ذكرى صديق مع معضِلة حِصَّة التربية البدنية

ذكرى صديق مع معضِلة حِصَّة التربية البدنية

 سعيد بوخليط 

       تعود علاقتي بهذا الصديق إلى مطلع عقد الثمانينات،بحيث درس معي خلال بداية أولى سنوات التحاقي بالطَّور الإعدادي، كما قطن غير بعيد كثيرا عن منزلنا، ضمن دروب نفس الحيِّ الذي قضيت فيه جانبا من طفولتي.

اشتهر ضمن زمرة مجموعتنا، بعشقه المفرط لكرة القدم، فلا يجري حديث على لسانه، دون انطوائه على أدقِّ تفاصيل البطولة الوطنية التي كانت مثيرة وملهمة، ثم الدَّوريين الألماني والانجليزي الوحيدين المعلومين خلال تلك الفترة، فقد كانت التلفزة المغربية، تبثُّ كل ليلة خميس إن لم تخن الذاكرة قبل نشرة الأخبار المسائية، لحظة تحليق أفراد العائلة، مقابلات ألمانية أو انجليزية ضمن أجواء بساطة الاحتفال وعفويته، وقد حافظت الكرة بشدَّة غاية تلك الفترة على بساطة هويتها الأصلية، باعتبارها سلوى الفقراء ثم لعبة شفَّافة متجرِّدة عن كل مصلحة، غير كونها لعبة فقط.

ساد ذهنه بقوة هاجس كرة القدم ولاعبيها، لذلك حينما سألَنَا مدرِّس التاريخ ذات ظهيرة عن مدى معرفتنا باسم سقراط؟ لم يتردَّد حينها الصديق، كي يلوِّح على غير عادته بأصبعه لتقديم الجواب، أمام دهشة كل الفصل، لأنَّه في المعتاد لايهتم بما يجري.

جاء جوابه غريبا تماما، جلب معه عاصفة هستيرية من الضحك، وحَوَّلت المدرِّس في المقابل إلى جمرة غضب مشتعلة، مادام سقراط بالنسبة إليه يحيل بالمطلق على لاعب كرة القدم البرازيلي، الشهير آنذاك، سقراطيس دي أوليفيرا، الطبيب اليساري الذي كان يعالج الفقراء مجانا، المفتون بنهج غيفارا وكاسترو، ملغيا صديقنا بجرَّة قلم مجمل تراث حكيم أثينا.

طُرِدَ من الحجرة الدراسية، شرّ طردة غاية إحضار وليِّ أمره، مع ضربتين لولبيتين بالقدم من العيار الثقيل على ظهره، وقَذْفِهِ بشتائم مَسَّت مجمل خريطة جيناته العائلية.

كنَّا، دائما خلال تجمُّعاتنا نستدعي بعض الحكايات التي طواها شغب مدرسة الحيِّ، تحضر حكاية سقراط، فورا وأولا، فينكفئ أحدنا على كتف الثاني قهقهة. نصدر نحوه تباعا فسيفساء تهكُّمية، يستسيغ بعضها مجاريا، لكنه حين انحراف التأويل عن موضعه الجدير به، لاسيما سخريتنا من جهله اسم أشهر فلاسفة الإنسانية، يرفض الأمر ويتصدى بجدِّية؛ بل يغادر الجلسة متلفِّظا خلفه بكلِّ اللعنات. 

أيضا، هناك واقعة أخرى، أو بالأحرى لازمة ثابتة بخصوص سياق الكرة، تمثلت في رفضه الاعتراف بنجومية مارادونا قياسا للبرازيلي سقراطيس، خلال حقبة بدأ اسم اللاعب يسطع على امتداد الكرة الأرضية بعد كأس العالم في إسبانيا، كما استثمر للإفحام اشتقاقه اللغوي الشخصي”مَارَادُوكُمْ” عوض مارادونا، ذات الارتداد الصوتي الأقرب سمعيا إلى ”الأَمْرَدِ” أو  “لْمْرْضْ” في اللهجة المحلية أي المخنَّثِ.

إشارتان سريعتان، لفهم طبيعة هذا الشخص قبل التبليغ عن المَعْلَمَة الثالثة التي سكنت باستمرار أشلاء ذاكرتي رغم انقضاء أربعة عقود ونيف عن واقع الأحداث، التي شكَّلت حقيقة ورطة عويصة، وتسبَّبَت له في مشاكل تربوية مع مُدَرِّسِ التربية البدنية و إدارة المدرسة، يتعلَّق الأمر تحديدا بطارئ عضويٍّ متَّصل بعضوه الذَّكَرِيِّ الذي انتصب دائما بعفوية دون إشعار يذكر بمجرَّد انطلاقه مهرولا خلال حصة التربية البدنية، بحيث تغدو مقدمة سرواله الرياضي مقبَّبة بكيفية واضحة للعيان، يحدث له حرجا كبيرا له، وارتباكا مع بداية حصة انتظرها دائما بغبطة وانشراح:

يتغامز الذكور همسا خلال قيامهم بحركات الإحماء، وقد أضمرت أنفاسهم بئرا من الضحك. تتعثَّر التلميذات ويفقدن تركيزهن وعلامات الارتباك بادية عليهن، تجعلهن لا يعرفن موضع خطواتهن. يرفع المدرِّس عقيرة صوته، كي يصرف الأنظار ويشتِّت الانتباه، مستنكِرا ضعفنا البدني وثقل خطونا، وبأنَّنا ننصرف عبثا إلى اهتمامات تستنزف قوانا، عوض فعل العكس، ثم يرمق صاحب الفضيحة المدوِّية بنظرات دالَّة ومعبِّرة، تجعله يدرك من الوهلة الأولى بأنَّه المقصود أكثر من نيل سهام انتقادات المدرِّس، لذلك يحاول الجري بسرعة أكبر وقد طأطأ رأسه نحو البؤرة الحارقة الشبيهة بعصا مُمَدَّدَة، يصعب إخفاؤها أو طيُّها، يحاول المسكين لكنه يخفق.

أخيرا، يأمره المدرِّس بحتمية التوقُّف والمغادرة غاية موعد الحصة المقبلة بدعوى عجزه عن مجاراة إيقاع باقي التلاميذ.

طبعا، يعود السبب الحقيقي إلى الاضطراب الناجم عن انتصاب الخيمة علنا، خلال حصة تربوية؛ وقد ازداد الأمر استفحالا مع تواجد الفتيات.

من سوء حظه، صارت المسألة تتكرَّر، فأضحت مشكلة حقيقية تحدث انقلابا على جميع المستويات. يتواتر الأمر، خلال انطلاقة كل حصة للتربية البدنية، ربما لا تأخذ بعدا فاضحا، خلال الحصص الأخرى التي يكون إبانها جالسا على طاولة تواري نسبيا، ثعبانه المترنِّح دوما. يجب وضع حدّ لهذه الفضيحة الأخلاقية، لكن كيف السبيل؟ والحادثة عفوية وغير إرادية.

بدأ الأصدقاء جدِّيا يفتونه ببعض الحلول، حتى يستعيد وضعا طبيعيا خلال انطلاقة الجسد أثناء الرياضة، فجاءت على الشكل التالي:

توقُّفُه عن الإفراط في تناول البطاطس المسلوقة والحلويات، التي كان والده الحاج ”طيطس” مثلما لقَّبه ساكنة الحي تصغيرا بكيفية ما إلى البطاطس، يبيعها للتلاميذ داخل تجويف صغير موجود أمام المدرسة. بينما، دعا مقترح ثان، إلى ضرورة ارتدائه سروالين سميكين قصد زيادة حظوظ الإخفاء.في حين، أرشدته النصيحة الثالثة، بشكل صريح كي يستبق الأمر ويفرغ قليلا عمدا بيديه قبل مجيئه إلى المدرسة بغية لجم جموح بغله. أما، الإرشاد الرابع، فقد ألحَّ عليه بلزوم  تخلُّصه من كسوة الشيطان تلك، بالاستيقاظ باكرا وأداء صلاة الصبح ثم قراءة آية الكرسي والمعوِّذتين والتوكُّل على الله وحده أثناء وجهته إلى حِصَّة الرياضة، وسيلاحظ الفرق. أخيرا، أكَّد له رأي حرفيا بعدم ذهابه هذه الرياضة المشينة، وتبرير الامتناع بشهادة طبية تنهي الأمر ببساطة.

رفض أخونا الدعوة الأخيرة رفضا باتّا، فأكثر مايحبُّ داخل المدرسة ورتابة جداولها الزمنية تلك الساعات المخصَّصَة للثقافة الجسدية. لذلك، سيجرِّب مدى أثر المقتضيات الأولى. فقد روى لأصدقائه المقرَّبين، اختباره على التوالي وتباعا الوصفات المقترحة. فعلا، مع تركيزه أكثر خلال لحظات ترويضه البندول المتدلِّي تحته، على تفاصيل كل واحدة، جاءت النتائج مشجِّعة إلى حدٍّ ما ومتباينة طبعا حسب المرجعية.

مع ذلك، يستمر الوضع غير قابل للتحكُّم تماما، بالتالي  لايساعده مثل باقي التلاميذ، كي يلعب ويهرول ويركض وينطّ، دون فضيحة تجلب الأنظار وتثير الضحك والسخرية والامتعاض واستبعاده قسرا من أفضل لحظة مدرسية بالنسبة لهذا الشخص وقد أضحى مشهورا، بجهازه الملعون، أكثر من تبخيسه لمهارات مارادونا، في خضم سجالاتنا الكروية.

إجمالا، في خضمِّ محاولاته استثمار مفعول نصائح الإنقاذ، أضاف حلاًّ ثالثا، لم يكن واردا أو خطر على بال أحد، واعتبرها بحكم حميمة تجاربه أكثر جدوى من غيرها، بحيث التجأ إلى شدِّ جهازه مع فخذه شدَّا بشريط لاصق تبقيه قدر الإمكان مستكينا وإن استفاق قليلا، لكنه على الأقل ضمن وجهة صوب الأسفل غير الوجهة العمودية الفاضحة بامتياز.      

Visited 13 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي