مسرحية “بريد” قصص ورسائل مفقودة في زوايا الليل

مسرحية “بريد” قصص ورسائل مفقودة في زوايا الليل

عائشة بوزرار

              ترتبط الرواية والمسرح ارتباطًا وثيقًا كفنّين سرديين، رغم اختلاف وسائطهما؛ فكلاهما يبني شخصيات ويُطور حبكة ويستخدم اللغة للتعبير، لكن الرواية تعتمد على السرد الكتابي بينما المسرح على الأداء الحي.  وتكمن أهمية ربطهما،  إلى جانب القصة والسينما، في إثراء المشهد الثقافي بتنوع المحتوى وتبادل التأثيرات الإبداعية، وتوسيع قاعدة الجمهور، وفهم أعمق للفنون السردية، وتعزيز الهوية الثقافية من خلال عرض قصص وتجارب مُتنوعة تعكس ثقافة مجتمع معين، مما يُضيف قيمة فنية وثقافية كبيرة.

يُظهر أسلوب الكاتب والمخرج المسرحي بوسلهام الضعيف إلمامًا عميقًا بالرواية، مدعومًا بخبرته السابقة في التعامل مع أعمال روائية بارزة، مثل رواية محمد برادة التي سبق له الاشتغال عليها، “بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات”، على الرغم من اختلاف أساليبهم الأدبية، يجمع بوسلهام الضعيف ومحمد برادة اهتمام مشترك بالهوية المغربية،  حيث يُحللها الضعيف من خلال الواقع الاجتماعي والسياسي في رواياته الواقعية، بينما يُقاربها برادة من زاوية فكرية فلسفية أعمق. وكلاهما يُقدمان نقدًا بناءً للمجتمع المغربي، مستخدمين الكتابة كأداة للتحليل والتغيير، ويعتمدان على التاريخ كمرجع أساسي لفهم الحاضر وبناء مستقبل أفضل، مُشكلين معًا ركيزةً مهمة في المشهد الفكري والأدبي المغربي.

العرض المسرحي “بريد “، لفرقة مسرح الشامات: للمخرج  بوسلهام الضعيف، بمشاركة طاقم مميز ضم الفنان عبد الحق الزروالي وهند بلعولة وسفيان نعيم وأمين بلمعزة، بمعية ثلة من التقنيين في مجالات الصوت والملابس والمحافظة العامة والتواصل، مستوحاة من رواية “بريد الليل” للكاتبة اللبنانية هدى بركات، الفائزة بجائزة البوكر عام 2019، وهو عمل أدبيّ مُعقّد يجمع بين الواقعيّة والرمزيّة، حيث تُروى عبر سردٍ متشعبٍ بين زمنيّ الماضي والحاضر. تُركز الرواية على ذاكرة الراوية المُشتتة، وتأثير الحرب الأهلية اللبنانية على الهوية الفردية والجماعيّة، مستخدمةً اللغة كأداةٍ للتعبير والشفاء عبر الرموز، كالبريد والليل،  أساسيّةً في بناء الرواية،  مُضفيةً عليها عمقًا نفسيًاّ ووجوديًا، مما يجعلها تجربة قراءة غنيّة تتطلب فهماً مُتعمّقاً.

تناقش أحداث المسرحية، موضوع الهوية المشتتة والصراعات الداخلية بين الواجب الشخصي والطموحات، وتدور أحداثها  حول رسائل تبت وأُرسلت، لكنها لم تصل إلى أصحابها لأسباب متعددة. من بين المرسلين، نجد أشخاصًا اختاروا الهجرة بحثًا عن الأمان والاستقرار، آملين في تحقيق أحلامهم الوردية. لكن، سرعان ما تتحول تلك الآمال إلى كوابيس مليئة بالإحباط والانكسار، مما يؤدي إلى نهايات مؤلمة تعكس واقعهم القاسي.

في قالب سردي متجسد في عرض  متناغم ومنسجم بين الممثلين وكيفية تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع الجمهور. هذا النوع من التفاعل يعزز من تجربة المشاهدة ويجعل العرض أكثر واقعية، في مشهد درامي بيرز  علاقة الأم والابنة، أم من جيل  عانى من الحرب، وابنة من جيل  يحاول فهم ماضيه. هذه العلاقة التي تشخصت في حوارات مُشحونة، ومشاهد، تتمثل في الحركة والإيماءات الدقيقة على الركح، بالاعتماد على تقنيات كالفلاش باك، لإبراز الذكريات التي تتعلق بالحرب والنزوح والتي  بدورها تعزز من معاني الحوار وتضيف بعدا عاطفيا على الخشبة.

وفي بوح آخر غير عادي من الرسائل لأسرار عائلية مُخفية، تتعلق بالماضي، علاقة الأم مع الابن ومدى ثأثره بالمعاناة وعمق الظلام التي يعيش فيه، وتعرضه للتعذيب والاغتصاب، بحيث لم يكن أمامه من خيار سوى الاستسلام ليكون  خادمًا في عالم مظلم منغمس في نظام  دمر حياته. مع اندلاع “الربيع العربي”، وجد نفسه وسط الفوضى، وبسبب وشاية غادرة اتهموه بأنه  جاسوس. وهروبه ونبذه من طرف المعارضة بسبب مشاكله  الشخصية حتى انتهى به الأمر بجريمة مروعة، جعلته هاربا بلا هوية، يبحث  عن مكان ليختبئ فيه من ألمه.

في مشهد آخر، ينخرط في أسئلة المجتمع  خاصة ان البوح في هذه الرسائل، قد يثير ريبة المتلقي، نجد علاقة المرأة بمفهوم الحب الأبدي وتعبيرها عن خيبة أملها فيه أو كالشخصية الاخرى التي تتحدث إلى أخيها عن اختياراتها الصعبة في عالم الدعارة لتلبية احتياجات عائلتها. بينما الخنثى  الذي  يعمل في الدعارة وتطور الأحداث، مع مشاهد تعكس رحلته وتجاربه، التي أدت إلى لحظة حاسمة تعيد تقييم حياته وتعبيره عن رغبته في العودة إلى بيته  في سياق إنساني ومعقد يثير التعاطف والفهم من قبل الجمهور.

نجد شخصية رجل البريد التي تجسدت في رمز  للاتصال والتواصل في عالم فقدت فيه الرسائل معانيها. فهو الشخص الذي كان يسعى لنقل الأخبار والرسائل بين الناس، لكنه تحول إلى ضحية للظروف المحيطة به. يعكس حالته المأساوية فقدان القدرة على التواصل الفعّال في زمن الحرب، حيث لم تعد هناك عناوين واضحة أو طرق موثوقة.

هدى الكاتبة التي تجسدت في مجموعة من الشخصيات المتنوعة التي تتناوب على أدوار متعددة، كل شخصية تمثل تجربة فريدة، ساهمت في بناء سرد غني  متجسد على خشبة المسرح يعكس مشاعر الحب و الفقد واليأس.

عبر تفاعل هذه الشخصيات، تتضح الديناميكية المعقدة للعلاقات الإنسانية، مما يجعل المتفرج يتفاعل مع كل شخصية على حدة ويستشعر تجاربهم بعمق، من خلال التنقل بين الأصوات المختلفة.

إن حرص الضعيف على دمج الأدب بالمسرح، يسهم في إثراء المشهد الثقافي ويعزز من قيمة الفن المسرحي بوصفه وسيلة للتعبير عن قضايا معاصرة من منظور ثقافي ووعي يدرك الراهن وأعطابه الكثيرة.

Visited 11 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

عائشة بوزرار

باحثة بماستر الإعلام الجديد والتسويق الرقمي، جامعة ابن طفيل - القنيطرة، المغرب