غاستون باشلار: بروميثيوس (الحلقة الأخيرة)
ترجمة: سعيد بوخليط
أليس مثيرا نزوع وجهة نظر الطبِّ النفسي لدى غوستاف يونغ،نحو مكمن حياة غريزية جعلت بروميثيوس يتحمَّل وِزْر ”العقاب”.لم تمنع الآلهة النار عن بروميثيوس، بل على العكس فقد شحنت جسده بنار ملتهِمَة. يأتي النسر صوب الكَبِد النابضة بالحياة بوتقة السخونة، قصد تعذيب بروميثيوس.يشرع هذا النسر، أو طائر النار،في تأجيج الجرح اللاَّذع، والتهامه اليومي للكبِدِ المتجدِّدَة باستمرار. لن يصبح بروميثيوس بطلا متكاملا سوى إذا استطاع تحليل نفسي متكامل،حول الأنماط المثالية، أن يصف لنا جحيم أعضاء كائِنٍ بكبِدٍ متفحِّمٍ.
لكن في إطار السمُوِّ باللغة الطبيعية، عبر لغة رفيعة، يبحث جيرهارد أدلر عن سبل التبصُّر. تظلُّ النار مجرَّد عطاء مفرط في المادية إذا لم يضاعفها النور. الأخير نفسه، يستمر فقط عطاء هزيلا إذا اكتفينا بتقويمه من خلال جانبه الأداتي، ولم نرتق بقيمته ضمن سيادة الوعي الشفاف. حينها، تتطوَّر بروميثيوسية فوقية.
يمكن تقديم تأويل جيرهارد أدلر، كنقيض لـ”التفسير” العقلاني الوارد بين طيات مقالة الموسوعة عن بروميثيوس، مثلما دَبَّجَها لويس دي جوكور:
”برميثيوس المنحدر من عائلة الجبابرة، تعرَّض بدوره لاضطهاد جوبيتر: فقد أُجْبِرَ على الانسحاب إلى منطقة سقيثيا، في جبال القوقاز،بحيث لم يجرؤ على مغادرة ذلك المكان طيلة فترة حكم جوبيتر. كآبة أن يعيش حياة تعيسة داخل بلدة متوحِّشة والنسر يلتهم كبِده؛ أو بالأحرى ربما يشكِّل هذا النسر صورة حيَّة عن أعماق وتأمُّلات فيلسوف مؤلمة؟ اتَّسم ساكنة سقيثيا بشراسة مفرطة وكانوا يعيشون دون قوانين ولا أعراف. لكن هذا الأمير المهذَّب والحكيم، أرشدهم نحو كيفية خوض حياة إنسانية أكثر؛ مما دفعه ربما ذلك إلى تأكيده بأنَّه خلق الإنسان بمساعدة منيرفا. أخيرا، هذه النار التي أخذها من السماء، بلورتها ورشات أقامها في منطقة سقيتيا؛ يحتمل أنَّ برميثيوس، يخشى عدم العثور على النار في هذا البلد، وقد حملها معه بين طيات جذع نبات القِنَّة، جنس نباتي قويّ بوسعه البقاء طيلة عدَّة أيام .أخيرا بروميثيوس، ونتيجة إحساسه بالضَّجر من مكوثه في منطقة سقيتيا، سينهي مدة أيامه تلك في اليونان، حيث نال الأوسمة الإلهية، أو على الأقل أوسمة الإبطال .صار له مكان مقدَّس داخل أكاديمية أثينا، تقام على شرفه ألعاب قوامها الركض انطلاقا من عين المكان غاية المدينة مع حمل شُعَلٍ يلزم الحرص على عدم انطفاء لهيبها”.
سرق بروميثيوس النار من قِمَّة الجبال، ويكابد انتقام الآلهة في قِمَّة القوقاز. يعذَّبه طائر. تمثِّل النار، والطائر،ثم الرجل الشجاع كائنات للقِمَّة.
يتوخَّى المحلِّل النفساني باستمرار تحديد اندفاع فوق-إنساني كميزة إنسانية، مفرطة في الإنسانية. خلال لمحة بصر، تستعيد كائنات القمم أصولها.
تستدعي لغة الأداتي والمجدي، بأنَّ النار تجسِّد وسيلة أساسية للتضحية .بهذا الخصوص، تركِّز أساسا سرديات الإثنولوجيين، على جدوى النار من أجل الحياة العملية. غير أنَّ تراثا فلسفيا برمته يرى في بروميثيوس صاحب المبادرة نحو الفنون. أسطورة بروثاغوراس:
”خلال حقبة تواجدت الآلهة سلفا، وانتفت حينها السُّلالات الميِّتة… إبَّان لحظة إنتاج الآلهة للنور، فقد أمرت بروميثيوس وإبيميثيوس كي يوزِّعا بشكل ملائم مختلف السمات الممنوحة لها .يطلب إبيميثيوس من بروميثيوس السماح له قصد مباشرته شخصيا عملية التوزيع. لكن إبيميثيوس، نتيجة حكمته الناقصة، بحيث استهلك قبل ذلك، دون حرص، مختلف قدراته لصالح الحيوانات… بروميثيوس أمام هذه الصعوبة، وعجزه عن إدراك طبيعة الخلاص الممكن بالنسبة للإنسان، سيقرِّر اختلاس مهارة الفنان هيفايستوس وأثينا، والنار في نفس الوقت النار، لأنَّه بغيرها يستحيل على أيِّ شخص الإحاطة بهذه المهارة أو تقديم خدمة معينة. هكذا، امتلك الإنسان فنونا مفيدة للحياة” (أفلاطون، بروثاغوراس، ترجمة ألفريد كروازي، “كلاسيكيات الآداب”، 1941).
أكثر من ذلك، ذهب إسخيلوس بعيدا ضمن سبيل التقييم الثقافي لبروميثيوس، البطل العقلاني، مبدع العلم:
بروميثيوس -”لاتعتقد بأنَّ صمتي يعكس تظاهرا ولا عنادا؛ بل فكرا يلتهم فؤادي، عندما أُهان بهذه الكيفية :ما الشيء الآخر الذي يمنح هذه الآلهة الجديدة جلَّ امتيازاتها؟ لكن، حول هذه النقطة، ألتزم الصمت: تدرك مابوسعي قوله. في المقابل، استمعْ إلى عذابات الأموات، وكيف ارتقيتُ بهم من أطفال صوب مرتبة كائنات عقلية موهوبة فكريا. أريد الإخبار عن ذلك، ليس بهدف التقليل من شأن البشر، لكن حتى أظهر لك الطيبة التي تنمُّ عنها مواهبي. بداية أبْصَروا دون أن يبصروا، ثم سَمِعوا دون أن يسمعوا، وينطبق الأمر على أشكال الرؤى، فقد عاشوا وجودهم الطويل في خضمِّ الاضطراب والالتباس .لم يعرفوا سبيلا إلى منازل القرميد المشمِسَة، أو صنيع الغابات، فمكثوا تحت الأرض، مثل نمل رشيق، داخل مغارات موصَدة عن الشمس. بالنسبة إليهم، لم تكن هناك إشارة يقينية حول فصل الشتاء ولا الربيع المزهِرِ ولا الصيف المثمِرِ؛ يقومون بكل شيء دون اللجوء إلى العقل غاية اللحظة التي أرشدتُهم وجهة العلم المجهِدِ حول شروق النجوم وغروبها. ثم جاء الدور على العَدَدِ، ويعتبر الأول الذي خلقتُه للجميع قياسا لما تبقى، وكذا تركيب الحروف، باعتبارها ذاكرة كلِّ شيء، عمل تناسلت منه الفنون ”(إسخيلوس، بروميثيوس مقيَّد، ترجمة بول مازون، كلاسيكيات الأدب”ص 1921).
أعود إلى نصِّ نيتشه حول ”ولادة التراجيديا” (ترجمة جينيفيف بيانكيس، غاليمار 1940، ص 52- 53):
“أضع حاليا تمجيد الحيوية، التي تضفي هالة على بروميثيوس إسخيلوس، مقابل تمجيد السلبية. يغدو الإنسان عظيما غاية وجود جبَّار يكتسح بواسطة صراع فائق حضارة وقوة الآلهة التي اتَّحدت معه، فقد امتلك الوجود وكذا قيود تلك الآلهة بموجب حِكمة يدين بها فقط لنفسه. لكن، مايبدو مذهلا أكثر عبر القصيدة التي يجسِّدها بروميثيوس، وقد جعله حقا فكره الخلاَّق، ترنيمة المعصية، هذا التطلُّع لإسخيلوس نحو العدالة: من جهة وَجَع غير قابل للوصف لدى فرد شجاع، ثم من ناحية أخرى المأزق الإلهي، بل وحدس نهاية الآلهة، القوة التي تجابه هذين العالمين من الألم متوافقة ومنصهرة ميتافيزيقيا، يستعيد مختلف ذلك بشكل كبير النواة والمبدأ الجوهري للأصل الكوني عند إسخيلوس الذي وطَّد المويراي (*)، ثم العدالة الإلهية، فوق الآلهة والبشر .حيال الجرأة المثيرة التي وفقها يزن إيسخيلوس العالم الأولمبي بمقاييس عدالته، يلزم التذكير بأنَّ اليوناني المتأمِّل يكتشف في ألغازه الأساس الراسخ واليقيني لفكره الميتافيزيقي، وبوسع جلّ تلك التطلُّعات التشكيكية إرضاء الأولمبيين. يختبر أساسا الفنان الإغريقي، قرابة غامضة نحو تلك الآلهة؛ وتحديدا يرمز بروميثيوس إسخيلوس إلى هذا الإحساس، لكن حتى التأويل الذي منحه إسخيلوس للأسطورة لم يفحص هُوَّة الرعب المثيرة؛ على العكس من ذلك تماما،ليست متعة الفنان المبدعة، سكينة الإبداع الفني التي تتحدَّى مختلف الكوارث، سوى مجرد بِنَاء خفيف لغيوم سماوية تنعكس على بحيرة قاتمة حزنا. تكمن قيمة مفرطة ضمن خلفية أسطورة بروميثيوس، قوامها إسهام إنسانية ساذجة في النار باعتبارها صيانة فعلية لحضارة ناشئة؛ لكن أن يمتلك الإنسان النار بكيفية حرَّة بدل تناولها فقط مثل حدث يعكس حضورا للسماء، في شكل وميض خاطف أو دفء شمسي، فقد اعتبره الفكر التأمُّلي لهؤلاء الأفراد البدائيين جريمة،وسرقة في حقِّ الطبيعة الإلهية. مما يطرح فورا تضادّا مزعجا على رأس قائمة الإشكالات الفلسفية، غير قابل للتسوية بين الإنسان والإله، ثم يتقلَّب هذا التضاد مثل كتلة صخرة عند مدخل كل حضارة. يعتبر الخير، أفضل وأسمى استحقاق ممكن للإنسانية، لن تناله سوى بجريمة يلزمها تحمُّل عواقبها، بمعنى كل سيل الألم والحزن الذي يلحِقُه الخالدون الذي أسيئ إليهم – وينبغي لهم إلحاقه- بالجنس البشري، وقد اختبروا الإثارة عبر مجهود عظيم”.
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :100-130
(*) ثلاث أخوات يمثِّلن رَبَّات الأقدار في الميثولوجيا اليونانية.