ميموزا.. “رحلة في مدارج الحياة”

أحمد حبشي
ميموزا مسار اكتملت فيه كل معالم الارتقاء، تفاصيل مجرى أيام الطفولة وشقاوة العناد، سمو المدارك وردة فعل الواثق من فورة التحدي لكل دواعي الارتداد. في توالي الأيام لاحت معالم المسار وكان السبيل مثقلا برجات النوائب وأضغاث الاحلام، عزائم تقارع مجاهل فورة السؤال. لماذا؟ وكيف؟ شغف المعرفة بكل صيغ وتلاوين الاستفهام.
ميموزا بوح منساب تتسع ضفافه لأكثر من لحظة مثقلة بالمعانات، في تفاصيلها طفل تحاصره أسئلة المآل، والد تتعقبه الاستعلامات للحد من فورة يقظته، ووالدة تواجه بصلابة كل تبعات الحصار وتوالي الرجات، صغارها في حضنها ولا تبين ما تخفيه الأيام. سعت بكل حدب وإصرار على أن تكمل الرسالة كما استوت في جلال أيامها، تقارع الأهوال وكل توالي لحظاتها، ليقتفي الأبناء مدارج المجد اسوة برفيق دربها، الذي أخذ الوطن عقيدة وهوية نضال، ما انكفأ في صد الغاصب ولا في مقارعة كل من يجعل البلد مطية للمندسين لترسيخ نفود المنسحبين على وقع ردة فعل دامية، خلدت في الذاكرة أشاوس وأبطال.
في الاستهلال عشق شجرة عبق عطرها يداعب الأنفاس، نسائمها ترافق الخطوات الأولى لمدارج المعرفة، وتملي بهجة الحياة
“عمري لا يتجاوز الخامسة
يدي في يد أمي
حوالينا نسيم صباحي ودود
تظللنا سماء بلورية
تشع حولنا شمس دافئة
فيما تقف بضع شجيرات ميموزا على جانبي الطريق”.
ميموزا شجرة مكتملة البهاء سكنت الدواخل واستقامت معها رؤية حالمة بجمالية كل الأشياء، يستعيد صلاح في فورة بهائها جلال أيامه حيث تفتقت ألوان زهرها لتعطر الوجدان وتلهب المشاعر، كانت البداية في تأملاته لنبض خطواته نحو المعرفة والتفاعل مع كل ما تزخر به الحياة. صارت لنظرته ما وراء كل الأبعاد، لا يعبر الطريق دون الغوص في تأمل يستقرئ مظاهر الأشياء، يستشف الآفاق ويخطو بعزم صوب ما حدده كأهداف. هكذا كان حضوره وازنا في الكثير من المحطات التاريخية التي شكلت منعطفا في مجرى الفعل السياسي وما عرفه البلد من وقائع وأحداث، شاهد كطفل وفاعل مندمج كشاب في فترات موشومة بأقصى التضحيات.
تقابل لحظة الارتقاء هذه فورة بهجته وهو يغادر أسوار السجن، بعد ان اجتاز باقتدار وقع كل النوائب وجسامة الأهوال، ازدادت قوة عزيمته على أن يجهر بكل ما في تقديره يرقى بموقع البلد ويسمو بكرامة الانسان. وفاء وسيرا على نهج من تكفل بإعداده للحياة. يقص تفاصيل أيامه وما عانته العائلة من اهوال، من طفل تراوده الأسئلة إلى شاب يفتي في ما يقتضيه الفعل لرج دورة الحياة. كان حضوره لافتا في كل المحطات التي وشمت تاريخ أقرانه ومن سار على نهج الفعل الواعي بمآل مجتمع يسعى إلى الارتقاء. كان الوالد قدوته وملهمه في استصغار الأهوال، لا يتردد حين تكتمل قناعته بالجدوى من الخطو نحو المبتغى. حين لاح خلاف في الرؤى، واستعصى التواصل الهادئ في حصر كل جوانب الخلاف، غادر البيت حتى يحافظ للوالد على هيبته، ويفسح المجال لتأمل عميق فيما صار اختيارا ومسارا نحو أفق يتسع لمجرى تاريخ شعب قدم العديد من التضحيات، واجه كل العوائق للحفاظ على وحدة الوطن وسيادة القرار.
في مفترق اللحظات تجود الأيام ببهجة دافقة، تتلألأ سويعات فرح ويمتد الانشراح إلى أعماق الدواخل، هكذا يستعيد صلاح كل وهج تفاعله مع واقع تغيرت جوانب عديدة من مكوناته، يسرد كل ألقه وصخب عطائه في كشف حقيقة سواد أيام الرهبة والاستئصال. يكشف ألق انشراحه بحفيدة تلألأت كشهب ثاقب يجمل ما اتسعت له مناه.
ميموزا لا تخفي لحظات العشق الأولى رعشة الصبا وتفتق المشاعر، زمن الحب الأول، فورة العناق وصخب الرشق بالكلمات الدافقة وكل ما يبهج الحياة. في سن الخامسة عشرة يتفتق هيام الاشتياق، يصير الحديث نغما دافقا يكشف عن مدارج الافتتان. عناق فهمس يقود إلى مباهج القادم من الأيام. لم يكتمل المسار، هوت كل الأحلام عندما استقام القدر لينتزع الشهيق من أنفاس العاشق، وكأن الردى تآلب ليوقظ الاشجان.
هي ميموزا، صراط مستقيم يقود إلى مكامن حياة منسابة متباينة اللحظات، مسار رجل حقق بفعله الثابت منافد للفعل في صخب حياة دافقة العطا، والوقوف الثابت في أقسى النوائب وأعنف الهزات، لا تفارق البسمة مراسيم محياه، لا يخفي غضبه السافر حين يهز ريح شعرة من جلال عزته وهبة كلماته وسلاسة أفكاره.