عودة “الكوندليني”.. المفاتيح السرية لأبواب الرواية المغلقة

صدوق نورالدين
الإهداء: إلى الذين انطفأ ضوء حياتهم، والذين يصارعون أمواج الحياة العاتية. وإلى الحالمين، والذين لم يخرجوا بعد من بطون أمهاتهم.
1/
يعود “الكوندليني” لينفث الروح في حياة الرواية. لم يؤمن بالنسيان. الكتابة بالنسبة له ما يخلق الأثر الدائم المتجدد. والأصل أن كل أثر، وليد قراءة في زمنه، وأخرى لاحقة. فما يفهم ويؤول ارتباطا بمرحلة يسقط. ومن السقطة تنهض وتتأسس الرؤية الجديدة والفهم المستجد والتأويل المفتوح والزمن الجديد.
2/
حين وعى الكوندليني فكرة بناء شخصيته، حرص على خاصة المغايرة. والقصد، الاختلاف عن شخصيات سادت وتدوولت أسماؤها. إذ لكي تكتسب هوية حضورك، يجب بداية أن تفهم الزمن الذي توجد فيه، والفضاء دائرة الحركة، وبقية الشخصيات التي ستشاركك فعل الوجود وإعلان الذات.
3/
الكوندليني. السيد الكوندليني. هكذا بدأ دون أن ينتهي. بدأ باختيار الاسم المحدد بين فيض أسماء. قبل أن يفعل، فكر فيما بثير ويخلق سؤال الأسئلة: من يكون؟ ما الهدف؟ ولماذا؟
من هنا انبثق البحث. شخصية غريبة في وسط روائي خيالي يضج. ولدت في الواقع ودامت في الخيال. يرتبط الواقع بالموت، فيما الخيال الديمومة والاستحضار المستمر، بلا نهائية الحياة. من ثم قيض لشخصيات أنبتها الخيال الروائي أن تستمر. وظلت في الاستمرار خالدة تذكر. غاب الروائي وسادت الشخصية.
4/
يوم ولد الكوندليني، السيد الكوندليني في خياله. خيال روائي بدأ عاشقا للسرد ولم يتوقف. الروائي الساهر على حياة الرواية. صدوق نورالدين أو نورالدين صدوق من باب لا فرق. اكتب اسمك كما تريد، فمحفل الأدب لا يمنح شهادات ميلاد، سكن، حياة أو جواز سفر. يمنح اللغة، والتعبير باللغة عما يعتمل في الذات وخارجها. كتب واختار الظل. وإلى الظل الحضور الرمزي في الواجهة. كم من منبر هنا. ومنابر هنالك رسخت تقليد الاحتفاء والتقدير بالغريب القادم من مدينة صغيرة لا تكاد تذكر. إذ لا وجود للاسم على الخريطة المغربية فيما بؤس الإعلام المرئي والمسموع يغيب عن أزمور مقاييس الأمطار التي سقطت في شتاءات الوحشة، الشوق والحنين، ودرجة حرارة لهيب الصيف الحارق. ظل الطفل فيه يساءل يتساءل عن غرابة المحو. محو مدينة على لسان الأطلسي انبعثت لتظل في وعلى الهامش.
5/
يذكر الكوندليني أنه في فجر شاخ وطوى، حمل شخصيته ومدينته وغاب. هي ثلاثون سنة أحرقها في البعد بحثا عمن يكون بالذات، الصورة التي عليه رسمها كي يجد فيها الآخرون ذواتهم. هؤلاء الذين تركهم يرتبون الزمن في قلق وخوف على وجودهم. كانوا يغازلون صمت المدينة، ويحاورون فضاءات، أمكنة لم يعودوا يملكون جرأة البعد عنها. إلا أن وعيهم يدرك أنه البعيد عن أزمور، يوقع خيالاته باسمها. وكأني به هنالك يعيد عزف إيقاعات حي “المسيو ديكري” حيث ولد.
6/
فتح الكوندليني في الأسبوع الأول من غربته مذكرته الصغيرة محاولا استعادة ما كان دونه. وفي غفلة، شاركوه جلسة الصباح في مقهاه الأثير. لم يتوقع مطاردتهم له. طلب قهوته المعتادة فلم يترددوا. وأما النادل فسبح في بحر خوف حد الغرق. ثلاث شخصيات تخيلها كما تخيل ذاته تتذوق لذة البن. تحمل الفناجين البيضاء تعيدها في هدوء وصمت. على اليمين “كولا” بسمرته. يصعد المنصة الانتخابية المنصوبة في الساحة الواسعة المقابلة للمدينة القديمة. يسرق وقفة أمام المايكرفون مناجيا القمر أن يسقيه خمرا. قال أحدهم إنه أول شاعر ظهر في المدينة إلى هذا المساء. ولا أحد يعلم ما إن كان استكمل ديوانا تحدث عنه كثيرا. “الحاج بيبي” على يساره. كان كالمعتاد بالقرب من مسجد الزيتونة بعد صلاة العصر. البذلة خضراء، والسبحة الطويلة سالت حباتها على البطن الفظ. يجذب في شبه رقصة دائرية مرددا “الله حي”. لا يكاد الجسد يتوقف إلا ليبدأ من جديد. وأما “لورة” بسمرته وحول عينيه وغيبوبته الدائمة عن الزمان والمكان، فدرب المدينة على ركوب الهواء والسياحة في فضاءاتها. ولم يكن غريبا أن تبرز امرأة تركب دراجتها الهوائية مرتدية بذلة العمل الزرقاء كاشفة وجهها أمام الجميع.
وفي ضربة سهو اندس الثلاثة بين صفحات المذكرة بحثا عن موقع في خيال الخيال.
7/
أغلق الكوندليني في الأسبوع الأخير من غربته مذكرته الصغيرة السوداء. ركب خياله هاجس العودة والظهور. تخيل أن يكون من طنجة بالذات. لم يكن يحلم بأن تحمل رياح الأطلسي الدعوة. إلا أن يوسف كرماح بقامته الطويلة وعويناته الطبية وسيجارته المشتعلة سافر بخياله صوب البحر. من البحر إلى البحر حمل الموج الدعوة. بعث الكوندليني لمسرح الوجود كي يمنحه حياة ثانية في زمن غير الزمن المتحدث عنه. من ثم ألفى ذاته يصاحب الكوندليني ومن أقام معهم صداقة خيال دائم: ربيع عفيف، بوجمعة العافس، محمد صوف، محمد زفزاف، محمد شكري، ومن شاركه ألفة البن في الأسبوع الأول من غربته.
من أزمور إلى طنجة تخيل الكوندليني عودته. من المدينة الصغيرة حجم كف، حيث يفوح عبق التقليد والمحافظة، فترى الرجل يخفي ما يشتريه تحت جلبابه، والمرأة تحمل قفة الأدنين المثقبة تحجب أكثر مما تظهر، فيما لثامها يحصي أنفاسها البليلة، وقل أن ترى الأحمر يعبر عن شفتين في توق عطش إلى الارتواء.
بات الكوندليني في حياته الثانية طنجيا. يجوس الأمكنة، الفضاءات بحثا عنه. عن الذي تخيل طنجة سيرة، قصة، رواية ومسرحية وغاب. بالأمس القريب. تماما بالأمس أخبره يوسف كرماح بأنه ربما رآه يخرج في ليل متأخر من حان البريد. وأن شخصا ربما كان يرفقه طويل القامة. يوقع الخطو بهدوء وتمسد يمناه لحية تدلت إلى الصدر. إلا أن الكوندليني لما تخيل ربيع عفيف على يمينه سأله عن مشهد كاتب طنجة فأجاب بأنه منذ وفاة دستيوفسكي المغرب لم يعد يغادر شقته الكائنة في الطابق الرابع من البناية المجاورة لسينما روكسي، وأن مترددا على حان الضفدعة حلم براوي طنجة وهو غير كاتبها يبكي موت الكاتب العالمي الذي كتبته طنجة قبل أن يكتبها.
وبالرغم تاه الكوندليني في السوق الداخل يبحث يتعقب آثار الاختفاء في مقهى سنترال، إلى أن قر رأيه على العودة للسكن في مذكرته الصغيرة السوداء التي يحرص على أن تنام في جيب بدلته الزرقاء، إلى بقية الشخصيات التي لا تعرف مصائرها ويحدث أن تبعث من جديد، ومن يدري فالكوندليني ى يكتب رواية واحدة، الرواية التي أعلنها يوسف كرماح من طنجة، تماما كما أعلن روايته “وحي آلة كاتبة”، وإنما يسيل الخيال بامتداد الفضاءات والأمكنة.
فيا أيها الحنين أمهلني لأمد في العمر عمرا، وأسود بياضا يترقب إعادة ترتيب فصول الحياة داخل المدينة.