“حمدة” في أزقة فاس

لطيفة حليم
الزعيم يتجول مع صاحبه في أزقة فاس، يقول له:
– فرنسا تستولي على عقول المغاربة. فالشيوخ راضون بالحال، لا يثيرهم الوجود الفرنسي المنتشر. لعلهم يئسوا من كل تحرير. إنهم يقارنون حالهم الآن بما كانت عليه حالهم قبل الاستعمار. ألا تذكر عندما كنت صبيا أحاديثهم على السيبة وقطع الرؤوس؟
يؤكد الزعيم لصاحبه أن الخوف كان منتشرا قبل الحماية. يبتعدان عن المسجد الذي صليا فيه. يمران على الحرارين.”حَمْدَه” يتعثر في مشيته يمر بجوارهما لا يعرفه. الأحياء قد تفرق بينهما. “حمده” بحي الرميلة، والزعيم بحي صالاج. يصلان إلى باب قصبة النوار القريبة من باب بوجلود وباب الطالعة الكبيرة. ينظر زعيم المستقبل إلى جماعة من المشاهدين المحلقين حول رجل في يده أفعى يتلاعب بظهرها. يصيح في وجه صاحبه الذي ذهب فكره بعيدا في تأملات غاضبة يقول:
– لو انضم إلينا كل هؤلاء، لصارت حركاتنا قوية. تقض مضاجع المستعمرين.
يتراجع إلى الوراء قليلا، يقول لصاحبه:
– لكن حركاتنا قوية، أو ليست العبرة بالكيف لا بالكم.
يعبران نفس الطريق يلتقيان مرة أخرى بـ “حمده”. مر الزعيم أمامه وكأنه كم مهمل. “حمده” يهتم بالحب لا يهتم بالسياسة. يمر الزعيم متطاولا متغطرسا، لا يسعه هندامه الأوربي زهوا. كان سمينا، حركته أقرب إلى الخيلاء منها إلى حركة البدانة.
لم يكن مضى على الاستقلال زمن طويل، لكنه لم يكن طائرا قادرا على اقتطاف الثمار في أعالي الأشجار. كان أشبه ما يكون بالطيور الدجنة التي لا تطير. وإن طارت لم ترتفع بعيدا عن الأرض لتعود إليها في لحظات مسرعة. الزعيم كان يعلل خسارته بالنظافة والطهارة الوطنية، ولذلك كان يرى فيها مبعث زهو وافتخار سري، تجري أنهاره بينه وبين نفسه، وهذا هو السبب الذي جعل الناس يلاحظون انه ازداد عظمة في الظاهر عن حاله قبل الاستقلال. لقد أضاف زعيمنا إلى كناش خياله اعتقاده انه هو الذي طرد فرنسا من بلاده، وأنه مترفع على الولوغ في الأوساخ التي انجر إليها غيره بعد الاستقلال. ذلك الاعتقاد كان وراء اصطباغ زهوه بغشاء رقيق من الزهد ونكران الذات، لكنه زهو سرعان ما ينبثق من بين مسام الغشاء، حين كان يخرج إلى طريق من طرق فاس القديمة ليتجول بين الناس. كان زهوه يبدو في عجرفة كالطلاء المستولي على عينيه ورقبته، يتطاول في زيه الأوربي عندما يلتفت يمينا وشمالا ليحيي بعض أتباعه. أما بقية المارة لا يلتفت إليهم وربما حياهم على مضض.
كان “حمده” هو أيضا يعبر نفس الأزقة، من طريق النخالين، لكن لم يكن له في الوطنية لا ناقة ولا جمل ولا حمار. شاهد المغرب قبل دخول فرنسا، وعبر زمن الحضور الفرنسي، ثم شاهد عهد الاستقلال. كان ذلك كله في نظره مراحل متتابعة. لم يكن متحيزا لأحد، أقصى ما كان يطلبه من الحياة، لا يظلم هو ولا أحد من أهله، فإذا ضمن ذلك فلا فرق عنده بين الأشقر والأسمر، ولا بين الفرنسي والمغربي. كان يرى أهل فاس كالقاصرين الذين لا يطلب رأيهم، ولا حق لهم في شأن من شؤونهم العامة، ولا في الكلام الحر المجرد عن الخوف وسوء العاقبة. فلما حلت فرنسا في البلد أبى أن يرى فيها شرا أعظم من الشر الذي عرفه من قبل. لم يكن عارفا بسِيَّر الزعماء، ولا بأخبار الحركة الوطنية. لم يكن مؤيدا لفرنسا ولا للزعماء، ولذلك لم تعلق بذاكرته صور للزعماء.
مر الزعيم بجنب “حمده” ككم مهمل، لا علم له بشكله، لذلك فخطواته قاطعت خطوات الزعيم المتطاول في طريق النخالين كحالته مع كل ماضٍ وآتٍ. لم يحرك فيه ساكنا، ولم يمثل له فخرا ولا عظمة، ولم ير فيه سوى جسم ضخم امتلأ شحما.
_______________________________________________________________________________
دنياجات. لطيفة حليم. رواية. الطبعة الأولى منشورات زاوية الفن. الرباط 2007.