الحرب الحضارية وأوهام القوة الأمبراطورية الأمريكية.. نظرة استشراقية حول تشكيل نظام عالمي جديد

الحرب الحضارية وأوهام القوة الأمبراطورية الأمريكية.. نظرة استشراقية حول تشكيل نظام عالمي جديد

أحمد بابانا العلوي

استهلال

“الحرب أم الأشياء كلها فهي تجعل من بعضهم آلهة، ومن آخرين عبيداً، أو رجالاً أحراراً”

هرقليطس (Heraclitus) فيلسوف إغريقي (435/475 ق.م)

 

“إن أهداف الحرب الحقيقية ليست عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية.. بل هي حضارية.. لأن تحديات القرن 21 كلها حضارية”

المهدي المنجرة مفكر مغربي (1933/2014)

ـ 1 ـ

الحرب والسياسة ومنطق الصراع

      إن الحرب هي أعظم الظواهر الاجتماعية والتاريخية..، وعلم اجتماع الحرب (Polémologie) يتناول  كل أشكال الحروب، وأسبابها ونتائجها ووظائفها، باعتبارها ظاهرة اجتماعية وتاريخها، لأنها ممتدة عبر التاريخ.. في حياة المجتمعات والدول، والإمبراطوريات..

وثمة تعريفات متعددة لهذه الظاهرة التاريخية المستديمة، واعتبارها حاله خاصه للصراع العام فمصطلح الصراع، له معاني عديدة.. وأشكالا متنوعة.. فالصراع ربما يتم بين أضداد.. أما الحرب، فإنها تتم بوجود نشاط منظم يخضع بفعل إرادي..

 هناك أشكالا من الحروب، وكلها درجات متفاوتة في نطاق فرد السلطة والهيمنة على الآخر، للانصياع لمطلب ما.. 

يعتبر كلوز فيتز (K.Von Clause VISTZ)بأن الحرب عملا من أعمال الحرب يهدف إلى هذا  أرغام العدو على تنفيذ إرادة خصمه..

القوى الطبيعية للصراع يدور حول المدة التي تسعى كل قوة إلى انتزاعها كشرط للبقاء، والتوسع من أجل الرفع من مركز السيادة..، وذلك بالاعتماد على عمق المجال الحيوي..

فجوهر الحضور الإنساني عند الفيلسوف نيتشه (1884/1900) يتمثل في إرادة القوة.. كإدراك للوجود على سيادة العالم.. والحرب المثلى عند نيتشه تبرر كل غاية كما تسمح بتقويم الأفكار والمبادئ.. فشاغل صاحب السيادة بسط سلطانه وإرادته بالقوة في الداخل والخارج..

وقد تصدرت الحرب كل العلاقات الأخرى.. فالحرب، داخل علاقات السلطة هي علاقات هيمنة.. والحرب هي السياسة في مظهر مغاير.. والسياسة هي الحرب، بوسائل أخرى..

إن الطبيعة المعقدة للمجتمعات البشرية جعلت ظاهرة الحرب من ظاهرات الاجتماع والعمران الجديرة بالتأمل، والدراسة، نتيجة أنه بالحرب تثبت الحضارات أو تزول..، نظرا للدور المحوري للمعارك، في تشكل أبرز المعالم التاريخية.. وذلك لكون جل الصراعات بين المجتمعات عبر العصور، تقوم على الحروب، من أجل التحكم والسيطرة، والاستحواذ على مقدرات العالم وثروته.. ومن هذا المنطلق أكد الفيلسوف أرسطو بأن فن الحرب مهارة طبيعية للسيطرة والتملك..[1].

المباحث الاجتماعية للحرب، تسعى إلى الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه وزواياه المتعددة، بغية فهم تأثيراته وتحديد أبعاده..،

الحرب صراع سياسي بالدرجة الأولى، بحيث تتداخل في هذا الصراع السيناريوهات العسكرية والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والقومية.

السياسة، هي مجال الصراع، والتدافع وأدواتها الكبرى، هي القدرات العقلية والمعرفية، والتخطيطي، والتنظيمي، والإعلامي، وقدراتها على التأثير الحضاري، والإقناع ودرجة إشعاعها في عالمها الذي تعيشه هي:

– القدرات الاقتصادية؛

– والقدرات العسكرية والأمنية..

وهي محصلة للقدرات العقلية والبشرية، ودرجة التطور الاقتصادي والتقني في المجتمع..

وستظل ثلاثة عناصر حاكمة في صراع الإنسان على مدى العصور، وهي القدرة على التنظيم البشري.. ونوع السلاح، والقدرة على الحركة.. إن القوة أصبحت قدرات في التنظيم العسكري، كماً ونوعاً..[2].

فعالم السياسة، هو عالم القوة.. وقد شهدت السياسة الدولية صراعاً من أجل حيازة القوة..

فالدول تصارع من أجل مصالحها وتوزن بالقوة..

هناك دول، تمارس الصراع طبقا لقواعد اللعبة الدولية..

وهناك دول تمارس التبعية المطلقة للقوى الدولية، وتضحي بمصالحها لإرضاء القوى الخارجية..

وهناك دول تتمرد على متطلبات اللعبة الدولية، بصورتها القائمة وهي تعلن رفضها للأوضاع التي خلفتها حركة القوى العظمى..

ومن ثم، يتم العمل في ضوء معطيات العالم الذي تتحكم فيه موازين القوة بهدف التحديد الدقيق لرؤية وكيفية التعاطي معه بشكل يرفع من العائد ويقلل من التكلفة..[3].

الصراعات، تجرى ضمن مخططات جيوسياسية، أي علاقة الدول بالجغرافيا بمحيطها الخارجي، والمشهد الدولي..

فالصراعات الدولية، لم تعد شأناً محلياً فهي تلقى بظلالها على العالم وتعيد صياغته، وفق أهداف جيوسياسية واستراتيجية على جميع الصعد، العسكرية، والاقتصادية، والتحالفات السياسية.. التي تؤثر على صياغة السياسة الخارجية لدول العالم..

إن صانع السياسة الدولية ينظر إلى العالم، باعتباره وحدة استراتيجية كبرى، مقسّمة إلى مناطق كلوحة شطرنج..

العالم أصبح رقعة شطرنج كبرى ومسرحاً لتنقلات، وتحركات القوى، الواقعة على هذه الرقعة..، إن تحريك أي قطعة من قطع الشطرنج سوف يؤثر على بقية القطع..

القوى متفاوتة، في أوزانها تفاوتاً كبيراً، فهناك قوى مؤثرة، وقوى تسعى للدخول في السباق والمنافسة، من أجل الحصول على دور على الساحة الدولية..[4]

ـ 2 ـ

الحرب الجيوسياسية والاستراتيجية

     لقد تعدّدت النظريات الاستراتيجية وتعقّدت إلى الحد الذي أصبحت معه مزيجاً متداخلاً من الآراء والتصورات لكل منها مقوماته ومبرراته، ومن أمثلة هذه النظريات؛ نظرية الحروب الاستراتيجية، العامة، والحروب التكتيكية، ونظرية الردع، ونظرية الحروب الوقائية، وحروب الاستنزاف، ونظرية الحروب والدعائية، والحروب النفسية، ونظرية الصراع الممتد، ونظرية الاحتواء، ونظرية توازن الرعب النووي..

إن هذه المفاهيم الاستراتيجية، وما تنطوي عليه من خطط، وأهداف تتعامل مع حقائق القوة في المقام الأول، وما يترتب عنها من قوى ومصالح، وحقائق وأوضاع تدول ما دامت، موازين القوى صلبة ومتماسكة.. وعندما تختل الموازين تتغير العلاقات وتظهر موازين جديدة، وأوضاع جديدة تتشكل، ومصالح تتوزع..

ولكي نفهم هذه النظريات، لابد من الرجوع إلى المفهوم لمعرفة مدى مساهمة عامل القوة في حسم الصراعات، بين مختلف الجماعات البشرية عبر العصور المتطاولة..

ولابد أن نعي أن مفهوم الحرب عرف تطوراً كبيراً داخل المنظومة المعرفية الاستراتيجية أو الفكر الاستراتيجي الذي يحدد الطريقة التي تصاغ بها السياسة، وكيف تستخدم الدولة قوتها العسكرية لتحقيق أهدافها.

وبهذا الصدد يرى “كلاوز فتز” بأن الاستراتيجية هي فن إعداد الخطط الهامة للحرب، لأن الحرب هي فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف سياسية..

ثم إن المسألة في جوهرها يمكن تحديدها في العلاقة الجدلية بين السياسة والحرب.. فالحرب وسيلة من وسائل عدة لتحقيق الأهداف الموضوعية للسياسات المقررة..[5]

ذلك أن الحرب تنشب إما من أجل قيام الامبراطورية، وإما عن طريق الاجتياح بهدف الاستعمار ونهب خيرات الشعوب وطرد أصحاب الأرض أو إبادتهم..

وسوف تتمخّض عن ثورة المعرفة ثورة موازية في طبيعة الحروب وموجات من الصراع بين مختلف الحضارات..[6].

إن أبعاد الحرب العسكرية، والحضارية والسياسية، الاقتصادية، والاستراتيجية والرابط الذي يجمع كل هذه الزوايا هو استشراف المستقبل لفهم الأبعاد العميقة للحرب..

الدراسات المستقبلية طريقة تفكير تحاول أن تتوقع ما هي التغييرات الجذرية، التي يمكن أن تحدث في المستقبل..، كما أن الدراسات المستقبلية الاستراتيجية تهتم بالميدان العسكري..

فما يجري في الشرق الأوسط يندرج ضمن مخططات التغيير الاستراتيجي الدفاعي، بهدف تكريس الغلبة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية للعالم الغربي..، وهيمنة القيم الثقافية، اليهودية المسيحية.. التي تحمى المصالح الغربية..[7]

من دوافع الحرب اختيار الأسلحة المتطورة واختبار مزاياها وفعاليتها.. بحيث تستخدم تاركة المجال لأجيال جديدة من أسلحة فائقة التطور التكنولوجي في المستقبل ..

إن من يمعن النظر في الصراعات والحروب الجارية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي..

سوف يتضح له أننا دخلنا عصراً جديداً سيتشكل فيه نظام دولي جديد.. لقد حدث انقلاب كبير تمثل في الانتقال من مجتمع الإنتاج والصناعة، والمواد الخام والرأسمال إلى مجتمع المعرفة..، وأكبر تحول سيكون في الأذهان..

إن الهدف الاستراتيجي للدول الغربية إبقاء الوضع على ما هو عليه (أي الهيمنة والسيطرة على العالم..) والحرب في الشرق الأوسط درس من الغرب لبقية دول العالم..

إلا أننا دخلنا في بداية النهاية، واستشراف نظام عالمي جديد..

لقد صدرت سنة 1988 دراسة يابانية حول جدول أعمال اليابان في القرن “21” ممهورة بمقدمة لرئيس المؤسسة اليابانية للتقدم العلمي يقول فيها: “إن العلمنة الحضارية الأمريكية انتهت، أننا دخلنا في عهد تعدد الحضارات ودخلنا في نظام العالم الجديد الذي سيتم بقيم ومفاهيم جديدة للسلام والتعاون الدولي..[8]

لقد كانت الحرب الباردة حرباً إيديولوجية..، أما الحرب في المستقبل، ستكون حرباً حضارية، ثقافية أكثر مما هي اقتصادية وسياسية. فالخطر يتجسّد في الهيمنة الحضارية[9] وبسط السيادة الغربية (الأوروبية) على العالم التي وصلت أوجها حوالي سنة 1900..

سنة 1919 في مؤتمر باريس للسلام، قرر قادة العالم الغربي (ولسون الأمريكي ولويد جورج البريطاني وكليمنصو الفرنسي) تقسيم النفوذ على العالم..

في سنة 1920، كان الغرب يسيطر على 49% من مساحة العالم وعلى 48% من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي، وعلى 84% من النتاج الصناعي وعلى 45% من مجمل القوة البشرية العسكرية[10].

إن 80% من الميزانية المخصصة للبحث العلمي تمنح لمجالات أسلحة الدمار الشامل..

السلاح الفتاك جعل من الولايات المتحدة قوة عسكرية جبارة..

القوة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة والسيطرة، والحرب تسمح بتجريب الأسلحة الجديدة.

إن القوة العسكرية الأمريكية هي نتيجة تحالف بين العسكرين وصناعة الأسلحة، والشركات المتعددة الجنسيات، وفرق بحث علمي استراتيجي من مختلف الجنسيات..[11]

منذ الخمسينات من القرن الماضي وضعت خطة للسيطرة والتحكم في العالم من جانب الولايات المتحدة وحلفائها..

وبعد سقوط القطبية الثنائية في الثمانينات من القرن العشرين..، سيدخل العالم في مرحلة جديدة من الصراعات الحضارية..، وبروز قوى عالمية صاعدة تسعى إلى إزاحة السيطرة الغربية على النظام العالمي..

تعتبر الصين ومعها دول جنوب آسيا، والدول الصاعدة في أفريقيا وآسيا، القوى المنافسة للهيمنة الغربية..

الاقتصاد الأمريكي في تراجع مضطرد، وبالتالي لن تظل الولايات المتحدة القوة الاقتصادية العالمية الأولى في غضون السنوات المقبلة..

إن التقدم الهائل للصين والدول الصاعدة سيؤدي حتماً إلى تراجع القوى الغربية كما سيؤشر على بداية الانحطاط..، ونتيجة شعور الغرب بهذا الانحدار يتم تخويف الناس حتى يتم إخضاعهم..

لقد دخلنا مرحلة تاريخية تتسم بانتشار وسائل الدمار الشامل..

إن القوي حين يشعر بالضعف يحاول بشتى الوسائل التشبث بشيء ما لكي يبقى قوياً..[12].

من هنا يأتي قرار شن الحرب الحضارية على الحضارات الأخرى..

إن الرؤية الغربية المتمركزة على الذات والتفوق العرقي، والثقافي، سائرة لا محالة إلى الزوال..

لقد صار مرتكز نقطة الضعف يتجلى فيما هو حضاري وثقافي.. وذلك في غياب تحرر حقيقي، مرتكز على رؤيا، وقيم، وبرامج، وأهداف..

ومع انهيار التوازن بين القطبين، وجد العالم نفسه في مأزق نتيجة لافتقاره للفكر الخلاف الدال على الإيمان بالمثل العليا كوسيلة لبلورة نظرية وسياسية للإصلاح..

لقد قام الغرب بحكم تجربته الاستعمارية بترسيخ هيمنته الثقافية والحضارية وقيمه.. فمرحلة ما بعد الاستعمار تكرس التبعية للإمبراطورية الأمريكية..، وطريقة لبقاء الاستعمار، بتوظيف جيوش الدول الاستعمارية ودبلوماسيتها ومخابراتها للهيمنة والسيطرة..، وصار الأمن مطبوعاً بعامل واحد هو القوة العسكرية التي تم اعتمادها للدفاع عن أنظمة فاقدة لشرعيتها وتخدم فقط المصالح الاستعمارية الغربية..

وإذا كان ما بعد الاستعمار موجهاً فقط للاقتصاد والسياسة.. فقد أصبح اليوم موجهاً لمحاربة القيم الدينية والحضارية..[13].

إن تزايد نفوذ اللوبي العسكري والصناعي ولوبي شركات النفط، وراء استعمال القوة المفرطة للتأكيد على عولمة العالم.. والدفع إلى حرب حضارية ضمن مخطط لإعادة رسم خريطة العالم..

إن أخطر ما يهدد البشرية هو سيطرة قيم تعتمد على القوة العسكرية، ولا تدع مجالاً للتنوع..[14]

تعتبر إسرائيل أداة محورية في الحرب الحضارية التي تقودها أمريكا في الشرق الأوسط.. من أجل الهيمنة الحضارية، والاستعمار..

إن جوهر أزمة الشرق الأوسط هو إصرار الغرب من امبرالية وصهيونية إلى تقويض أي قوة تبرز في منطقة البحر المتوسط وشمال إفريقيا وغرب آسيا ..

من هنا يتعين فهم الصهيونية على أنها ظاهرة استعمارية والوجه الأكثر عنصرية وعدوانية للاستعمار الغربي..

إن الاستعمار الصهيوني هو أخطر أنواع الاستعمار الغربي، فهو يقف ضد التعايش السلمي،  وضد إعادة تشكيل موازين للقوى والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، من أجل هذا تعتبر الصهيونية حديثا رئيسيا للجبهة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة.

إن الحرب على العراق سنة 1991 تجسد دلالات على احتلال النظام العالمي وانعطاف غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية من نتائجه توجه العالم نحو “ميغا أمبريالية” يمكن وصفها بالحرب الحضارية الأولى..[15] فهي حرب عسكرية وإعلامية ونفسية ولا يجب اعتبارها حرباً بين الغرب اليهودي المسيحي والإسلام فقط، بل هي صراع بين الشمال والجنوب، وهو صراع حضاري تسعى فيه الحضارة الغربية إلى الهيمنة على جميع الحضارات الأخرى المغايرة..

إنها حرب عالمية حقيقية تختلف عن الحروب العالمية التي عرفتها الإنسانية عبر التاريخ.. ففتيلها أخطر، ولا يمكن إيقافها بقرار من مجلس الأمن أو مؤتمر سلام عالمي.

إنها حرب القرن “21” ستطول وتستعمل فيها أحدث الأسلحة المتطورة والفتاكة.. وستأخذ موجات ومظاهر متعددة على مسرح الأحداث..، بحيث سيتمحور الصراع على القيم الإنسانية، والدفاع عن التعددية الثقافية في مواجهة ادعاء الغرب الأسطوري بأن قيمه وحدها هي الكونية[16].

ـ 3 ـ

 الحضارة والثقافة

يرى ألبرت سفايتزر(Albert Schweitza1875/1965) بأن الحضارة في جوهرها أخلاقية، وبالتالي فمشكلة الحضارة أخلاقية.. ولا شك بأنها تتكون من عناصر: تاريخية، وجمالية، ومادية..

 إن الأعمال المبتكرة، والفنية والعقلية والمادية لا تكشف عن آثارها الكاملة الحقيقية إلا إذا استندت الحضارة في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقياً..

الإنسان لن تكون له قيمة حقيقية تتجلى في كفاحه إلا من خلال تشبثه بمنظومة قيم عليا توجهه إلى الفضائل والخصال الكريمة..، وتقوم سلوكه وتضبط غرائزه وأهواءه الهدامة.. فنظام القيم الأخلاقية هو الناظم والموجه للعلاقات في المجتمعات البشرية، على نحو يسمح للأفراد والجماعات أن تنمو وتتطور بطريقة مثالية..، بحيث إذا اختل نظام القيم، تداعت الحضارة إلى الأفول..[17]

العامل الثاني في انحلال الحضارة يعود إلى علاقة الحضارة بالكون.. فالتقدم الإنساني يتوقف على تصور نظرية  الإنسان للكون، فبدون نظرية شاملة للكون لن يكون في وسعنا إيجاد حضارة جديدة.. الحضارة تعني بذل المجهود من أجل الرقي بالنوع الإنساني..[18]

إن كلمة حضارة (Civilisation) بمعناها العام الشامل وما تتضمنه من مفهوم الثقافة (Kultur) تعني تطور الإنسان إلى درجة من التنظيم الأعلى على المستوى الروحي والمادي وسمو أخلاقي..

إن مفهوم الثقافة يعني استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد.. والحُكم لدى الفرد والمجتمع..

ومن ثم فالثقافة تربية الملكات العقلية وتنميتها وإثرائها..، وترويض العقل وتقويمه..

ويطلق لفظ الثقافة على المزايا المعرفية التي تجعل أحكامنا صادقة، وعواطفنا مهذبة..

في بحث كتبه “جمس روبنسون” (James Robinson) صدر في طبعة 1969 من الموسوعة البريطانية يفهم من سياقه أن مفاهيم الحضارة والثقافة لها مدلول واحد وصلات متداخلة، وعلاقات قائمة بين الجوهر والمادة..[19]

وقد يوجد بين الثقافة والحضارة اختلاف في الدلالة والمضمون رغم الترابط والتمازج بينهما..

الحضارة تضم جملة من العوامل من قيام المدن ونشـأت الحرف والصناعات واصطناع التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. والسلطة والقيم الأخلاقية، والمعرفة والعلوم والتكنولوجيا..

ولكل حضارة متطلباتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية..

وثمة تغييرات جذرية وسريعة تحدث في كل المجالات وبلا استثناء..

لقد دخل العالم في عصر حضارة الموجة الثالثة التي تبيع للعالم المعلومات، والأفكار، والإدارة والثقافة، والتكنولوجيا المتطورة وبرامج التعليم، والتدريب والرعاية الصحية، والخدمات المالية، والحماية العسكرية..[20]

وجملة القول أن الحضارة تعبير عن الانتظام في حياة حضرية، وأما الثقافة فهي ما يضفي على الحياة الحضرية أو الحضارة الإنسانية بمعناها الواسع معنى سامياً متعالياً يفسر مظاهرها، وأحداثها تفسيراً يستلهم المثل العليا، والقيم الجمالية.. وتعنى مجموع القيم التي توجه السلوك..

من هنا، لابد من التمييز بين الدلالتين لكلمة “حضارة” و”الثقافة”. الثقافة تستمد وجودها من الجماعة المتصلة بها، فهي تعبر عن تلك الجماعة، وعن نمط معيشتها..، أما الحضارة، فلا ترتبط بمجتمع معين أو شعب معين..، فهي تتجاوز الثقافة..، رغم أنها تتولد عنها وتستمر عبر أشكالها..[21]

الدلالة الأولى تشير إلى حالة مجتمع المتقدم الناتج عن إنجازاته وإبداعاته في الميادين المختلفة..

أما الدلالة الثانية فتشير إلى الحضارات البشرية التي تتابعت على مسرح الثقافة.. لقد امتد المفهوم الدلالي المزدوج للحضارة والثقافة إلى حدود القرن التاسع عشر.. حيث تجاوزت الدراسات الانتربولوجية والسوسيولوجية إلى دائرة أكثر تحديداً تتجمع فيها الدلالات المادية والروحية..

ـ 4 ـ

الحضارة والبداوة

     يرى ابن خلدون (1332/1406) أن الحضارة طور من أطوار الدولة يأتي بعد طور البداوة..

الحضارة تمثل الغاية التي تسعى البداوة لتحقيقها.. والعمران البشري أو الاجتماع الإنساني يفسر التحول من المجتمعات البدوية إلى المجتمعات الحضرية وما يترتب عن ذلك من تغيير في نمط السلوك والأخلاق، وأساليب الحياة..، وتكوين الدول وطبيعة الاجتماع الحضري، خاصة في الاقتصاد، والصناعة، وطلب العلوم.. واستخدام البرهان العقلي..

فالحضارة وإن كانت غاية العمران، فهي في الوقت نفسه جدل بين العمران البدوي والعمران الحضري يؤدي إلى سقوط الدول والحضارات وما يرتبط بها من أنماط وأشكال في الاجتماع البشري..[22]

إن المشكلة الجوهرية للإنسانية تتمثل في الثقافة والحضارة.. ولا يمكن لأي شعب أن يحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو تهدمها..

إن الحضارات تعبير عن الملحمة الإنسانية منذ فجر التاريخ.. الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية (مشكلة الانسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت).

وهناك عامل محفز (Catalyseur) يؤثر في مزج العناصر الثلاثة، فيحولها إلى قوة فاعلة في التاريخ.

إن الفكرة الدينية المتجلية في العلاقة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي.. تطبع الفرد والمجتمع بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية، كعامل يحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ..[23]

ـ 5 ـ

الاستراتيجية الحضارية

     إن مفهوم الاستراتيجية الحضارية يطرح نفسه على كل من يهتم بموضوع الحضارة. إن الامبريالية نظام اقتصادي وسياسي يهدف إلى خدمة السيطرة الحضارية الغربية.. وقد تجلت في الحروب الصليبية، ثم في الموجات الاستعمارية التقليدية بين القرنين (14/19) وكذلك في المرحلة الإمبريالية حيث تم تغيير ميزان القوى بين الدوائر والمراكز الحضارية في العالم..[24]

لقد أصبح المؤشر الجغرافي المعيار الأساس في التمييز بين أشكال الحضارة.. وتحتفل الأدبيات بمصطلحات مثل الحضارة الشرقية، والحضارة الغربية الأوروبية..

وهذه المفاهيم تعكس مواصفات واقعية تعبر عن وحدة المصائر الثقافية..، وأثر البيئة على تطور المجتمع..

إن تغير العالم لم يعد قاصراً على الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي..، بل اتجه إلى الإطار الثقافي الفكري، والمعرفي، والقيمي..، لمختلف الدوائر الحضارية لعالمنا المعاصر.. فلا يمكن فهم مغزى، ودلالة نهضة آسيا الشرقية من “يابان الميجى” إلى نهضة الصين..، بعيداً عن فهم فلسفة الكونفوسيوسية، والتاوية..، ولا يمكن فهم عداء فكر العولمة للإسلام بعيداً عن رفضه التفكك، والذوبان، والتشكل حسب نمط القوة العظمى..

إن العامل الحضاري يعود إلى مكانه المركز في تفاعل جدلي مرتفع الوتيرة، وخاصة البعد الجيوسياسي..

إن رفض هيمنة القطب الأمريكي سيؤدي إلى صدام وصراع حضارات..[25] ضمن التقسيم التقليدي إلى مناطق ثقافية وإيديولوجية تمثل القوى التي تنافس هيمنة الحضارة الغربية.. فالإمبريالية الغربية تسعى إلى تكريس الحضارة الغربية بوصفها الحضارة العالمية.. وفرضها بالقوة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على الثقافات والحضارات الأخرى..

ويتجسد الخطر في العقلية التي ترى العالم على صورة الغرب..، انطلاقاً من ظهور العالم الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، حتى تشكل نظام القطب الواحد في مطلع القرن الواحد والعشرين.

إن الترابط بين الحضارة وحركة التاريخ امتد إلى مجال الأديان..، وقد استمر الترابط العضوي بين الحضارة والسياسة منذ مطلع القرون الوسطى إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث أصبحت الحضارة الغربية هي السائدة، والباقي مجرد هوامش غير مؤثرة، بل نابعة..[26]

إن اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم توحي بأن العالم سيشهد صراعاً حضارياً من شأنه الحد من الهيمنة الحضارية الغربية.. كما يهدد مكانة الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والاقتصادية والحضارية..

وإذا كان التاريخ تصنعه أحداث متراكمة وتوجهه موجات وتيارات عميقة وشمولية، فإن مرحلة ما بعد الاستعمار ستتسم بحرب ثقافات وحضارات، وهي حرب بين فكرة التسلط والاستبداد الحضاري وبين فكرة الاختلاف والتعدد..[27]

ـ 6 ـ

حرب حضارية أم صدام حضارات..

     بعد نهاية الحرب الباردة، ودخول العالم في مرحلة بدأ يتشكل فيها عالم جديد تحكمه موازين قوى جديدة..

وفي ظل التغييرات التي يشهدها العالم، قام بعض الكتاب بطرح وجهات نظرهم وطروحات تسعى إلى تغليب مبررات استمرار الهيمنة الغربية، وتربع الليبرالية، والسوق على عرش العالم..

ونهاية الصراع التاريخي لصالح القيم الغربية.. حسب ما ذهب إليه “فوكوياما” صاحب كتاب “نهاية التاريخ”..

أما بول كندي صاحب كتاب “قيام وسقوط القوى العظمى”، فقد حذر ونبه إلى حدود استخدام القوة، وأشار إلى احتمال تخلي القوة الأمريكية عن تفردها بعد سقوط القطبية الثنائية..، ومن ثم زوال الهيمنة الغربية والمركزية الأوروبية.. كما تحدث عن التحديات التي تواجه الهيمنة الأمريكية.. والمتمثلة في ظهور قوى صاعدة على المسرح الدولي وأهمها الصين.. ولا يستبعد قيام تقارب بين الصين واليابان.

ويرى أن قوة الولايات المتحدة في تراجع مستمر.. رغم ما تتمتع به من قوة نسبية.. ونصح بأن تتجنب الولايات المتحدة التوسع الأمبريالي الذي يفوق إمكانياتها وقدراتها..، فالتزاماتها أكبر من قدراتها على الدفاع عنها.. لم يتح لأي قوة عبر التاريخ أن تظل متقدمة على غيرها..

هذه بعض الأفكار التي تبلورت حول مستقبل العالم، والصراع بين الحضارات، ويندرج في سياقها أطروحة صمويل هنتغتون (1927/2008) حول “صدام الحضارات” وأطروحة المهدي المنجرة (1933/2014) “الحرب الحضارية”.

– حول مفهوم صدام الحضارات

     ظهرت فكرة صراع الحضارات التي أقام عليها “هنتغتون” نظريته، انطلاقاً من أن الصراع بين الحضارات ما زال قائماً وسيحتد في المستقبل، بحيث سيحل محل صراع الدول، وصراع الإيديولوجيات.. فالصراع السابق كان دائراً بين أطراف أو دول داخل الحضارة الغربية..

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سيواجه الغرب من أجل الإبقاء على تفوقه العسكري والاقتصادي، بردود فعل من الحضارات والثقافات المختلفة..

ضمن هذا الإطار، تبلورت أطروحة “هنتغتون” (صدام الحضارات).

في أبريل 1993، نشرت “فورينع أفيرز” مقالاً لصمويل هنتغتون، تحت عنوان “صدام الحضارات” ذكر فيه أن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد لن يكون إيديولوجيا أو اقتصادياً.

فحسب 7% فمصادر الهيمنة ستكون ثقافية..، ومركز الصراع سيكون على المدى القريب بين الغرب والإسلام والكونفوشوسية..، وأن الصدام سيبدأ عند خطوط التماس، وفي مناطق التداخل بين الهويات الدينية والثقافية والمعرفية، ثم يتحول الصدام إلى القضايا السياسية، ويرى “هنتغتون” أن الصراع سيمتد ويتسع في القرن الواحد والعشرين.. وستتحدد بؤر التماس بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، وفي البلقان وشرق أوروبا..، وفي أنجاء آسيا..

خلاصة الأفكار التي تضمنتها أطروحة “هنتغتون” ننطلق من أحكام مسبقة على الحضارات ودعوة إلى الصراع والصدام والحرب.. واستراتيجية الصراع أو الصدام التي نسج حولها “هنتغتون” أطروحته تهدف إلى الإبقاء على التفوق الغربي وهيمنته على العالم.

السؤال الذي يطرح نفسه هو ضرورة الجمع بين الفكر والعمل في جدلية الصراع الحضاري من أجل تفاعل وتكامل يؤسس لعالمية متعددة الأقطاب والأبعاد الدينية والفلسفية والأخلاقية..

– حول مفهوم الحرب الحضارية

     على خلاف موقف “هنتغتون” الذي ضمنه مؤلفه (صدام الحضارات) والذي أشار فيه إلى أسبقية “المهدي المنجرة” في وضع مفهوم “الحرب الحضارية”.

كان “المهدي المنجرة” قد عبر في نقاش حول مستقبل العلاقات الدولية ببرنامج المحطة التلفزيونية اليابانية K.W.N (2/10/1986) عن يقينه أن الحروب القادمة، ستكون حضارية..، وأكد هذا المفهوم في حوار مع مجلة “دير شبغل” الألمانية سنة 1991، هادفاً بذلك إلى إبراز دور القيم الحضارية والثقافية في إذكاء الصراع الدولي..

ثم تبلور هذا المفهوم في الكشف عن المخططات المضمرة في حرب الخليج الثانية، وعن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي الذي يندرج ضمن لواء الحرب الحضارية..[28]

وقد ضمن المنجرة أطروحاته حول الصراع القيمي الثقافي، والحضاري، في مؤلفاته العديدة التي صدرت باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية..

نكتفي بالإشارة هنا إلى كتابه الحرب الحضارية الأولى الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1991 والطبعة التاسعة عن المركز الثقافي العربي سنة 2014 وكتابه انتفاضات في زمن الديمقراطية (2002) وكتابه الإهانة في عهد الميغا أمبريالية (2004)..

إن موقف المنجرة من إثارة مفهوم الحرب الحضارية، يرمي إلى تفادي الصدام من خلال الشروع في حوار حضاري بين الشمال والجنوب..، منطلقا من علم المستقبليات في إذكاء روح الأمل.. فالمستقبل يصنع بتكاثف الجهود، وحسن المقاصد، والتحرر الحقيقي يقوم على رؤيا وأهداف وبرامج وأفكار..، ومشاركة..

أما النزوع إلى القوة والعسكرة، فالغابة منه الهيمنة والسيطرة..، ومهما تكن الطريقة التي سيعاد بها رسم خريطة العالم.. فإن العالم سيشهد مرحلة جديدة يرتكز فيها الصراع حول الدفاع عن القيم والكرامة الإنسانية..[29]

يقول المنجرة إن هدفي من استعمال “الحرب الحضارية” هو وقائي، وليس عدواني، فرسالتي بأن حرب الخليج كانت أول حرب حضارية الغرض منه التنبيه إلى أن الحروب القادمة ستكون كذلك إذا لم يتم الاشتغال على واجهة التواصل الثقافي لأن مصادر الهيمنة ستكون ثقافية..

إن أطروحة “هنتغتون” على النقيض من طرحي، فمقاربته تظهر أنها ليست وقائية (أي الدعوة إلى التواصل الثقافي والحوار بين الحضارات..) فموقفه مبني على تصور عدواني بالقياس إلى الثقافة الغربية..

وإذا كانت العولمة قد تسببت في الحرب الحضارية التي يشهدها العالم اليوم.. فهناك حرب حضارية صغرى علينا أن نتغلب عليها قبل أن نواجه الحرب الحضارية الكبرى..[30]

في كتاب الحرب الحضارية الأولى، يتطرق المؤلف إلى الأبعاد الأربعة لهذه الحرب: العسكرية والحضارية، والسياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية. غير أن الرابط الذي يجمع بين هذه الزوايا هو الرغبة الملحة في استشراف المستقبل استناداً إلى أدق مناهج وآليات البحث المستقبلي..، ولذلك لفهم الأبعاد العميقة لهذه الحرب..[31]

الدراسات المستقبلية تحاول أن تتوقع التغييرات الجذرية التي يشهدها العالم ومدى تأثيرها على الواقع..

الدراسات المستقبلية والاستراتيجية يتجه جزء منها بنسبة (40 إلى 45%) في الميدان العسكري و (30 إلى 40%) عند الشركات المتعددة الجنسية..[32]

إن الحرب في الشرق الأوسط، وهي حرب حضارية بامتياز، تجسد النموذج الغربي الاستراتيجي الدفاعي الرافض للتغيير.. والعرب ليسوا سوى حقل تجارب (أو فئران مخبرية Cobayes) ضمن مخطط يستهدف إدامة الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية للعالم الغربي..، وهيمنة القيم الثقافية اليهودية، المسيحية..، خشية تغيير النظام القائم في الشرق الأوسط، حتى لا تتضرر المصالح الغربية التي يجب صيانتها، والضمانة المؤكدة لذلك تتمثل في هيمنة السلام الأمريكي..[33]

إن إمعان النظر فيما يجري، سيفصح في مؤتمر بحثاً عن تشكيل نظام عالمي جديد..

إن الهدف الاستراتيجي لدول الشمال إبقاء الوضع الراهن (Statu-quo) بدون تغيير.

الحرب في الشرق الأوسط حرب حضارية ونزاع بين الإسلام والغرب المسيحي اليهودي..، وهذا النزاع له مؤشرات منذ (1976)، ومن ثم فإن الحرب في المستقبل المنظور ستكون حرباً حضارية هدفها الهيمنة الحضارية.

إن حرب الخليج كلفت 100 مليار دولار، وتعتبر بكل المقاييس حرباً عالمية حقيقية.. إلا أن أهدافها بالدرجة الأولى حضارية.. وسوف تنتهي حتماً بنهاية الهيمنة الأمريكية، وظهور نظام عالمي جديد يقوم على التعددية الحضارية، لأن أساس البقاء مرتبط بالتعددية، وبدون التعددية تنتهي الحضارة إلى الأفول والاندثار والفناء..[34]

إن الولايات المتحدة قوة عسكرية تعتمد على أسلحة الدمار الشامل وليست قوة أخلاقية أو حضارية.. وهي الآن دخلت مرحلة انحدار حضاري..

إن التخلف الحضاري هو نتيجة وجود هوة، بين الوقائع وتوقعها، فإذا كنا نندهش حين تقع الواقعة، فهذا برهان على عدم التوقع، وعلى انعدام النظر على المدى المتوسط والبعيد.. وكذلك برهان على عدم وجود رؤية.. لأننا نعيش برؤية الآخر وباستراتيجية الآخر..[35]

ـ 7 ـ

 نهاية العصر الأمريكي

     الحضارات في مجملها هي منظومات قيم عابرة للحدود، وتشير التعددية الحضارية إلى التمايز والصراع بهدف الوصول إلى نتيجة حاسمة في توازن القوة الاستراتيجية،
أو تحقيق مساواة وتوازن في المصالح..

ويتمخّض عن الصراع أو التنافس بين الحضارات..، ظهور نظام دولي مؤسس على قوة اقتصادية وعسكرية فائقة تمتلكها دولة عظمى أو تحالف دول في عصر بعينه..، تستطيع أن تجعل إرادتها فاعلة، ومؤثرة، ويستتبع ذلك بناء فوقي حضاري وسياسي مثله النموذج الديمقراطي البريطاني، وهو القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى في إطار عصر الرأسمالية..، وبلغ ذروته في العصر الفتكتوري..

والحق بذلك نمط من الحياة يتطلع الآخرين في العالم إليه ويسعون إلى تقليده، أو استلهامه في كل المجالات..[36]

ونظراً لأن القوة لها تكاليفها الباهظة في جدلية الصراعات التاريخية من أجل الغلبة.. فإن الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا) خرجت منهكة وغير قادرة على الاستمرار، وكان من الحتمي ظهور بديل لها حسب موازين القوى التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية.. بحق تعد القوة التي فرضت نفسها بعد هزيمة “هتلر” هي التي أدت إلى ظهور الولايات المتحدة، باعتبارها قلعة الثورة الصناعية لكي تقود النظام العالمي الجديد الذي استصف وصف العصر الأمريكي (Pax Americaina).

كانت القوة الاقتصادية والعسكرية هي الأساس..  ثم تأخذ معالم السيادة العالمية، مواقعها على الأرض، بحيث ظهرت القوة النووية الأمريكية لتكون حارسة الأمن العالمي، وانتشرت القواعد الأمريكية في كل القارات، وأصبح الدولار العملة الأولى المعتمدة في البورصات التجارية والمالية، ومن ثم أصبح النظام الأمريكي ومؤسساته القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة الصناعية الثانية في عصر الرأسمالية.. وكانت وسائله هي البترول والكهرباء وإنتاج السيارات والطائرات..، وأسلحته حاملات الطائرات، والصواريخ النووية.. إلا أن القوة عندما تبلغ  أوجّها، فإن الموازين سوف تختل بما لا يسمح للنظام الأمريكي بالاستمرار..[37]

وجميع الامبراطوريات عبر التاريخ عندما تصل إلى الذرى العالية تكتشف أن البقاء فادح التكاليف وعندها تظهر حتمية النزول، وذلك ما حدث لكل الإمبراطوريات في العالم القديم إلى الإمبراطوريات الأوروبية في العصر الحديث.. وكلها في حالة الصعود استعانت بالقوة، وكلها في اتقاء النزول قاومت بالعنف..[38]

من نافل القول أن عصر الرأسمالية ما زال مستمراً، وأن القوة الغالية في المستقبل هي القوة الصناعية الثالثة والقوة الأمريكية العظمى المتفوقة تحاول الاحتفاظ بسيطرتها العالمية..، إن معركة القرن الواحد والعشرين، ما زالت في بدايتها تختمر في المختبرات ومعامل التكنولوجيا المتطورة، وتتبلور في مراكز البحث والدراسات المستقبلية.. وأروقة صناعة السياسات في أفق تشكيل نظام عالمي متعدد..

إن النظم تنشأ وتظهر وتنمو نتيجة عوامل طبيعية في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة، والمال والقوة العسكرية والمؤسسات الدستورية والسياسية والبنى الفكرية والثقافية وأنماط الحياة وأساليبها..

يجب أن نفرق بين نظام عالمي جديد وبين الترتيبات الجديدة والظواهر المستحدثة النظام العالمي القديم يحاول تثبيت دوره من أجل تحقيق مصالحه ورغباته مستجيباً للمتغيرات الجارية..[39]

كان القرن العشرون أمريكيا نتيجة السيطرة على البترول، كان البترول المحرك للقوة الأمريكية التي برزت في نهاية القرن التاسع عشر وبلغت أوجّها عند منتصف القرن العشرين.

أصبح البترول سلعة حيوية في التنظيم والحرب ضامن للنصر وقت الحرب وصانع السلام وقت الرخاء..

فإدارة شؤون البترول في 90% منها سياسية.

الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تولّت إدارة شؤون البترول وتصرفت فيها خارج قيود القانون الدولي..

فالشركات الأمريكية تعاملت في المنطقة كأنها دول، لأن وراءها القوة الأمريكية المدبرة لشؤون العالم..، والقوة المستهلكة لأكثر قدر منه في زمن السلم أو الحرب..

وكانت تتصرف إزاء هذا الوضع على كل الجبهات السياسية والاستراتيجية بنفس الدرجة، وكذلك على الجبهة العلمية التكنولوجية..

كان الكنز محصناً بوسائل التفكير والتخطيط والتنفيذ، بمنطاق من حديد يحيط به ويحميه..، إلى درجة تحول دون الاقتراب منه..[40]

الولايات المتحدة هي القوة الأولى التي اكتشفت البترول وطوعته للإنتاج، وسادت في أسواقه.. واعتمدته لبسط نفوذها وسيطرتها العالمية، مما جعلها تملك الإرادة والجاهزية لحمايته.. ومن طبائع الصراعات التاريخية، أن تقاس بحجم التحديات التي تواجهها.. ويتجلى التحدي في ظهور خصم أو منافس، قادر على فرض إرادته على القوة الغالبة، ودفعها إلى التراجع والتنازل، والقبول بقواعد جديدة تعيد صياغة موازين القوى، وتؤسس لنظام عالمي جديد.

ولا يمكن بأي حال فهم الصراعات الجارية في العالم إلا في إطار عريض لتصور العلاقات بين الشمال والجنوب، مع الأخذ في الاعتبار أهمية التاريخ والرهانات على المستقبل..

منذ بداية عقد التسعينات، أصبح سيناريو القطيعة بين الشمال والجنوب لا محيدة عنه..، نظراً لرفض الشمال لأدنى تصحيح في النظام الدولي الذي تسوده اللاعدالة، والتوزيع اللامتكافئ (للثروة) بصورة فاضحة.. كما يرفض الشمال إعادة توزيع السلطة والمصادر (المادية) في العالم، لكي يبقى 20% من سكان العالم يستحوذون على 80% من مقدرات وإمكانيات الكرة الأرضية.. وهذا ما يفسر تمسك الغرب بالوضع الراهن للنظام العالمي الذي يكرس نزعية الانغلاق الإثني (Ethnocentrisme) الرافضة للقيم المختلفة عن القيم الغربية، وذلك بسبب الغطرسة الثقافية..[41]

إن قرونا من الهيمنة الغربية والاستغلال لشعوب العالم باسم “مهمة التحضر” ستؤدي إلى فرض نمط الحياة الغربية..

كما أن الهيمنة الأمريكية أدت إلى دخول العالم عصر “ما بعد الاستعمار” الذي جعلها تتحكم في الحكومات وتوجهها لخدمة مصالحها وسياساتها، مما ييسر لها الاستيلاء على موارد العالم على حساب رفاه وكرامة السواد الأعظم من سكان العالم.. وأيضا الوصول إلى المحيطات وحرية الحركة في الفضاء..[42]

ولا فرق في هذا كله بين الأمن العسكري والأمن الاقتصادي، فكل منهما مندمج في الآخر.. لأن توازن المصالح لا يتحقق في غيبة عن توازن القوى..

وعندما يتعلق الأمر بنظام دولي، اختلت موازينه نتيجة سيطرة القطب الأمريكي وأصبح يحمل بذور انهياره لافتقاده للأنسنة والإنصاف والعدل..

فإن العالم لكي يخرج من مأزق التدهور يبحث عن فكر استراتيجي جديد يتلاءم مع الظروف المتغيرة.. التي تجلت في دوائر الاقتصاد العالمي، تأسيساً على أن السياسة تصنع الاقتصاد بقدر ما يؤثر الاقتصاد في توجيه السياسة..

كما أن صناعات السلاح والفضاء تندرج ضمن التخطيط الاستراتيجي للدول..

في عالم متغير اختلت فيه الموازين على أكثر من صعيد بين الشمال والجنوب، واضطربت فيه الأوضاع، واتسعت فيه الحروب، وتمددت الصراعات التي تهدد الكيانات والمجتمعات بالاندثار..، وبدى النظام الدولي منهك وعاجز، ومعطل الإرادات غير قادر على تدبير الصراعات الجارية، أو قضايا السلم والحرب والتوازنات الاستراتيجية التي تسفر عن احتكاك وصدام بين القطب الأمريكي والقوى الصاعدة والتي تحصدرها الصين..

في ظل هذه التحولات التي تعصف بأركان النظام الدولي، فإن الولايات المتحدة تحاول البحث عن عدو لاستبقاء النظام القديم الذي استهلك أسباب قوته.. في حين تسعى القوى الصاعدة المنافسة لأمريكا على الساحة الدولية ملأ الفراغ وتوسيع دائرة نفوذها ودورها في شؤون العالم..

ذلك أن القوة حين تتراكم يؤدي تراكمها إلى تفاعلات تصنع حقائق جديدة، قادرة على تشكيل عصر بكامله، وضبط إيقاعه..[43]

ـ 8 ـ

 الأبعاد الجيواستراتيجية للصراع على المسرح الدولي

     إن مهمة السياسة إدارة الصراع بالرشد والوعي، وتجنب وقوع المأساة عن طريق الربط بين الإرادة والتاريخ..

لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تفرد القوة الأمريكية لتصبح القوة الأولى في تاريخ العالم تحقق سلطة عالمية.. ومع ذلك تحتفظ أوراسيا بأهميتها الجيوسياسية..، ومن ثم انبثاق قوة أوراسية عدائية ومهيمنة.

مما يعد هاجسا يشغل صناع السياسة، وذلك خشية أن تفقد الولايات المتحدة تفوقها العالمي..[44]

وقد ركّزت السياسة الأمريكية على الجانب الجيوسياسي لكي تخلق حالة توازن قارية مستقرة..

تعتبر أوراسيا (أوروبا وآسيا) رقعة الشطرنج التي يجري حولها الصراع من أجل احتلال المكانة الأولى في العالم.. ويهتم علم الاستراتيجية بإدارة المصالح الجيوسياسية.. وتحديد القوى الفاعلة والمؤثرة في الشؤون العالمية، وتعتبر اليابان قوة بارزة تملك قدرات لممارسة دور سياسي من الدرجة الأولى كقوة اقتصادية..، ومع ذلك تتصرف متحاشية القيام بدور على الساحة الدولية مفضلة العمل تحت المظلة الأمريكية، مما يسمح للولايات المتحدة أن تتفرد بالدور الأمني الاستراتيجي في الشرق الأقصى..، ومن ثم فإن اليابان رغم أنها ليست لاعباً جيوستراتيجي، إلا أنها مؤهلة بإمكانياتها الضخمة أن تصبح أحد اللاعبين الكبار على المسرح الدولي[45].

وتجدر الإشارة إلى فكرة النظام العالمي الجديد فكرة يابانية..، وردت في المقدمة التي كتبها رئيس المؤسسة اليابانية لتقدم البحث العلمي للدراسة التي أصدرتها المؤسسة حول جدول أعمال اليابان في ميدان العلم والتكنولوجيا المتقدمة، وجاء في المقدمة أنه يجب على اليابان أن يهيئ للقرن الجديد وأن يبني برنامجاً جديداً أساسه التعددية الحضارية في جميع المجالات..، وأكّد رئيس المؤسسة أن المعاصرة والحداثة ليست في تقليد الغرب بل في المحافظة على القيم..[46]

فيجب إذن المحافظة على العلاقات الأمريكية اليابانية، لأن نهاية هذا التحالف سيكون مؤشراً على بداية عصر جديد..

وتعتبر الهند قوة إقليمية صاعدة وترى نفسها كلاعب عالمي رئيسي ومنافس الأقوى للصين في جنوب آسيا..

أصبحت الهند قوة نووية للتوازن مع الصين، كما أن لها رؤية استراتيجية الدولي الإقليمي في المحيط الهندي.. إلا أن مطامحها في المرحلة الراهنة تنحاز إلى المصالح الأمريكية في أوراسيا.. وبالتالي لا تشكل مصدر قلق على جيوسياسي للولايات المتحدة بنفس الدرجة التي تمثلها روسيا والصين.

تعد أوكرانيا ساحة جديدة ومهمة على رقعة الشطرنج الأوراسية ومحوراً جيوسياسيا، لأن وجودها كبلد مستقل يساعد على تحويل روسيا، فبدون أوكرانيا تكف روسيا عن أن تكون امبراطورية أوراسية.. بل تصير مجرد امبراطورية أسيوية.. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى صراعات مع الدول الأسيوية الناشئة.. وقد تعارض الصين استعادة روسيا السيطرة على آسيا الوسطى.. نظراً لاهتمامها المتنامي بالدول المستقلة حديثاً..

إن أوكرانيا (بسكانها 52 مليون ومواردها الكبيرة)، إضافة إلى أنها تتيح لروسيا الوصول إلى البحر الأسود..

بذلك تستعيد روسيا دورها كدولة قوية ممتدة في أوروبا وآسيا.. فخسارة أوكرانيا لاستقلالها سينجم عنه عواقب على أوروبا الوسطى محولة بولونيا إلى محور جيوسياسي على الطرف الشرقي لأوروبا المتحدة..[47]

تعد أذربيجان مهمة جيوسياسياً بمواردها الطاقية الكبيرة.. فإذا سيطرف روسيا على الموارد النفطية لأذربيجان، وما قد يترتب عن ذلك من إلغاء استقلال أذربيجان وبنفس حالة أوكرانيا، فإن مستقبل آسيا الوسطى سيتحدد بما يمكن أن تؤول إليه روسيا..

أما تركيا وإيران وهما لاعبان منشغلتان، في تثبيت نفوذهما في منطقة بحر قزوين، وآسيا الوسطى مستغلتان تراجع القوة الروسية.. لذلك يمكن اعتبارهما لاعبين جيوستراتيجيين، كما تعدان في المقام الأول محورين جيوسياسيين مهمين، فتركيا تحفظ استقرار منطقة البحر الأسود.. وتوفر إيران على نحو مشابه مساندة لاستقرار التنوع السياسي الجديد في آسيا الوسطى.

وهي تسيطر على الشريط الساحلي للخليج العربي، بينما يقوم استقلالها عائقاً في وجه أي تهديد روسي طويل الأمد للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج العربي بغض النظر عن العداء بين إيران وأمريكا..

تعد كوريا الجنوبية محوراً جيوسياسياً في الشرق الأقصى، فصلاتها القوية مع الولايات المتحدة مما مكّن الأخيرة من حماية اليابان ومنعها بذلك من أن تصبح قوة عسكرية كبيرة ومستقلة..

إن التغيير المهم في وضع كوريا الجنوبية سيكون عن طريق التوحيد، أو من خلال انتقالها إلى نطاق التوحيد، أو من خلال انتقالها إلى نطاق النفوذ الصيني، الأخذ بالاتساع سيؤدي بالضرورة إلى دراماتيكى في الشرق الأقصى، مغيراً الدور الياباني..[48]

إن القائمة الآنفة لللاعبين الجيواستراتيجي والمحاور الجيوسياسية ترسم صورة النظام عالمي متغير..

إن ظهور الصين كقوة استراتيجية رئيسية، سيجر معه صداماً مع الصين، الأمر الذي قد يؤدي إلى توتر العلاقات اليابانية الأمريكية، وخروج اليابان من مظلة التحالف الأمريكي، مما يعني أن اليابان لا توافق على سياسات الاحتواء التي تنهجها الإدارات الأمريكية.. وقد يكون للصراع مع الصين عواقب جذرية تؤثر على نظرة اليابان لدورها الإقليمي، مما سيؤدي حتماً إلى إنهاء الوجود الأمريكي في الشرق الأقصى..

ومن المحتمل أن يتمخض عن الصدام الصيني الأمريكي إلى انفراط الحلف الثلاثي: الأمريكي الياباني الكوري، مما سيدفع بكوريا إلى التوحد واليابان إلى العسكرة..

إن من تبعات الصراع الصيني الأمريكي دفع أمريكا خارج القارة الأوراسية، مما يهدد مكانتها كقوة عالمية..[49]

أما السيناريو المعتمد والأخطر سيكون قيام ائتلاف مضاد للهيمنة الأمريكية بين الصين وروسيا وربما إيران، وسيكون هناك تغيير جذري في استشراف اليابان لعالم ما بعد الامبراطورية الأمريكية..

أما خيار روسيا الجيوستراتيجي هو أن تمنح درواً في أوروبا الموحدة.. حتى تتجنب الوقوع في العزلة الجيوسياسية الخطيرة..[50]

والخلاصة أن التعددية الجيوسياسية على الأجمال، لن يتم تحقيقها ولا ترسيخها دون تفاهم أمريكا والصين..

وقد يشمل الحوار الاستراتيجي الجاد الهند واليابان، في خطوة ضرورية للاعتراف المتبادل بالمصلحة الاستراتيجية..، وفي توافق يعكس المصالح الجيوسياسية العديدة، لا سيما في شمال شرق آسيا وآسيا الوسطى.. على أمريكا أن لا تدفع الصين إلى أن نقود ائتلافا مناوءا للهيمنة الأمريكية لأن الصين وحدها تمثل قوة الجذب الأساسية لمثل هذا الائتلاف..[51]

ستواجه الامبراطورية الأمريكية في القرن الجديد تحديات كبرى على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، بحيث لن تظل إرادتها غير قابلة للتحدي ودورها غير قابل للمنافسة..

ولا شك أن قيادة العالم نحو عصر جديد مهمة يصعب تحقيقها بالسلاح وحده، أو بسباق فضائي أو نووي ضد طرف منافس..[52]

عندما نمعن النظر فيما يجري أمامنا من متغيرات، سيتبدى لنا بوضوح أن العالم يتجه على المدى المتوسط إلى نهاية العصر الأمريكي، وبداية تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب الحضارية..

وسيشكل المجتمع المبني على المعرفة لب الحضارة الجديدة الذي سيخلف مجتمع ما بعد الثورة الصناعية والمركزية الغربية.. التي تستحوذ على 90% من المصارف الدولية و90% في ميدان البحث العلمي.. وسوف تتسع الفجوة بين الشمال والجنوب، بحيث سينخفض سكان الشمال سنة 2050 إلى 12% من مجمل سكان الكرة الأرضية، ومن غير الممكن أن يستمر استغلال الشمال على كل ذلك في المستقبل..[53]

إن الصراع الجاري في العالم لم يعد حول المشكلة الاقتصادية، بل بالدرجة الأولى حول المشكلة الثقافية والحضارية..، وبالتالي فإن الهيمنة الأمريكية الحضارية على العالم بدأت في الأفول ويستعد العالم إلى ولوج عالم مبني على تعدد الحضارات، ممّا سيتمخض عنه تغيير النظام الدولي.. والانتقال من دائرة الهيمنة الغربية إلى دائرة تسود فيها القيم الحضارية.. الأسيوية والإفريقية والإسلامية..

إن الهدف من النظام الدولي تغيير العالم، مما يعني إلغاء الهيمنة الأمريكية (هيمنة المركز الواحد) الذي جعل الولايات المتحدة الدولة الأولى من حيث الإنتاج والاستهلاك والتبادل..، ولابد من إعادة النظر في هذا النظام الذي يقوم على أولوية الاقتصاد والتحكم في السوق، والسيطرة على دوائر الفكر والعلم والإعلام والاجتماع.. وما دام تصور العالم واحد (Mondialisation du monde)، فإن الوعي بعالمية العالم يتطلب إعادة تشكيل النظام العالمي وتحقيق توازن استراتيجي ونهوض حضاري..

إن أزمة العالم تكمن في هيمنة القطب الأمريكي على الحياة العالمية.. ولن يتغير العالم إلا إذا تغير نظام القطب الواحد الذي تمثل الولايات المتحدة مركزه الأقوى المهيمن على الاقتصاد والسياسة في العالم، وأصبح يهدد التوازنات في المجال الدولي، مما ينعكس على مصائر المجتمعات البشرية..

إن مشكلة الإنسانية لم تتغير فتتجسّد في إحداث تغيير جيوسياسي واستراتيجي يخلص العالم من الهيمنة الأحادية البعد.. إلا أن تغيير العالم في حاجة إلى صياغة مشروع حضاري جديد تقدمه الدوائر الجيوثقافية التكوينية الأصلية للفكر والعمل تقدم إلى الإنسانية رؤية عالمية جديدة يتداخل فيها الروحي والمادي بصورة متزنة خلاّقة..

إن فكرة صياغة مشروع حضاري إنما يطرح في الوقت عينه فكرة صياغة الاستراتيجية الحضارية أداة له وشرطاً لتحقيقه وضماناً للمستقبل..[54]

خاتمة

     إن ما عرضناه من مسائل وأثرناه من إشكالات، كنا نروم من وراءها تجلية ما تنطوي عليه الصراعات الدولية من أبعاد استراتيجية وجيوسياسية وحضارية، وذلك بقصد فهم دوافعها وأهدافها ومآلاتها في المدى المتوسط أو البعيد..

لقد حاولت مقاربة الصراعات من زاوية طبيعتها بغرض تحديد أهدافها.. هل هي جيوسياسية واستراتيجية أم ثقافية وحضارية قيمية..؟

لقد مهّدت الثورة المعلوماتية الرقمية إلى بداية حضارة الموجة الثالثة (ما بعد الصناعية)، بحيث حدثت تغييرات كبرى على كافة المستويات: التكنولوجية والثقافية والاستراتيجية..

لقد كان مفهوم الحرب في عصر الثورة الزراعية يتركز الصراع بين المجتمعات حول فائض الإنتاج الزراعي.. ثم كان الصراع قبل حدث الثورة الفرنسية (1789) صراعاً بين الحُكّام.. وبعد الثورة أصبح الصراع بين الشعوب والدول.. ثم أدى التصنيع إلى تطوير الأسلحة، وإلى تحسين الموانئ والمخزون والاتصالات، مما وسّع دائرة العمليات العسكرية.. فكان هدف الحرب هو تحطيم العدو وإخضاعه..

ومع بداية حضارة الموجة الثالثة، وصل السباق على التسلح إلى أقصى مداه من حيث القدرة التدميرية بما في ذلك السلاح النووي..

وأصبح المطلوب ثورة حقيقية في التفكير العسكري يستجيب لمتطلبات الموجة الثالثة..، فاقتصاد السرعة يقوم على الأدوات الذكية وينتج أسلحة ذكية..، كما أن تكنولوجيا الفضاء أصبح لها دوراً رئيسياً في كل نشاط يؤدي إلى تغيير موازين القوى العسكرية.. وبالتالي فإن من يحكم القمر يهيمن على الفضاء حول الأرض ويتحكم في نظام الأقمار الأرضية.

وتؤكد الدراسات المستقبلية أن العالم يتجه إلى الاعتماد الكامل على التكنولوجيات الجديدة، مما سيترتب عنه ثورة في مجال الاستراتيجيات العسكرية، ويؤدي إلى قلب موازين القوى العسكرية ويدفع بالصراع إلى دائرة المعرفة التنافسية..[55]

تأسيساً على ما سقناه من أدلة وأفكار وطروحات، أردنا من خلالها أن نقدم حقيقة أساسية تلخص استراتيجية الصراعات بين الأمم عبر التاريخ، وتندرج ضمن العلاقة المتشابكة بين الحرب والسياسة من أجل الوصول إلى نظام للسلام يحقق الأمن والمصالح بشكل متوازي ومتوازن.. وذلك وفقاً لجدلية الصراع الأزلية بين الدول والحضارات..

وقد تطرقنا في قراءتنا إلى وجه آخر من أوجه الصراع بين الجماعات البشرية عبر التاريخ، ويتعلق الأمر بصراع “الحضارات” أو “حرب الحضارة”.

يندرج صراع “الحضارات” ضمن صراع القوى، حيث تعلو فيه إرادة القوة الغالبة فوق إرادة القوى المنافسة أو المناوئة بقصد إخضاعها وإجبارها على القبول بشروطها، والتسليم بمطالبها..

أما الحرب الحضارية، فتندرج ضمن مخططات الهيمنة الحضارية نتيجة هيمنة القطب الأحادي الأمريكي على النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي..

تستمد أمريكا قوتها التي تهيمن بها على العالم باعتمادها على احتكار شركاتها والمركبات الصناعية والتجارية والمالية والخدماتية.. جميع النشاطات الحيوية، وتستحوذ على كل القرارات الهامة.. ونتيجة للعولمة التي تكتسح العالم، فإن مراكز القرارات العلمية المؤثرة أصبحت إما في مراكز البورصة والمضاربات المالية، أو في مراكز الإنتاج والتوزيع والتسويق، أو بين أيدي فريق من المديرين والمهندسين وخبراء العلاقات العامة..[56]

لقد مكّنت هذه القدرات الفائقة والإمكانات الهائلة.. الولايات المتحدة أن تصبح الدولة الجبارة (Hyper-Power) والنموذج الأمثل للتقدم.. ولكي تحافظ على هيمنتها العالمية انخرطت في صراعات جيواستراتيجية وحرب حضارية..

لم تعد الحرب صراعاً سياسياً بالدرجة الأولى وحسب، تتداخل فيه السيناريوهات العسكرية والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية..

لقد دخل العالم في الحضارة المبنية على المعرفة.. وستكون أسلحة القرن (21): الأدمغة والعلم والتكنولوجيا والمعرفة..

وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، ستكون الحرب حرب ثقافات وحضارات بين الشمال والجنوب..، وهي حرب بين فكرة التسلط والاستبداد الحضاري، وبين فكرة الاختلاف والتعدد..

إن خطر الاستغلال الغربي لدول الجنوب.. خطر حضاري من شأنه الحد من هيمنة الحضارة الغربية..[57] وإن أكبر تحديات المستقبل هو بناء نظام عالمي مبني على احترام الحضارات..

إن فهم حقيقة الصراع الحضاري كامنة في دور القيم الثقافية والحضارية في البناء العقلاني، والتخصيب الخلاق..

فليس هناك بداهة إبداع بالتقليد، وليس هناك بحث علمي بالتقليد..[58]

وليس هناك حضارة بالتقليد، فالدعوة إلى التنوع الثقافي والحضاري تشكل رهانا في المجابهة بين شمولية القيم الحضارية وبين المركزية الإثنية الغربية الهادفة إلى ترسيخ نظام حضاري عالمي أحادي البعد للهيمنة على العالم .

إن السجالات الدائرة حول مشروع نظام عالمي جديد تشهد على مكانة ثقافة في عادة تصور استراتيجيات قوة، في عالم أخذ بالتشكل والتبلور ضمن جدلية التثاقف والمساواة، والموازنة بين استراتيجي والجيوسياسي في عالم متغير.

_____________________________________________________________________________________________________________

[1] – أحمد بابانا العلوي: فصول في الفكر والسياسة والاجتماع. منشورات أبي رقراق، ط 1/2008. ص .37.

[2] – جاسم سلطان: جيوبولتيك عندما تتحدث الجغرافيا (نشر تمكين الأبحاث) ط 1/2013. ص. 28.

[3] – نفس المصدر، ص 47.

[4] – نفس المصدر، ص 86-87.

[5] – فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 38-39.

[6] – المصدر السابق، ص 43.

[7] – المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى، المركز الثقافي العربي. ط 9/2014، ص 21.

[8] – المصدر السابق، ص 49/52.

[9] – المصدر السابق، ص 81.

[10] – الشرق والغرب رينه جينو، ترجمة أسامة شفيع السيد. ط2/2020. مدارات الأبحاث، القاهرة، ص 21.

[11] – المهدي المنجرة: في عهد الميغا إمبريالية، المركز الثقافي العربي، ط 5/2007، ص 15.

[12] – نفس المصدر، ص 45.

[13] – نفس المصدر، ص 57-58.

[14] – نفس المصدر، ص 99.

[15] – نفس المصدر، ص 98. انظر أيضا أنور عبد المالك تغيير العالم، ص 69/70.

[16] – الحرب الحضارية الأولى، ص 95.

[17] – ألبرت سفايتزر: فلسفة الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوى، دار الأندلس، ط 2، 1980، ص 4.

[18] – نفس المصدر، ص 5.

[19] – انظر مقال محمد العربي الخطابي: الثقافة لغة وفكرة وتنظيماً، مجلة المناهل، عدد 3، سنة 1975. (ص 19/39).

[20] – فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 44.

[21] – مجلة دراسات عربية عدد 4 السنة العشرون فبراير 1984. انظر مقال محمد علي كبسي (الثقافة بين أشكال التجانس والتمايز)، ص 32.

[22] – محمد عبد الله عنان: ابن خلدون حياته وأثره الفكري، مؤسسة المختار، القاهرة، ص 109.

[23] – مالك بن نبي: شروط النهضة، ط – 2018، ص 10/14.

[24] – أنور عبد المالك: من أجل استراتيجية حضارية، مكتبة الشروق الدولية، ط 1/2005، ص 14.

[25] – المصدر السابق، ص 256.

[26] – المصدر السابق، ص 253/254.

[27] – المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى، مصدر سبق ذكره، ص 78-79.

[28] – الحرب الحضارية الأولى، ص 4.

[29] – المهدي المنجرة: في عهد الميغا أمبريالية، المركز الثقافي العربي، ط 5، 2007، ص 102.

[30] – المهدي المنجرة: في زمن الذلقراطية، ط 1، 2001، ص 89.

[31] – الحرب الحضارية الأولى، ص 4.

[32] – المصدر نفسه، ص 14.

[33] – نفس المصدر، ص 21.

[34] – نفس المصدر، ص 114.

[35] – في زمن الذلقراطية، ص 102.

[36] – محمد حسين هيكل: حرب الخليج أوهام القوة والنصر. ط1/1992، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مؤسسة الأهرام، ص 52.

[37] – نفس المصدر، ص 53.

[38] – محمد حسين: هيكل الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق، ط 7، 2007، ص 11.

[39] – حرب الخليج، ص 56.

[40] – المصدر السابق، ص 202.

[41] – الحرب الحضارية الأولى، ص 21/22.

[42] – نفس المصدر، ص 29.

[43] – حرب الخليج، ص 606.

[44] – زييعينو بريجنسكي: لعبة الشطرنج العظمى، ترجمة سليم براهام، دار علاء الدين، ط 4، 2008، ص 7.

[45] – نفس المصدر، ص 54.

[46] – الحرب الحضارية الأولى، ص 12/13.

[47] – بريجنسكي: لعبة الشطرنج، ص 55.

[48] – نفس المصدر، ص 57.

[49] – نفس المصدر، ص 63/64.

[50] – نفس المصدر، ص 132.

[51] – نفس المصدر، ص 229/230.

[52] – الامبراطورية الأمريكية، ص 118.

[53] – الحرب الحضارية الأولى، ص 36.

[54] – د/ أنور عبد الملك: تغيير العالم، سلسلة عالم الفكر الكويتية (عدد 95) نوفمبر 1985/ ص 254-255.

[55] – فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 44/45.

[56] – نفس المصدر، ص 34/35.

[57] – الحرب الحضارية، ص 78/79.

[58] – المصدر السابق، ص 114.

Visited 2 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

د. أحمد بابانا العلوي

كاتب وباحث مغربي