مكتسبات الثورة السورية: الإرث الذي علينا أن نحميه
نضال آل رشي
لم تكن الثورة السورية مجرّد احتجاجٍ سياسيٍ عابر أو حركةً شعبيةً محدودة، بل كانت زلزالاً إنسانياً حقوقياً هزَّ أركان نظامٍ استبدادي ظلّ جاثماً على صدر الشعب السوري لعقود طوال. قد يحاول البعض تقييم نجاح الثورة أو فشلها بناءً على النتائج المباشرة والمستقبلية القريبة، إلّا أنّ الثورة غيّرت مُسبقاً حياة السوريين ووعيهم بشكلٍ لا رجعة فيه، بغضّ النظر عن المآلات السياسية للمرحلة المقبلة.
لم يعد الوعي السياسي والاجتماعي للسوريين كما كان قبل الثورة. فحين خرجوا إلى الشوارع يهتفون للحريّة، مجابهين أحد أعتى أنظمة القمع في العصر الحديث، أدركوا أنهم ليسوا مجرد رعايا في دولة قمعية، بل مواطنون يمتلكون حقوقاً يجب انتزاعها وواجبات لا يمكن تجاهلها. خلقت الثورة حالة من التضامن غير المسبوق بين مختلف مكونات الشعب السوري. التقى الناس في الساحات والميادين من خلفيات دينية وعرقية مختلفة، يجمعهم مطلب الحرية والكرامة، وظهرت مبادرات مجتمعية لدعم المحتاجين، وإغاثة المتضررين. امتد هذا الوعي إلى مختلف شرائح المجتمع، من الشباب الحالمين بالتغيير، إلى كبار السن الذين نفضوا عنهم قمع السنين ورفضوا أبديّة الخضوع للطغيان.
لم يكن في سوريا مجتمع مدني فعّال، حيث كانت كل الأنشطة المدنيّة تخضع لرقابة أمنيّة صارمة، وكانت المنظمات المستقلة محظورة تماماً. اقتصر النشاط المجتمعي على الجمعيات التي تديرها الدولة أو التي تحصل على موافقات أمنية خاصة، مما جعل أي محاولة للتنظيم المدني المستقل جريمة يعاقب عليها القانون. مع اندلاع الثورة، تحرك الناشطون الإنسانيون من أمثال رزان زيتونة وعبيدة الدبّاغ وأنور البني، كما نشأت حركات مدنية عفويّة شكّلت النواة الأولى لمجتمع مدني حقيقي وظهرت لجان تنسيقية محليّة تدير الاحتجاجات وتنظم شؤون المناطق التي تراجعت فيها سيطرة النظام. هذه اللجان جسّدت نموذجاً مبدئياً للديمقراطية الشعبية بعيداً عن وصاية الدولة.
كُسرُ حاجز الخوف، في بلادٍ كان الصمت فيها قانوناً غيرَ مكتوب، والكلامُ فيها إثمٌ غير مرغوب. أصبح هذا الخلاص أحد أعظم إنجازات الثورة. لأول مرّةٍ، واجه الناس الرصاص بأصواتهم. ولأول مرة، لم تعد القبضة الأمنية قادرةً على تكميم الأفواه. “حُرّيَّة” غنى لها القاشوش في ساحات حماة و الساروت في حارات حمص، حيث كان الجميع على استعدادٍ لدفع حياتهم ثمناً لكلمةٍ يعتصم بها النُبل البشري والتراجع عنها ليس خياراً بعد أن حطّم السوريون جُدران الصمت كما حطّموا بوابات المعتقلات.
المرأة السورية لم تكن استثناءً في تحطيم القيود والقوالب الجاهزة، إذ برزت في الخطوط الأمامية للثورة، متجاوزة الأدوار التقليدية التي كانت تُفرض عليها في مجتمع محافظ يهمّش مشاركتها في الشأن العام. من أمثال فدوى سليمان ومي سكاف قادت النساء المظاهرات وهتفن للحرية، متحدياتٍ القمع والمخاطر الأمنية وانخرطن في تنظيم الاحتجاجات وتوفير الدعم اللوجستي والطبي، فكنّ حلقة الوصل الأساسيّة في الميدان. كما شاركت العديد من النساء في توثيق الجرائم والانتهاكات، مما جعلهن أهدافاً مباشرة للاعتقال والتنكيل، فظهرت شخصيات نسائية بارزة في المشهد الثوري، شاركن في المفاوضات السياسية والمبادرات الدولية لتمثيل صوت الثورة. ورغم الاعتقال والنفي، لم يتوقف نضال النساء السوريات، إذ قمن بإنشاء منظمات مدنية وحقوقية تعمل من المنفى على توثيق الانتهاكات ومناصرة المعتقلين.
لطالما كانت الانتهاكات تحدث في الظلام دون شهود. لكن مع اندلاع الثورة، تحوّل كُلُّ هاتفٍ محمول إلى كاميرا صحفي، وكلُّ مدوّنٍ إلى شاهدٍ على الظلم. تسربت صور المجازر والدمار إلى العالم، كاشفةً مُعرّيةً نظاماً اعتاد الإفلات من العقاب. هذا التوثيق المستمر خلق ذاكرةً إنسانيةً وتاريخيةً لا يمكن طمسها، فظهرت إلى الواجهة شخصيات من أمثال مازن درويش وقيصر وغيرهم مما أسّس لأرشيف ثوري وطني لا تمحوه السنون.
تفاصيلُ حملها ملايين السوريين معهم إلى الشتات، شتاتاً لم يكن استسلاماً بقدر ما كان امتداداً للنضال. حيثُ انخرط السوريون عاملين ودارسين مجتهدين في بيئاتهم الجديدة، فكان ذلك بمثابة حملات تضامنٍ شعبية، مطالبين بحقوقهم أمام العالم ومنظماته، ما حوّل الثورة من مجرّد قصّةٍ محلّية إلى قضيّةٍ إنسانية عالمية مستمرة. شخصيات من أمثال خالد خليفة وياسين الحاج صالح تحدثوا عن القمع والاستبداد وأحقيّة الثورة، فتابع الملايين حول العالم معاناتهم، وتضامنوا مع اللاجئين، وارتفعت الأصوات مطالبةً بالعدالة والمحاسبة وأصبحت سوريا رمزاً عالمياً للنضال من أجل الحرية في مواجهة الديكتاتورية والاستبداد.
أخيراً، إنّ المُكتسبات التي حققها السوريون بدمائهم وتضحياتهم لا تُقدّرُ بثمن والدفاع عنها واجبٌ وطنيٌ وأخلاقي، لأن قيم الحرية والكرامة والعدالة لا تعادلها أيُّ مكاسب مرحليّة. لذا فإنّ كلَّ تنازلٍ عن هذا الإرث هو خيانةٌ لدماء الشهداء ولحقِّ الأجيال القادمة في حياةٍ كريمة. وعلى كل ساعٍ للسلطة في سوريا اليوم أن يدرك بأنّه سيواجه شعباً مختلفاً يحمل وعياً أعمق، وصوتاً أعلى، سلاحه الكاميرا ومهنته التوثيق. شعبٌ ضحّى لبناء مستقبلٍ لا مكان فيه للقمع أو الاستبداد، لا مكان فيه للطائفية، لا مكان فيه للحزب الواحد ولا للرجل الواحد ولا للرأي الواحد ولا للصوت الواحد.