا على دراسة حياة المسيح، لكنه طُرد من كرسي الأستاذية نتيجة انتقاداته الجرِّيئة سنة 1841، فأصدر بعد ذلك دراسات عدَّة لاذعة، أبرزها في هذا السياق اهتمامه بـ”الإشكالية اليهودية”.  

يلتمس اليهود الألمان التحرُّر. فما المقصود بذلك؟ التحرُّر المدني، السياسي. أجابهم برونو باور (1): لاي وجد شخص متحرِّر سياسيا في ألمانيا. بدورنا نحن الألمان لسنا أحرارا. كيف بوسعنا تحريركم؟ أنتم اليهود أنانيون، تلتمسون لصالحكم، تحرُّرا خاصا، لأنكم يهود. يجدر بكم العمل، انطلاقا من صفتكم كألمان،بهدف تحقيق التحرُّر السياسي لألمانيا، ثم الاستناد إلى خاصيتكم البشرية، من أجل تحرير الإنسان، وضرورة الإحساس بالمجال الخاص لاضطهادكم وإذلالكم، ليس باعتباره استثناء عن القاعدة، لكن بالأحرى ما يؤكِّدها.

إما يدعو اليهود إلى مماثلتهم بالمواطنين المسيحيين؟ إذا اعترفوا بدولة مسيحية  تستند على القانون، فإنهم يقرُّون حينها بنظام الاستعباد عموما. فلماذا تثير عبوديتهم الخاصة استياءهم، بينما ترضيهم العبودية في صيغتها العامة؟ لماذا تهتم ألمانيا بتحرير اليهودي، إذا لم يهتم الأخير بتحرير ألمانيا ؟

لا تعرف الدولة المسيحية سوى امتيازات. يمتلك اليهودي في ذاته امتياز أن يكون يهوديا. وضعية أتاحت له حقوقا غير متاحة للمسيحيين. فلماذا يطلب بحقوق ليست له، ومن حقِّ المسيحيين؟

حين التماس انعتاقهم من الدولة المسيحية، يؤكِّدون ضرورة التخلِّي عن انحيازها الديني. لكن هل يتخلى اليهودي بدوره، عن تعصُّبه الديني؟ بالتالي، هل من حقه مطالبة الآخر بالتنازل عن دينه؟

لايمكن للدولة المسيحية،بناء على ماهيتها،تحرير اليهودي.أيضا،يضيف برونو باور،لايمكن لليهودي الانعتاق في خضمِّ ماهيته.طالما تبقى الدولة مسيحية وبقدر بقاء اليهودي يهوديا، يكون الاثنان معا غير قادرين سوى قليلا، كي يمنح أحدهما التحرُّر، ثم يتلقاه  الثاني.

بخصوص اليهود، ستظلُّ الدولة المسيحية متمسِّكة بوضعية دولة مسيحية. يلزمها، بطريقة تمييزية، السَّماح لليهودي كي ينفصل عن باقي المواطنين؛غير أنَّ مثل هذا الوضع سيغدو عبئا على هذا اليهودي نتيجة تأثير اضطهاد أوساط أخرى، خصوصا حينما يجد اليهودي نفسه في تعارض ديني مع الديانة السائدة. بدوره، فاليهودي غير ممكن بالنسبة إليه، الاكتفاء بوضعية حيال الدولة تشير إلى يهوديته، بمعنى شخصا غريبا: هكذا، يطرح مقابل القومية الحقيقية، قوميته الخرافية، ثم قانونه الوهمي ضد القانون معتقدا امتلاكه حق الانفصال عن باقي البشرية؛ مبدئيا، لا يشارك قط في حركة التاريخ ويترقَّب بلهفة مستقبلا مغايرا تماما لمستقبل الإنسانية مادام يعتبر نفسه عضوا منتميا إلى الشعب اليهودي والأخير بمثابة شعب مختار.

إذن، بناء على أيِّ أساس، ينشد اليهود التحرُّر؟ تبعا لدينهم؟ يمثل هذا الدين العدوُّ اللدود لدين الدولة. أو لأنَّهم مواطنون؟ ينعدم وجود مواطنين داخل ألمانيا. أم لأنَّكم بشر؟ لستم بشرا، بل ولا الفئة التي وُجِّه إليها النداء.

أضفى برونو باور على إشكالية الانعتاق اليهودي وضعا جديدا، بعد انتقاده الوضعيات والحلول القديمة لهذه الإشكالية.يتساءل عن طبيعة اليهودي المقصود بالتحرُّر، وكذا طبيعة الدولة المسيحية التي يجدر بها التحرّر؟ يطرح نقدا للدين اليهودي، ويقارب التعارض الديني بين اليهودية والمسيحية، ثم يشرح لنا ماهية الدولة المسيحية، بخطاب جريء، واضح الفكر، عميق ثم وفق لغة دقيقة قدر صلابتها وفعاليتها. 

كيف إذن عالج برونو باور الإشكالية اليهودية؟ ما النتيجة؟ صياغة السؤال وتسويته. انتقاد المسألة اليهودية بمثابة جواب عليها. ها هو الملخَّص:

يلزم بداية تحرير أنفسنا، قبل التفكير في تحرير الآخرين.

 يتجلى الشَّكل الأكثر صلابة للتعارض بين اليهودي والمسيحي، في التعارض الديني. كيف السبيل إلى تسوية هذا التعارض؟ بجعله مستحيلا. كيف نجعل مستحيلا تعارضا دينيا؟ بإلغاء الدين. عندما يكتفي اليهودي والمسيحي في النظر إلى ديانتيهما، باعتبارها مجرَّد مستويات مختلفة ضمن تطوُّر العقل الإنساني، ”جلود الثعابين” وقد سلبها الثعبان المسمى إنسانا، لن يتعارضا حينئذ دينيا، لكن في إطار علاقة محض نقدية، علمية، إنسانية. يجسِّد العلم وحدتهما. والحال، أنَّ العلم نفسه يقدِّم حلاًّ  للتعارضات العلمية.  

يعتبر أساسا غياب التحرُّر السياسي، وكذا المسيحية المتبنَّاة من طرف الدولة،  المعطى الجدير بمعارضة اليهودي الألماني. لكن، حسب دلالة برونو باور، فللإشكالية اليهودية دلالة عامة، مستقلة عن الشروط الألمانية تحديدا. إنَّه سؤال علاقات الدين بالدولة، والتباين بين الاتّقاء الديني والتحرُّر السياسي. التخلُّص من الدين، بمثابة الشرط الذي نطرحه على عاتق اليهودي، المتطلِّع وجهة انعتاقه السياسي، مثلما يلزم الدولة التحرُّر.

“طيِّب، كما يقال، واليهودي نفسه يؤكِّده؛ لا ينبغي لليهودي التحرُّر لأنَّه يهودي، نظرا لامتلاكه مبدءا أخلاقيا ممتازا وذا طابع إنساني عام؛ يشغل اليهودي بالأحرى مرتبة خلف المواطن لكنه سيكون مواطنا، في إطار يهوديته ويلزمه البقاء يهوديا. حسب معاني أخرى، هو يهودي وسيبقى كذلك، رغم أنَّه مواطن يعيش في خضمِّ شروط إنسانية كونية: باستمرار تحقِّق طبيعته اليهودية والمحدودة، في نهاية المطاف الانتصار على التزاماته الإنسانية والسياسية. يستمرُّ التأويل جاهزا رغم أنَّ كنهه قد غمرته مبادئ عامة. لكن، إذا كان الأمر كذلك، سيمتدُّ نحو كل شيء”.

-”فقط حسب دلالة سوفسطائية وبناء على معطيات الظاهر، بوسع اليهودي ضمن إطار الحياة السياسية البقاء يهوديا؛ بالتالي، إذا أمكنه التمسك بهويته، سيشكِّل إذن الظاهر الأساس ويحقِّق الانتصار؛ِ بمعنى ثان، تمثِّل حياة اليهودي داخل الدولة مظهرا أو استثناء لحظيا على مستوى الماهية و كذا المعيار”(2). 

لنرى من جهة ثانية كيف يحدِّد برونو باور وظيفة الدولة:

“بالنسبة للمسألة اليهودية، فقد بلورت لنا فرنسا حديثا-مثلما تصرَّفت حيال باقي الأسئلة السياسية منذ ثورة يوليوز- مشهد حياة حرَّة، تلغي حريتها في إطار القانون وتعلنها بالتالي مجرد ظاهر، بينما من جهة ثانية، تدحض بأفعالها قانونها الحرّ” (المسألة اليهودية، ص 64).

”في فرنسا، لم تتشكَّل بعد الحرية العامة كقانون، ولم تتم تسوية المسألة اليهودية، لأنَّ الحرية الشرعية-بمعنى مساواة كل المواطنين-لازالت مقيَّدة داخل الحياة نتيجة هيمنة المزايا الدينية وتجزيئها، ولأنَّ الحرية الشرعية تعكس قانونيا الاستعباد السائد على مستوى الحياة: إنَّها تجبر على معاقبة كل تمييز بين المواطنين الأحرار طبعا، إلى ظالمين ومظلومين ”(المسألة اليهودية ص 65).  

متى إذن تتم تسوية المسألة اليهودية داخل فرنسا؟

”مثلا، سيتوقَّف حقا اليهودي، على أن يكون يهوديا، إذا لم يمنعه قانونه كي يؤدِّي واجباته نحو الدولة وكذا مواطنيه، فيحضروا يوم السبت جلسات مجلس النواب والانخراط في النقاش العمومي. يستدعي ذلك، محو كل امتياز ديني، ومن خلاله إمكانية احتكار كنيسة تحظى بالأفضلية؛ وإذ لازال البعض يؤمن أو الأغلبية الساحقة في إمكانية أدائهم الشعائر  الدينية، ينبغي تحويلهم هذا الأمر إلى قضية ذات طابع خاص تماما” (المسألة اليهودية، ص 65).

”سيختفي الدين عموما، خلال اليوم الذي لن يتمتع أيّ دين بأفضلية معينة. اخلعوا عن الدين قوته الاستثنائية، ثم سينعدم وجوده” (المسألة اليهودية، ص 65). “تجلَّى للسيد مارتان في الشمال، من خلال مشروع عدم الإشارة إلى يوم الأحد ضمن بنود القانون، إعلان  مفاده انتهاء وجود المسيحية؛ بنفس طريقة (هذا الحق مبرَّر بالمطلق)، الإعلان بأنَّ قانون يوم السبت غير ملزم لليهود مما يستتبع تأكيد نهاية اليهودية” (المسألة اليهودية ص 71).

إذن، يستوجب برونو باور، من جهة، تخلِّي اليهودي عن اليهودية، مثلما ينبغي للإنسان أن يفعل إجمالا مع الدين، قصد تحرُّره مدنيا. ثم من جهة أخرى، يستدعي ذلك منطقيا، اعتبار الإلغاء السياسي للدين بمثابة إلغاء للدين عموما. الدولة، التي تفترض الدين، لم تبلغ بعد مرتبة دولة فعلية وحقيقية ”بالتأكيد، يمنح التمثيل الديني ضمانات إلى الدولة. لكن أيّة دولة؟” (المسألة اليهودية، ص97 ). نلاحظ مقاربة برونو باور المسألة اليهودية فقط من جانب واحد.

لا يكفي أبدا التساؤل: من ينبغي له أن يحرِّر؟ من ينبغي له التحرُّر؟ سيطرح النقد سؤالا ثالثا، حول هوية التحرُّر؟ ما الشروط التي تبرِّر ماهية التحرير المتوخى؟ أليس انتقاد التحرير السياسي بمثابة انتقاد نهائي للمسألة اليهودية وكذا تسويتها الحقيقية في إطار “السؤال العام للحقبة”.

مادام برونو باور، لم يرتق بالإشكال إلى هذا الأفق، فقد سقط في تناقضات. يطرح شروطا غير مبرَّرة ضمن ماهية التحرُّر السياسي. أثار أسئلة لا تنتمي إلى إشكاليته، ويعالج قضايا أبقت سؤاله باستمرار وفق حاله. عندما يقول برونو باور، بخصوص معارضي التحرُّر اليهودي: ”تمثَّل خطأهم الوحيد افتراضهم بأنَّ الدولة المسيحية هي الوحيدة الحقيقية وعدم إخضاعها لذات النقد الذي يوجهونه لليهودية”. يكمن خطأ برونو باور مثلما تظهر هذه الواقعة، إخضاعه للنقد فقط ”الدولة المسيحية” وليس ”الدولة في ذاتها”، ولم يقارب علاقة التحرُّر السياسي مع الإنساني ويطرح بالتالي شروطا لايتمّ تفسيرها سوى بخلط عام بين التحرّر السياسي والإنساني نتيجة انتقاء الحسِّ النقدي. إذا ساءل برونو باور اليهود: هل لديكم الحقّ، حين التموقع عند وجهة نظركم، في المطالبة بالتحرّر السياسي؟ نطرح السؤال معكوسا: هل تمتلك وجهة نظر التحرّر السياسي الحقّ قصد مطالبة اليهودي بإلغاء اليهودية، وتخلُّص الإنسان من كل دين؟

تُطرح المسألة اليهودية بكيفية مختلفة تبعا للدولة التي يعيش داخلها اليهودي. يأخذ الإشكال اليهودي في ألمانيا، جراء انعدام دولة سياسية، الدولة باعتبارها دولة، منحى لاهوتيا خالصا. يجد اليهودي نفسه بين طيات وضعية مواجهة دينية مع الدولة، التي تعلن المسيحية أساسا لها. هذه الدولة لاهوتية بكيفية مهنية. النقد هنا بمثابة نقد للاهوت، وفق حَدَّين، انتقاد اللاهوت المسيحي، واليهودي. وحينما نبقى كليا في النقد، لن نخرج قط من اللاهوت.

المسألة اليهودية، داخل فرنسا، الدولة المؤسساتية، بمثابة إشكالية دستورانية، سؤال عدم اكتمال التحرُّر السياسي. مثلما تحتفظ فرنسا على مظهر ديانة دولة، وفق صيغة بلا معنى ومتناقضة، صحيح، دين الأغلبية، تحافظ وضعية اليهود حيال الدولة، على شكل معارضة دينية لاهوتية.

ليس سوى في الدول الحُرَّة لأمريكا الشمالية، على الأقل بعضها، تخلَّصت المسألة اليهودية من دلالتها اللاهوتية وصارت حقا سؤالا علمانيا. فقط على مستوى بلدان تعيش تحت كنف دول تختبر تطورها الشامل، أمكن لعلاقة اليهودي، وبشكل عام، الإنسان الديني مع الدولة السياسية، ثم علاقة الدين مع الدولة، التجلِّي وفق سمتها الخاصة ومنتهى نقائها. يتوقف انتقاد هذه العلاقة عن استحضار المنحى اللاهوتي، بمجرَّد قطع الدولة مع تصور الدين بناء على وجهة نظر لاهوتية، وانتقالها صوب وجهة نظر سياسية بحيث تتصرَّف حقا كدولة. يصبح النقد إذن نقدا ينصبُّ على الدولة السياسية. بخصوص هذا المحور، وقد انتهى الإشكال من صبغته اللاهوتية، يكفُّ انتقاد برونو باور على أن يكون انتقادا: ”لايوجد في الولايات المتحدة الأمريكية سواء دين دولة، أو ديانة معلنة كديانة للأغلبية،ولا سموَّ شعيرة على حساب أخرى.الدولة فوق مختلف الشعائر(ماري،أو العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية،غوستاف دي بومونت، باريس، 1835، ص 214). بل هناك دول في أمريكا الشمالية: ”لايفرض دستورها قط الاعتقادات الدينية أو تطبيق شعيرة معينة كشرط للظَّفر بامتيازات سياسية” (نفسه ص 255)، رغم: ”الاعتقاد السائد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بأنَّ إنسانا دون ديانة قد لايكون إنسانا صادقا” (نفسه ص 224 ). فأمريكا الشمالية، يعتبر بلدا مفضَّلا للتديُّن، مثلما أكَّد ذلك بصوت واحد كل من بومونت، أليكسيس دو توكفيل وكذا الانجليزي هاملتون. تقدِّم لنا دول أمريكا الشمالية فقط نموذجا. السؤال كالتالي: بناء على أيِّ علاقة يجابه التحرير السياسي الكامل، الدِّين؟ نصادف داخل بلد التحرير السياسي المكتمل، ليس فقط الوجود، بل الوجود الديني المنعش والنشيط، يكمن الدليل في عدم تعارض وجود الدين مع كمال الدولة. لكن، بما أنَّ حقيقة وجود الدين تجسِّد عَوَزا معينا، فلايمكن البحث ثانية عن عِلَّة هذا العَوَز سوى في إطار ماهية الدولة نفسها. لاأرى، في الدين، أساسا، لكنه ظاهرة تقيِّد العلمانية. مما يفسِّر الارتباك الديني للمواطنين الأحرار من خلال ارتباكهم العلماني. لا أدَّعي قط بضرورة تجاوزهم القيد الديني، بمجرد إلغاء حدودهم العلمانية. لن أحوِّل الأسئلة العلمانية إلى أخرى لاهوتية. بل، أحوِّل الأسئلة اللاهوتية وجهة أخرى علمانية. بعد أن صُمِّمَ التاريخ طويلا في خضمِّ الخرافة، سأتناول الخرافة كتاريخ. تغدو بالنسبة إليَّ، إشكالية علاقات التحرُّر السياسي والديني، سؤال التحرُّر السياسي والإنساني. أنتقد الضعف الديني للدولة السياسية، بانتقاد الأخيرة، تجريد لأوجه قصورها الديني، ضمن بنائها العلماني. أضفي على التناقض بين الدولة وكذا ديانة معينة، اليهودية مثلا، تعبيرا إنسانيا، بإبراز التعارض بين الدولة وكذا العناصر العلمانية المحدَّدة، ثم تحويل التناقض بين الدولة والديانة عموما إلى تناقض بين الدولة وكذا افتراضاتها عموما.

يكمن التحرُّر السياسي لليهودي، المسيحي، والرجل الديني وفق كلمة واحدة، في تحرير الدولة اليهودية، والمسيحية من الدين عموما. بناء على صيغتها الخاصة، عبر النمط  النوعي لماهيتها، مثلما الشأن مع الدولة، تتحرَّر الأخيرة من الدين بتحرُّرها من دين الدولة، بمعنى عدم تمييز دين معين، بل إقرارها تماما باعتبارها دولة. التحرُّر السياسي من الدين، لا يعني تحرُّرا مطلقا وشاملا من الدين، مادام التحرُّر السياسي ليس بنموذج مطلق ونهائي على مستوى الانعتاق الإنساني.

يتبدَّى فورا سقف التحرُّر السياسي من خلال إمكانية تقويض الدولة لحاجز دون أن يتحرَّر الإنسان فعليا، وإمكانية تحرُّر الدولة، دون أن يغدو الإنسان حرَّا. برونو باور نفسه أقر ذلك ضمنيا، حين وصله التحرّر السياسي مع الشرط التالي: ”يلزم،فضلا عن ذلك، محو كل امتياز ديني، أو احتكار من طرف كنيسة مُميَّزة؛ وإذا كان البعض مؤمنا دائما أو الأغلبية الساحقة، بضرورة القيام بواجبات دينية، فيلزم أن تظلَّ هذه الممارسة بالنسبة إليهم شأنا فرديا خالصا”. بوسع الدولة الانعتاق من الدين، حتى ولو تمسَّكت الغالبية العظمى بالنزوع الديني ضمن نطاق خاص.

يعكس موقف الدولة، الحرَّة أساسا، من الدين، نفس موقفها نحو الدين الذي يمارسه أفراد الدولة.لذلك، بواسطة الدولة سياسيا، يتمكَّن الفرد من كسر حاجز، والارتقاء فوقه، بالتناقض مع نفسه، بكيفية مجرَّدة و جزئية. أضف إلى ذلك، يتحرَّر سياسيا، عبر انعطافة، من خلال وسيط جوهري، صحيح لقد تحرَّر الإنسان. أخيرا، حتى مع إعلانه إلحاده بواسطة الدولة، بمعنى الإقرار بدولة ملحدة، يستمر الإنسان دائما منحصرا بين ثنايا وجهة نظر دينية، تحديدا لأنَّه لا يدرك وضعيته تلك سوى من خلال انعطافة، بفضل وسيط. بالتالي، فالدين بمثابة إقرار الإنسان بانعطافة ووسيط. تمثِّل الدولة انتقالا بين الإنسان ثم حريته. مثلما أنَّ المسيح وسيط شَحَنه الإنسان بكلِّ ألوهيته، وجلِّ احتوائه الديني، تجسِّد الدولة وسيطا أضفى عليها الإنسان مجمل لا-ألوهيته وكذا منتهى تقيُّده الإنساني.

يساهم الارتقاء السياسي بالإنسان فوق الدين، في كل سلبيات وإيجابيات الارتقاء السياسي عموما. مثلا، دولة من هذا القبيل، تلغي الملكية الخاصة، ويشرِّع الإنسان سياسيا، حظرها بمجرَّد اتخاذه قرار عدم ارتباط الناخبين وكذا أحقِّية الانتخاب، بالنصاب الانتخابي، مثلما تقرَّر على مستوى عدد من دول أمريكا الشمالية. لقد أوَّل ألكسندر هاملتون ذلك بكيفية دقيقة جدا من وجهة نظر سياسية: “حقَّقَ السَّواد الأعظم الانتصار على المُلاَّكِ وكذا الثروة المالية”. هل ألغيت المِلْكية الخاصة بكيفية مثالية، وقد صار من لايملك مُشَرِّعا بالنسبة لمن يملك؟ النِّصاب الانتخابي، صيغة سياسية أخيرة للإقرار بالمِلْكِية الخاصة.

مع ذلك، هذا الإلغاء السياسي يفترض مُسْبقا المِلْكِية الخاصة. تبطل الدولة بطريقتها الفوارق التي أرستها الولادة، المكانة الاجتماعية، التعليم، الحيازة الشخصية،من خلال التأكيد على أنها فوارق غير سياسية، وبوسع كل فرد من الشعب، دون مراعاتها، تقاسمه على قدم المساواة، السيادة الشعبية، عندما يعرض إلى مختلف عناصر الحياة الشعبية الفعلية بالتمركز ضمن وجهة نظر الدولة. لكن الأخيرة، لن تترك المِلْكِية الخاصة، التعليم، الحيازة الفردية، تتصرَّف على طريقتها، أو إمكانية هيمنة طبيعتها النوعية. بعيدا جدا عن إلغائها هذه التباينات  الوهمية، والموجودة بالأحرى فقط ضمن افتراضاتها؛ إنها تدرك كونها دولة سياسية وترسِّخ إطارها العام بمعارضة هاته العناصر.يحدِّد هيغل بطريقة صائبة للغاية،علاقة الدولة بالدين،حينما قال :”كي تتمكَّن الدولة من الوجود باعتبارها حقيقة للفكر واعية وأخلاقية، ينبغي لها التميُّز عن الشكل السلطوي وكذا الإيمان. غير أنه أمر لا يتحقق سوى إذا أمكن للعنصر الكَنَسِي الانفصال من تلقاء ذاته. بناء فقط على هذه الطريقة، عبر سموِّ الدولة فوق مختلف الكنائس الخاصة، تحقِّقُ عمومية الفكر، ومبدأ صيغته، وتمنحهما الوجود” (هيغل، فلسفة الحق، الطبعة الثانية، ص 346 ) صحيح! فليس سوى فوق العناصر الجزئية، تتجلَّى الدولة باعتبارها حقيقة عامة.

الدولة السياسية المثالية، حسب ماهيتها، الحياة العامة للإنسان مقابل الحياة المادية. يتواصل استمرار افتراضات هذه الحياة الأنانية داخل المجتمع المدني خارج دائرة الدولة، كخاصِّيات للمجتمع البورجوازي. هنا، حيث بلغت الدولة السياسية تفتُّحها الحقيقي، يدبِّرُ الإنسان حينها، ليس فقط على مستوى الفكر، الوعي، لكن في إطار الواقع، الحياة، وجودا ثنائيا، سماويا وأرضيا، الوجود داخل المجموعة السياسية، معتبرا نفسه كائنا عاما، ثم حضوره داخل المجتمع المدني، بحيث يتصرَّف مثل شخص خاص، ويرى في الأشخاص الآخرين مجرد وسائل، ثم يعود بدوره إلى مرتبة وسيلة لا غير ويصبح لعبة القوى الأجنبية. بدورها الدولة السياسية حيال المجتمع المدني، روحية مثلما السماء تجاه الأرض. يجد الإنسان نفسه إزاءها ضمن نفس التعارض، وينتصر عليه بنفس طريقة انتصار الدين على العالم الدنيوي: إنَّه مرغم على استكشافها، ترتيبها بل والسَّماح لها كي تسود. الإنسان كائن دنيوي، في إطار حقيقته المباشرة جدا، داخل المجتمع المدني. هنا، يتمثَّل ذاته كما يعتبره الآخرون، مثل كائن فعلي، لكنه ظاهرة غير حقيقية. في المقابل، يتوخى الإنسان ضمن إطار الدولة، نموذج كائن عمومي، عنصرٍ متخيَّل ضمن سيادة متخيَّلة، تجرَّد من حياته الفعلية والشخصية كي تحتويه عمومية غير حقيقية.

الصراع الذي يصادفه الإنسان، وقد تبنَّى علانية دينا معينا، انطلاقا من صفته العامة كمواطن وصحبة البشر الآخرين كأعضاء داخل المجموعة، يفضي إلى تصدُّع علماني بين الدولة السياسية والمجتمع المدني. بالنسبة للإنسان الذي يُنظر إليه مثل ”بورجوازي”، فـ”الحياة داخل الدولة مجرَّد مظهر أو استثناء لحظي قياسا للماهية وكذا القاعدة”. حقا ”البورجوازي”، على شاكلة اليهودي تماما، لا يستمر داخل الحياة السياسية سوى من خلال المغالطة، كما أنَّ ”المواطن” لا يستمر يهوديا أو بورجوازيا إلا في إطار المغالطة. لكنها ليست شخصية. بل، مغالطة الدولة السياسية نفسها. الاختلاف بين الإنسان المتديِّن والمواطن، هو نفس التناقض القائم بين: التَّاجر والمواطن، العامل المياوِم والمواطن، المالك العقاري والمواطن، الشخص الحيوي والمواطن. يمثِّل تناقض رجل الدين مع المواطن السياسي، نفس تناقض البورجوازي مع المواطن، وكذا عضو المجتمع البورجوازي نفسه نحو جِلْده كأسد سياسي.  

التعارض العلماني، الذي تفضي إليه في نهاية المطاف القضية اليهودية، علاقة الدولة السياسية بمسلماته، سواء تعلق الأمر بعناصر مادية، مثل المِلْكية الخاصة، أو عناصر روحية، كالثقافة والدين، هذا التعارض بين المصلحة العامة وكذا الشخصية، الانفصال بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي، تعارضات دنيوية، يتركها برونو باور ماثلة، بينما ساجل تعبيرها الديني “تحديدا أساسه، بمعنى الحاجة التي تضمن للمجتمع البورجوازي وجوده وتكفل له ضرورته، هو الأساس نفسه الذي  يجعل وجوده عرضة إلى أخطار متواصلة، وقد انطوى على عنصر متقلِّب، وينتج هذا الخليط المتواصل والدائم بين الفقر والثراء، المعاناة والرَّفاه، من خلال كلمة التحوُّل”.

مجمل الفصل المخصَّص لـ”المجتمع البورجوازي” (ص8 -9)، قد شكَّلته المبادئ الأساسية لفلسفة الحقِّ عند هيغل. الإقرار بتناقض المجتمع البورجوازي، مع الدولة السياسية، لأن هناك إقرار بضرورة الدولة السياسية.

مصدر المقالة:

Karl Marx (1843).La Question juive.Traduction  par jean Michel Palmier.pp :9-16 

(1)Bruno Brauer :Dte judenfrdge ;1843 

Visited 4 times, 4 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي